اعداد قسم التحرير


تمتاز الشريعة الإسلامية باختزانها لقدرة التحرك التشريعي، مما يجعلها قادرة على مواكبة التغيّرات الزمانية والمكانية التي تطرأ، وبشكل بديهي، على الفرد والمجتمع.

وقد أنيط أمر الكشف عن هذه القدرة بمجموعة من الأشخاص المختصين في أمور التشريع الإسلامي هم "الفقهاء" الذين يتمتعون بقدرة استخراج الأحكام من نصوصها الشرعية، بأدلة وأساليب خاصة، وهذا ما اصطلح على تسميته "الاجتهاد".

أما القضايا التي تخضع لهذا "التحرك التشريعي" فهي ما يمكن أن نطلق عليه أسم "القضايا الممتدة"، أي القضايا التي تطول دراستها وتمتد عبر عصور طويلة وتبقى قابلة، في ذاتها لإعطاء حكم شرعي جديد فيها، وذلك بعد تغيّر تفاصيلها وزوال عللها الأولى، فمثلاً يمكن أن تكون قضية ما محرّمة، في العصور السابقة، ثم يتغيّر الحكم فيها إلى الحلية، بعد زوال علّة تحريمها. ويمكن أن تكون قضية ما محللة ثم تحرم لدخول علة، فيها، تستدعي ذلك.

إن هذا الأمر يعود إلى بساطة أحكام الشريعة الإسلامية، وقربها من الإنسان، والسعي لجعلها في متناول الفرد العادي مهما كانت ثقافته، وقد أشار الرسول الأعظم(ص) إلى هذا الأمر أوضح إشارة عندما قال: "إنّا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم".

إنّ الأمثلة على ذلك أكثر من تحصى الآن لكن هذه بعضها كنماذج:

1 ـ ما ورد في أمر تشريح الجثث والتعرّض لها بعد الموت من نهي حتى قال رسول الله(ص): "كسر عظم الإنسان ميتاً ككسره حياً"، أو: "إن الله حرّم المثلة ولو بالكلب العقور". وهذه الأحاديث واضحة في حرمة التعرض لجثث الموتى، أما في العصر الحاضر فقد صار للتشريح منافع جمة، لعلّ أبرزها التقدّم الطبي الكبير. وهكذا تحول التعرض للجثث من "مثلة" إلى "فوائد طبية". لذلك لم يرَ الفقهاء بأساً في الإفتاء بجواز هذا الأمر لغرض عقلائي فيه منفعة.

2ـ في الآية الكريمة{والأنعام خلقها... وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس... والخيل والحمير لتركبوها} دلالة واضحة على تسخير الله وسائل نقل للإنسان لتأمين راحته ومتطلبات حياته، ولكن الآية ذكرت الانعام والخيل والحمير كونها وسائل النقل المعروفة في عصر صدور النص، فهل هذه دلالة على عدم جواز اعتماد وسائل النقل الحديثة كما اعتقدت بعض الفرق.

3ـ في موضوع تحديد اتجاه القبلة وردت عدة روايات تستدل عليها بأمور منها الشمس ونجم الجدي... وغيره ولكنها لم تحدد البوصلة الحديثة كإحدى وسائل هذا الأمر، فهل لا يجوز الاعتماد عليها؟ نظن بأن الفقهاء متفقين على أن هذا الأمر لا بأس به أبداً بل ربما كان أرجح من غيره.

إن الأمثلة على القضايا الممتدة تطول لكن ما يهمنا منها هو موضوع إثبات أوائل الشهور القمرية عموماً وهلالي شهر رمضان وشهر شوال خصوصاً لما لهما من أهمية في حياة المسلمين بعد أن خص الله سبحانه وتعالى شهر رمضان بخصوصيات عظيمة دون سائر الشهور فهو الشهر الذي أوجب ـ سبحانه ـ صيامه على المؤمنين، وعظّمه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر والتي نزل فيها القرآن الكريم ليهدي البشرية وينير طريقها لما فيه صلاح أمرها، ويختتم هذا الشهر العظيم بعيد الفطر الذي حُرِّم صيامه على المؤمنين. ولأهمية شهر رمضان الاستثنائية فقد حازت مسألة إثبات بدايته ونهايته على الأهمية أيضاً، وكثر الأخذ والرد فيها حتى أُلّفت الكتب لتحديد وسائل إثباتها وجعل المسلمين يتوحدون على هذا الشهر العظيم.

وفي عصرنا وبعد التطور الذي أحرزه العلم باختصاصاته المختلفة وخاصة علم الفلك الذي تحول إلى أكثر العلوم حداثة وتتسابق في ميادينه أكبر الدول بأعلى الميزانيات وأحدث الأجهزة، فقد دار الحديث عن إمكانية الاستفادة من الأبحاث والأرصاد الفلكية في سبيل إثبات الشهور القمرية وخصوصاً في شهر رمضان المبارك، رفعاً لأحد مظاهر التشتت في المجتمع الإسلامي.

ويعد سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله ـ دام ظله ـ أحد أهم العلماء الذين يتبنون هذه الدعوة بقوة، ولم يكتف سماحته بذلك، بل حوّل ذلك الرأي عن "رأي نظري" إلى مجال "التطبيق العملي" حيث يدأب منذ سنوات على إعلان أوائل الشهور استناداً إلى الحسابات الفلكية الدقيقة والموثوقة.

وهنا سنعرض لبعض ما يستند عليه هذا الرأي من حجج وأدلة وننقل آراءً لمجموعة من العلماء الأعلام _ أعلى الله مقامهم ـ تتوافق مع هذا الرأي.

أولاً: يستند هذا الرأي على أن الرؤية في الأحاديث الشريفة هي عبارة عن تحصيل العلم بوجود الهلال المرئي دون أن يكون للرؤية البصرية أية خصوصية، أي أنها وسيلة وليست غاية فلذا لو حصّل الإنسان العلم بأية طريقة للزم عليها العمل طبق هذا العلم، وهذا الأمر اصطلح العلماء عليه بالقول: "الرؤية مأخوذة على الوجهة الطريقية لا الموضوعية". ويقولون أن الرؤية(البصرية) إنما ذكرت في الأحاديث الشريفة كونها وسيلة العلم الوحيدة المتوفرة في زمن صدور النص أي العصر الإسلامي الأوّل، ومن أدلتهم في ذلك:

1 ـ المعنى اللغوي للرؤية: يلاحظ المراجع لمعاجم اللغة وما كتبت، أنها اتفقت على كون الرؤية هي الإدرك بالعين أو الإدراك بالعقل. ومنها مثلاً:

ـ لسان العرب: "رأى :الرؤية بالعين تتعدى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين... وقال ابن سيده: الرؤية: النظر بالعين والقلب" (ج:14، ص:291).

ـ أقرب الموارد: "رأى : نظر بالعين والقلب... الرؤية: النظر بالعين وبالقلب...". (ج:1، ص:379 ـ380).

ـ القاموس المحيط: "الرؤية النظر بالعين وبالقلب.."(ج:4، ص:333).

2ـ المعنى العرفي للرؤية: إن العرف لا يرى الرؤية إلاّ كوسيلة من وسائل المعرفة، وسبيلاً لتحصيل العلم، فمثلاً لو قال القائد لجنوده: "عند رؤية الصهيوني اقتلوه"... أو: "من رأى منكم صهيوناً فليقتله".. ولو شاهد المقاوم آلية معادية تتحرك نحوه فعلم أن فيها جنوداً صهاينة، أو لنفترض أنه علم بإحدى الطرق بأن الصهاينة سيكمنون ليلاً في مكان معيّن... فهل يصح للمقاوم بنظر العرف عدم قتل الصهاينة في هذه الأحوال بحجة أنه لم يرهم رؤية بصرية؟ طبعاً لا وإلاّ عُدّ في عرف العقلاء مخطئاً يستحق العقاب".

3ـ الهلال ظاهرة كونية: والشهور أمور تكوينية والرؤية كاشف عن هذه الرؤية ولا دخالة لها بتحقّقها.

4ـ اعتبار البينة: لو كانت الرؤية موضوعاً للهلال لما صح اعتبار البيّنة بدلاً منها.

5ـ عد الثلاثين: إذا لم تتيسّر الرؤية والبينة حيث أن ذلك يوجب العلم بخروج شهر ودخول شهر، لأن الهلال ظاهرة كونية، تنحصر أيامه بين 29 و30 يوماً.

6ـ توافق العلماء: على أنه إذا رؤى الهلال في بلد فإنه يحكم بثبوت الهلال في كل البلاد القريبة من ذلك البلد أو الواقعة إلى الغرب منه وإن لم تتحقق الرؤية فعلياً في تلك البلاد.

... والأدلة قد تطول لكن ما نستطيع استنتاجه أن الرؤية مأخوذة في الأحاديث الشريفة على الوجهة الطريقية لا الموضوعية، والعبرة هي بتحصيل المكلف الاطمئنان والعلم بان الهلال موجود في الأفق بصورة يمكن رؤيته فيها، ولا ضرورة لتحقق الرؤية بالعين فعلياً. وقد اختار طريقية الرؤية عدد كبير من العلماء والأعلام ومنهم: العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله في (فقه الشريعة)، الإمام الخوئي (في رسالته إلى الطهراني)، الشهيد محمد باقر الصدر (في الفتاوى الواضحة)، الشهيد محمد صادق الصدر (في موسوعة: ما وراء الفقه)، السيد السيستاني(في عدة استفتاءات)، الشيخ محمد اسحاق الفياض (في رسالة: منهاج الصالحين)، الشيخ محمد تقي الآملي(في: مصباح الهدى)، العلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي (في موسوعة: مبادىء علم الفقه)، العلامة الأستاذ جعفر السبحاني (الصوم في الشريعة الإسلامية الغرّاء)، السيد المرعشي النجفي (في: الغابة القصوى)، الشيخ الخزعلي (مجلة: فقه أهل البيت(ع) عدد 11_12)، الشيخ محمد جواد مغنية (في: فقه الإمام الصادق(ع)... الخ.

ومنهم صاحب العروة الوثقى السيد اليزدي، ومنهم أيضاً السيد موسى الصدر الذي لخص القضية في عبارة بليغة حين قال: "الرؤية تكون بالعقل والمشاهدة تكون بالعين".

ثانيا: يرى أصحاب هذا الرأي أن الأحاديث الشريفة جاءت تقول: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، وليس بالرأي وبالتظني، ولكن بالرؤية" أي أنها حصرت الإثبات بـ "الرؤية" في مقابل "الرأي والتظني" أي حصرتها بـ "العلم" في مقابل "كل ما لا يحصل منه العلم" أما في عصرنا فقد استطاعت الأرصاد والحسابات الفلكية أن تصل إلى مستوى يحقق لنا العلم، فلذلك لا محذور من اتباعها.

يقول الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر في موسوعته ما وراء الفقه، ج:2، ص:163، ما يلي: "المهم في نظر الإمام(ع) هو عدم الاعتماد على الشك فما دام الشك متحققاً في حسابات الفلكيين [القدماء] لم يكن للناس اتباعهم بطبيعة الحال. وإنما يجب الاعتماد على الرؤية فإذا فهمنا من الرؤية بعد التجريد من الخصوصية: العلم بوجود الهلال بالحجم المرئي. كان هذا العلم حجة مهما كان مصدره. ولا معنى للنهي عن العلم كما ثبت في علم الأصول".

ثالثاً: ترى هذه الفئة من العلماء أن ما نهت الأحاديث الشريفة عن اتباعه هو علم التنجيم وليس علم الفلك والفرق بينهما واضح ولا يخفى على اللبيب. ففي قاموس: "المنجد في اللغة العربية المعاصرة" نجد تعريف علم الفلك بأنه "علم يبحث في الأجرام السماوية من حيث تكوينهما ومواقعها وقوانين سيرها". أمّا "التنجيم" فيعرفه هذا القاموس بأنه علم يبحث في تأثير حركات النجوم على مجرى الأحداث، ويستخلص منها تنبؤات مستقبلية ذات تأثير مزعوم على حياة الناس وطباعهم".

ولأن علم الفلك القديم، في العصر الإسلامي الأول، كان مشوباً ومختلطاً بالتنجيم وبأفعال المنجمين الذين يدّعون معرفة الغيب وقدرة التأثير على الناس فقد ورد النهي عنه بأشد العبارات حتى قال النبي(ص): "من صدّق كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أُنزِل على محمد(ص)..".

وقد أشار إلى الفارق بين علم الفلك القديم وعلم الفلك الحديث عدد من العلماء، منهم الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي حين قال: "مع العلم أن ما نهت عنه النصوص الشرعية ليس هو هذا الحساب الحديث لأنه لم يكن معهوداً بحداثته وقت صدور النص، وإنما الذي نهت عنه هو حساب النجوم أو علم التنجيم أو حساب التقاويم، وهما غير الحساب الفلكي الآلي الحديث" (مبادىء علم الفقه، ج:2، ص:57)، ومنهم أيضاً الفقيه الشيخ جعفر السبحاني إذ قال: "إن علم النجوم في مصطلح القدماء هو العلم بآثار حلول الكواكب في البروج والدرجات... وأما علم النجوم في مصطلح اليوم فهو عبارة عن حساب حركة الشمس والإخبار عن أوائل الشهور الرومية والفارسية ورصد حركات القمر وما شابه ذلك، فأين هذا المعنى من علم النجوم بالنسبة إلى المعنى السابق؟" (الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء، ج:2، ص:98ـ99).

وإلى جانب النهي الشديد عن "التنجيم" فقد حضّ الشرع الإسلامي على التفكر والاطلاع علىعالم السموات وما فيه من عجائب الخلق، وبديع الصنع، حتى صار علم الفلك أحد المداخل للإيمان بالله سبحانه، وقد أشار المحقق الكركي(قده) إلى هذا المعنى حين قال: "...إذا تقرر هذا فاعلم أن التنجيم مع اعتقاد أن للنجوم تأثيراً في الموجودات السفلية، ولو على جهة المدخلية حرام، وكذا تعلم النجوم على هذا الوجه، بل هذا الاعتقاد كفر في نفسه، نعوذ بالله منه... وأما علم الهيئة [علم الفلك] فلا كراهية فيه، بل ربما كان مستحباً، لما فيه من الاطلاع على عظم قدرة الله تعالى..." (جامع المقاصد، ج:4، ص:31ـ32).

رابعاً: يستند هذا الرأي إلى كون الأبحاث الفلكية مستفاد منها في عدد من مجالات التشريع الإسلامي. ويسألون: ما الدليل على حجية الأرصاد والأبحاث الفلكية، في هذه المجالات، وعدم حجيتها في إثبات الهلال؟ ولماذا يحصّل الفقهاء العلم من عام الفلك في هذه المجالات، ولا يحصلونه في إثبات الهلال؟ مع العلم أن الأبحاث الفلكية هي من وادٍ واحد.

وقد يطول الحديث عن كل هذه المجالات وأقوال العلماء في جواز ذلك، ولكننا نكتفي بإيراد ما كتبه العلامة الفقيه الشيخ جعفر السبحاني عن علم الفلك الحديث إذ قال: "وهو علم ذو قواعد رصينة مبنية على حسابات رياضية قلّما تخطىء، ولذلك نأخذ بها في تعيين وقت الخسوف والكسوف ودخول الأوقات ومحاذاة القبلة والعرض الجغرافي للبلد وطوله.. (الصوم في الشريعة، ج:2، ص:99).

خامساً: يستند هذا الرأي على ما يمكن أن تقع فيه العين من أخطاء، وما يصيبها من خدع وأوهام بصرية، وخاصة في عصرنا الحديث وما أصاب الأجواء من تلوّث بالغبار والدخان، وما يجول في السماء من أقمار صناعية ومركبات فضائية وطائرات ومناطيد وغيرها، دون أن ننسى الإشارة إلى العوامل الطبيعية والفيزيائية وحتى البيولوجية والنفسية. وهذه الأخيرة هي الأهم إذ "أن أكثر حالات خداع البصر تعتمد كلياً على أننا لا نكتفي بالنظر إلى الأشياء فقط، بل ونحكم عليها بلا وعي، وهكذا ندفع أنفسنا إلى ارتكاب الخطأ بصورة لا إرادية" (الفيزياء المسلية، ج:2، ص:285).

وقد اشارت الأبحاث والدراسات العلمية إلى تلك الظاهرة وأفاضت في التعرض لها وفي دراسة أسبابها، كذلك وردت إشارات إليها في كتب السّيَر، وفي القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ففي المجال العلمي هناك عدد كبير في الأمثلة والتي لا مجال لحصرها هنا، ومنها مثلاً مشاهدات الصحون الطائرة التي خضعت لدراسات علمية تمت على 13،000 حالة وظهر أن 90% من هذه الحالات، أي 11700حالة، هي ظواهر صناعية أو طبيعية أو تأثيرات آنية في العين (مجلة "العلم والتكنولوجيا"، عدد:20، نيسان1990، الإنسان الحائر بين العلم والخرافة، ص:218).

أما في القرآن الكريم فقد وردت عدة آيات تتحدث عن هذه الظاهرة ومنها مثلاً: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً}، ففي هذه الآية إشارة إلى حسبان ظاهرة السراب الفيزيائية ماءً عند المشاهد بسبب وضعه النفسي المتأثر بالعطش، ولذلك لم تعبر الآية مثلاً بالقول: يحسبه الرجل أو المرء... وهذه إحدى دلائل إعجاز وبلاغة النص القرآني.

وفي السنّة الشريفة ورد حديث عن الإمام علي(ع) في نهج البلاغة أشار إلى هذه الظاهرة بطريقة بليغة معبرة إذ قال(ع): "ليست الرؤية كالمعاينة مع الإبصار، فقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه".

قال ابن أبي الحديد في شرح هذا القول: "وقد ذهب أكابر الحكماء إلى أن اليقينات هي المعقولات لا المحسوسات، قالوا: لأن حكم الحس في مظنة الغلط... فأما العقل فإذا كان المعقول به بديهياً أو مستنداً إلى مقدمات بديهية فإنه لا يقع فيه غلط أصلاً" (الشرح، مجلد19ـ20، ج:19، ص:173).

..ولذلك فقد تنبه الفقهاء إلى هذا الأمر وأدخلوه بالحسبان أثناء الحديث عن موضوع ثبوت الهلال، ومنهم العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله الذي قال: "إن الشهود الذين شهدوا، وفيهم الثقاة مشتبهون من قبيل من يرى هلالاً، وهو ليس هلالاً..".

وكذلك العلامة جعفر السبحاني: "يجب التثبت والدقة في ثبوت الهلال بالبيّنة أو بالشياع، لأنه مظنة خطأ الحس...".

ومنهم الشهيد محمد الصدر الذي قال: "إذا أخبر المرصد بذلك [عدم إمكان الرؤية]، وكان هناك ادعاء رؤية غير كافية للإثبات المعتبر شرعاً كفى في عدم بدء الشهر، واعتبرنا أن هؤلاء المدعين للرؤية متوهمين أو كاذبين".

ومنهم ـ أيضاً ـ السيد السيستاني الذي قال: "...وفي الحالة المذكورة ونظائرها لا يحصل عادة الاطمئنان بظهور الهلال على الأفق بنحو قابل للرؤية بالعين المجردة، بل ربما يحصل الاطمئنان بعدمه، وكون الشهادات الصادرة مبنية على الوهم والخطأ في الحس".

وقد أشارت كتب السِّيَر إلى مثال مهم للخدع البصرية في مجال إثبات الهلال بالذات، إذ "رُوي عن أنس بن مالك أنه حضر مع جماعة لرؤية الهلال، وكان معهم أيّاس، فلم يره أحدٌ غير أنس الذي قال أنّه رآه مع أنه كبير السن، ولكن لم يره أحد غيره، وهنا التفت أيّاس وكان ذكياً حاضر البديهة، ونظر إلى عيني أنس فرأى على إحداهما شعرة، وقد تدلّت على حاجبه فمسح إيّاس حاجب أنس بيده حتى سوّاه، وقال: أرني الهلال الآن، فقال أنس: لا أنظره الآن".

...إلى ما هنالك من أدلةٍ وبراهين، لكن من المفيد أن نقول إن عدداً من العلماء الأعلام ـ أعلى الله مقامهم ـ قد أخذ بهذا الرأي ورأى أن لا محذور فقهياً من اعتماد الحسابات والأرصاد الفلكية في إثبات الهلال من دون حاجة للاستهلال، وكذلك في نفي الشهادة والبيّنة المخالفة للحسابات الفلكية الموثوقة والدقيقة، ومن هؤلاء العلماء.

ـ العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (راجع رسالة فقه الشريعة).

ـ الشهيد محمد باقر الصدر (راجع الفتاوى الواضحة، باب ثبوت الهلال).

ـ المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض (راجع منهاج الصالحين، باب ثبوت الهلال).

ـ الشهيد محمد محمد صادق الصدر (راجع فصل الهلال، من موسوعة :ما وراء الفقه"، ج:2).

ـ المرجع السيد السيستاني (راجع فقه المغتربين، استفتاء صادر في 15 محرم1419هـ، برنامج "الأحكام الشرعية" المسجل على قرص مدمج).

ـ الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي (راجع فصل الصوم، في موسوعة "مبادىء علم الفقه"، ج:2).

ـ الشيخ الكرباسي (راجع المصدر السابق).

ـ السيد الكلبايكاني (مجمع المسائل، ج:1).

...إلى غيرهم من العلماء والهيئات والدول الإسلامية، والذين لا مجال لحصرهم في هذه "العجالة".

وفي النهاية نتمنّى أن يلقى هذا الطرح الفقهي الجديد تجاوباً عند المسلمين، بكافة طوائفهم وفرقهم، الأمر الذي يظهرهم بمظهر الوحدة وعلى حالة من القوة، لأن ذلك من أعظم مصاديق الوحدة، وأحد مظاهر القوة والاستقلال في المجتمع الإسلامي الواحد، امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا} [آل عمران:103].

المصدر
http://www.bayynat.org/www/arabic/ra...thbathelal.htm