نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

13 يوليو 2020

د. بشاير الماجد

أطلق المتخصص في علم الاجتماع إدوين ساذيرلاند مصطلح «جرائم الياقات البيضاء» لأول مرة عام ١٩٣٩ في نظريته، وما يحدث حالياً في الكويت من جرائم متتابعة يكون المتهمون الرئيسيون فيها أشخاصا ذوي نفوذ وقوة في المجتمع، فيتم التحقيق معهم على اثر اتهامات لجرائم متعلّقة باستغلال النفوذ والمكانة الاجتماعية لتحقيق تكسب مادي غير مشروع.. كل ذلك يندرج تحت لواء هذا النوع من الجرائم.

جاءت نظرية ساذيرلاند لتعرّف مجرمي الياقات البيضاء بأنهم ذوو دوافع إجرامية مختلفة عن بقية المجرمين، فغالباً ما يكون مجرمو الياقات البيضاء أثرياء أصلاً وليسوا بحاجة ماسة إلى المال، وبخلاف جرائم الاختلاس وغسل الأموال التي تتم من قبل أفراد عاديين لا يمتلكون مكانة مرموقة في المجتمع أو نفوذا كبيرا ولا تُصنف بأنها جرائم ياقات بيضاء بحسب نظريته، بل هي جرائم غسل أموال عامة، فأصحاب النفوذ الذين يستغلون الاسم العائلي والمركز الاجتماعي للوصول إلى أهداف غير مشروعه لتمييزهم عن غيرهم هم من يطلق عليهم «مجرمو الياقات البيضاء».

وللأسف نادراً ما نرى مثل هؤلاء المجرمين في السجن، وذلك لأسباب عدة أهمها:

1- قدرتهم على حمايه أنفسهم من خلال نفوذهم العائلي والاقتصادي والسياسي.

2- ترك حلقة مفقودة في دورة غسل الأموال لا يمكن تعقبها، وذلك وفقاً لما ذكره دايفيد ويسبيرد في كتابه «White-Collar Crime Reconsidered».

ويمكننا القول إن جرائم الياقات البيضاء هي جرائم تهدف إلى التكسب المادي السريع والضخم وغير المشروع باستغلال السلطة والنفوذ من دون أي مظاهر العنف في أغلبية الأحيان.

وتتضمن هذه الجرائم تحريفا في طريقة كسب أموال الشركات وتحريفا في مصدر الدخل وذلك لطمس حقيقة أصل ومنشأ الأموال والنشاط الذي أتت منه، وغالبا ما ترتبط هذه الجرائم بسلسلة محكمة من الجرائم المتتالية الأخرى التي تتخذ من ترويج الفرص والأنشطة الاستثمارية الوهمية والاحتيالية غطاء لها بهدف خداع المجتمع وحجب مصدر النشاط الأصلي، وغالبا ما تكون بطريقة الاحتيال الكلاسيكية التي يتم فيها الخداع، والتي تتمحور في المبالغة في العائدات المحتملة في نشاط معين وتصوير المخاطر بأنها ضئيلة جداً أو غير موجودة.

3 مراحل لـ«غسل الأموال» ولجرائم غسل الأموال آثارها المدمرة على الاقتصاد، فعند حدوث مثل هذه الجرائم، يفقد المجتمع أموالاً على مراحل عدة: ففي المرحلة الأولى من مرحلة غسل الأموال، وتسمى مرحلة الإيداع، وهي المرحلة التي يُتخلّص فيها من كميّات كبيرة جداً من الأموال غيرالشرعية من خلال إيداعها في بعض البنوك، أو إيداعها في بعض المؤسّسات المالية الخاصّة، أو استبدالها بإحدى العملات الأجنبيّة، فتفقد الدولة هذه الأموال من الناتج القومي.

أما المرحلة الثانية فتتمثل بالتمويه، وهي مرحلة التجميع يتم فيها ادخال الأموال في النظام المصرفي بصورة مشروعة، ثم يتم الفصل وتفريق الأموال وإبعادها عن مصادرها غير الشرعية، من خلال تكثيف العمليات المصرفية المعقّدة لتصبح كأنها عمليات قانونية لتعقيد الأمر وتصعيب مهمّة البحث والتنقيب وراء مصدر هذه الأموال من قبل الجهات الحكومية والرقابية ووحدة التحريات المالية،

وصورة من صور هذه العمليات أيضا هي التكرارالمستمر لذات العمليات المالية ولذات المبالغ لبنوك مختلفة ودول مختلفة بالتحويل الإلكتروني، والسبب أن التحويل الإلكتروني العابر للقارات يصعب تتبعه، كما يتم أيضاً استغلال القوانين الصارمة مثل General Data Protection Regulations (GDPR) ‎ التي تحضر الكشف عن سرية المعلومات، والتي قد تتعارض بشكل أو بآخر مع Money Laundering Regulations (Statutory Instrument 2017/692) والالتفاف عليها والاتجاه إلى «الملاذ المصرفي الآمن»، وهي البنوك التي تتبنى سياسات مصرفية صارمة جداً في خصوصية عملائها بعدم الكشف عن أي معلومات حتى لو تمت مخاطبتها من الحكومات لحمايتهم من كشف هوية عملائها.

المرحلة الثالثة والنهائية هي مرحلة الدمج، حيث تبدأ مهمة ضم هذه الأموال في الدورة الاقتصادية، وفي النظام المصرفي الشرعي، بحيث تبدو هذه النقود كأنّها أموال شرعية طبيعيّة، وعائدات لصفقات تجارية سليمة، والتي غالبا ما تكون تأسيس شركات وهمية أو اصدار فواتير وصكوك مزوّرة تتم بها المصادقة على شرعيّة هذه الأموال.

ففي كل مرحلة من هذه المراحل يفقد الاقتصاد القومي من قيمته المضافة بقيمة المبلغ المغسول، أضف إلى ذلك اتباع خدعة أخرى وهي نشر الأنشطة التجارية القانونية الشرعية، (والتي لا يحتاجها الاقتصاد الوطني)، ولكن هدفها توفير منتجات رخيصة نسبياً، وكون هذه الأنشطة لا تهتم بالتكلفة أو الربحية بتاتا، بل هدفها الرئيسي هو التغطية على نشاط غير مشروع، فتتسبب بضرب الشركات والأنشطة الوطنية الشرعية، التي تقوم بالتسعير على أساس تكلفتها الحقيقية، وبالتالي ضرب الاقتصاد، خصوصاً إذا ما استمرت هذه الأنشطة الوهمية في مزاولة نشاطها لمدة طويلة، مما يؤثر على أي خطة تنموية مستقبلية.

التكلفة الحقيقية في حقيقة الأمر، عند احتساب تكلفة جرائم الياقات البيضاء يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ليس فقط تكلفة جريمة غسل الأموال، بل أيضا تكلفة التدابير الاحترازية القانونية المتخذة لتجنبها، مثل عدم التعامل مع بعض الشركات التي قد تكون شرعية، ولكن تتحمل الشركة خسارة عدم التعاقد معها، وذلك لأنها فقط وقعت في دائرة الشبهات، إضافة إلى بعض العملاء المهمين الذين قد تضطر البنوك أو الشركات إلى وقف التعامل معهم، حيث إن التدابير الاحترازية القانونية تكلف الاقتصاد ما تكلفه الجريمة ذاتها في بعض الأحيان.

والجدير ذكره أن أغلب جرائم الياقات البيضاء حول العالم لا ينتهي بها المطاف إلى أيدي العدالة، حيث تشير إحصائية كتاب «White- Collar -crime in the shadoweconomy»، أن %59 من جرائم الياقات البيضاء لا يتم اكتشافها إطلاقا أو الإبلاغ عنها.

و%41 التي يتم اكتشافها تقسم إلى %19 لا يتم التحقيق فيها جديا، و%8 يكسبون في محاكمتهم و%5 هي فقط نسبة الذين تتم إدانتهم. ولا شك ان ما يحدث في الكويت حالياً يندرج تحت مسمى جرائم الياقات البيضاء بكل ما تعنيه الكلمة، وسيدفع ثمنها المجتمع الكويتي والأجيال القادمة.

آفة خطيرة على الاقتصاد جرائم الياقات البيضاء، آفة خفية لها أثارها الكبيرة على اقتصاد الدول وتضربه بصورة مباشرة ولكن غير معروفة، حتى بعد أن يتم اكتشافها غالبا ما تبقى الأرقام والإحصائيات تقريبية وغير دقيقة فمن شبه المستحيل معرفة حجم التأثير الحقيقي على الاقتصاد من دون معرفة حلقة دوران الأموال المغسولة كاملة من أين تبدأ وأين تنتهي؟ فمن السهل حساب ومعرفة حجم العجز المالي، وحجم خسائر نزول سعر النفط، ولكن ليس من السهل أبدا ًمعرفة حجم الأموال التي غسلت.

ووفقا لتقارير الأمم المتحدة، فإن اجمالي الجرائم العالمية لغسل الأموال فقط وصلت لمؤشر خطير، حيث بلغت اكثر من تريليوني دولار سنويا أي ما يقارب %5 من الناتج العالمي الإجمالي. تأثيرها في العوائد الضريبية في أوروبا على سبيل المثال تزيد عمليات غسل الأموال نسب الضرائب الحكومية، وذلك بسبب أن أنشطة الأموال المغسولة لا تخضع للضرائب في أغلب الأحوال، وبالتالي لا عوائد ضريبية عليها، لذا تضطر الحكومات الى رفع نسب الضرائب لزيادة العائدات فتتضرر بشكل غير مباشر الطبقة العاملة «دافعو الضرائب الحقيقيون».

هذا وقد أعلنت المفوضية الأوروبية الشهر الماضي عن رؤية شاملة لمواصلة تعزيز مكافحة الاتحاد الأوروبي لغسل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث نشرت خطة عمل طموحة ومتعددة الأوجه، تحدد إجراءات ملموسة ستتخذها المفوضية على مدى الاثني عشر شهرًا المقبلة لتحسين تطبيق قواعد الاتحاد الأوروبي بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والإشراف عليها وتنسيقها. والهدف من هذا النهج الجديد الشامل هو سد أي ثغرات متبقية وإزالة أي روابط ضعيفة في قواعد الاتحاد الأوروبي.

3 انعكاسات سلبية تتعدد الآثار السلبية لجرائم ذوي الياقات البيضاء على الشكل التالي:

1- انتشار البطالة وزيادة معدلات الفقر.

2- فقد المجتمع ثقته ببعض الشخصيات التي تتبوأ مناصب مهمة.

3- إحداث زعزعة وعدم استقرار وحالة من الغضب والسخط في المجتمع.

د. بشاير الماجد أستاذة القانون في جامعة الكويت


dr.bashayer@alqabas.com

للمزيد: https://alqabas.com/article/5786513