حضارة تحتضر ولم نزل نلهث خلف سرابها
تجلى برج إيفل يوماً لعين أحد الكتاب الغربيين بصورة كائن خرافي حديدي يطل على باريس ، ولعل الكاتب المشار إليه كان يرى في البرج الخرافي ملامح حضارة يختصرها حديد البرج الذي يبحث عبثاً عن مكان في سماء ملبدة بالغيوم ، ومثل هذه الإطلالة الحديدية للبرج يمكن أن تقال عن ناطحات السحاب بتحوير بسيط ، فالصناديق الكونكريتية الشاهقة رمز آخر وإطلالة أخرى لحضارة المادة .
ليست فكرة برج إيفل ولا ناطحات السحاب بغريبة فلقد سبق للمصريين القدماء والبابليين أن جربوا مثل هذا المحاولات المتشبثة بالبقاء والمعاندة لحركة الزمن التدميرية ، هي إذن نفس الفكرة القديمة التي ترى في السماء فراغاً مهولاً تحاول ملئه بالمادة الصماء .
والحقيقة إن إستغاثات كثيرة أطلقها كتاب ومفكرون غربيون ظلت أصداؤها تتردد دون أن تقوى على اختراق الجدران الكونكريتية السميكة لتصل الآذان المشغولة بحديث الإعلانات التجارية المتواصل .
فمنذ اشبنجلر الذي راعته رؤيا سقوط الغرب فأوغل في تأريخ الحضارات بحثاً عن الإكسير الراقي ، أو عشبة الخلود فعاد منكسراً كما عاد قبله كلكامش ليسطر كتابه المرثية – النبوءة ، حتى جاك دريدا وكتاب ما بعد الحداثة ومثلهم حركات الهيبيين والوثنيين الذين آثروا البحث عن المعنى أو اللامعنى في مناطق أخرى غير منطقة اللوجوس الإنساني التي تأسست عليها حضارة الحجر والحديد ، كل هؤلاء كانوا يهربون من حضارة الإنسان ذي البعد الواحد ، الإنسان الذي نسي الروح وغابت عنه ألوان السماء الزاهية .
حتى ماركس وفرويد كانا قد حدسا بطريقة ما بأن ثمة خطأ تكوينياً يعتور الحضارة الغربية ، ولكنهما – ولأنهما أبناء هذه الحضارة تحديداً – أخطئا طريق الخروج ، ولم يحسنا قراءة الرسالة التي يرى حروفها الأثيرية كل من قيضت له الأقدار بلوغ قمة البرج أو ناطحات السحاب ، فمن هناك يبدو الجهد الإنساني الذي يحاول مطاولة السماء عبثياً تماماً ، فالسماء بعيدة لا تُطاول ، والأرض تبدو ضئيلة قميئة وسكانها أقرب شئ الى النمل الصغير التافه .
لا يحسن البشر الطينيون قياس المسافة بين الأرض والسماء لأن مقاييسهم دائماً من سنخ المادة والطين ، ولعلهم يظنون دائماً أن مختبراتهم التي نجحت في تطويع الحديد القاسي وجعلته يحلق كالنسور في الأجواء البعيدة كفيلة بحل لغز السماء وتقديمها في النهاية على أنها امتداد وجزء من الأرض نفسها .
لقد تسرب سلطان المادة الى كل مفاصل الوعي في حضارة الغرب ، فلم يَعُد مُعتبراً بالنسبة لهذا الوعي سوى الشئ المتصل بالحواس ، أي الذي تُبصره أعيننا أو تلمسه أيدينا ، فإذا أردنا معرفة شئ ، أي شئ ، فإن أول ما يتبادر الى أذهاننا هو السؤال الآتي : هل يمكننا ملاحظة هذا الشئ أو تجريبه والتعرف على خصائصه ومكوناته في مختبر المادة ؟ هذا السؤال الأخير هو سؤال الحضارة المادية التي تحاصرنا وتغلق علينا كل منافذ المعرفة الأخرى ، أي إنه سؤال يختصر كامل عالمنا ، ويمثل العنوان الأبرز ، إن لم أقل الأوحد ، لوجودنا المعرفي . والمؤلم حقاً إننا أصبحنا نرى هذا السؤال واحدة من عجائب الحضارة المعاصرة ، ومثالاً فذاً يبرهن على عبقرية هذه الحضارة التي استبدلت برحب السماء الواسع هذا الثقب المادي الضيق .
إن المرارة لا تقف عند حد خصوصاً ونحن نرى حجم الإعجاب الكبير الذي تنظر به أجيالنا لمنجزات الحضارة المادية ، وهو إعجاب يقابله بالعادة إزدراء وإن لم يكن واعياً لمناهج الفكر التي تتبنى النظرة الغيبية أو قل الإلهية ، كما إنه يكرس فكرة أن هذا الوجود المادي هو كل الوجود ويقتل بالنتيجة روح الإيمان .
قليلون جداً أولئك البشر الذين اقتنعوا بكلمات الرسل التي هتفت بهم : إن حضور العالم المادي في وعيكم منشؤه الجزء الحيواني أو الجزء الطيني منكم ، وهو جزء طارئ ، عرضي وليس حقيقياً ، وإن عليكم أن تحرروا وعيكم من سطوة الطين لتدخلوا عالم الأنوار الحقيقي هو وحده ، أما المليارات الأخرى من البشر فقد أخلدت الى الطين والسبب هو إن الحرية تتطلب ثمناً ، ثمناً بسيطاً ورائعاً في الوقت نفسه ، هو أن يرتفع الإنسان الى مستوى إنسانيته ، أن لا يدع الجزء الحيواني يتحكم فيه ويصنع له قراراته و مصيره ، وهنا مفارقة عجيبة ، مفارقة مضحكة ومبكية في آن معاً ، فالإنسانية كانت دائماً تدفع أثماناً باهضة حتى وهي تعيش واقعها المذل ، بل إن هذا الواقع هو نفسه ، أي بصرف النظر عن الإذلال اليومي الذي يمارسه الطواغيت ، هذا الواقع هو ثمن كبير تدفعه الإنسانية ، وهو أقل كثيراً من الثمن الذي يمكن أن تدفعه فيما لو قررت التحرر !! إذ إن هذا الواقع – وليكن نظرنا مُصوباً الى تلك البلدان التي تعيش حالة الرفاه الإقتصادي والإجتماعي ، بحسب النظرة المتعارفة بين الناس – هذا الواقع هو ثمن كبير تدفعه الإنسانية لأنه ببساطة يحجب عنها العالم الإنساني الحقيقي ، عالم الكمال والأنوار الإلهية ، العالم الذي يستحق وحده وصف الحضارة . إن المسألة الحقيقية هي أن هذه الإنسانية لم تكن تؤمن إيماناً حقيقياً بأن العالم الذي تعيشه ليس هو خاتمة المطاف ، بل إنها لا تؤمن بإمكانية أن يأتي اليوم الذي يتحقق فيه الوعد الإلهي بتحطيم عروش الطواغيت وتوريث الأرض لعباد الله الصالحين ، على الرغم من أن هذا الحلم كان دائماً يُقرّح أجفان هذه الإنسانية المستضعفة ، ولكنه للأسف الشديد بقي بالنسبة لها حلماً مستعصياً على التحقق ، ومنفذاً لتسريب شحنات القهر والألم في الوقت نفسه ، و لم يكن عدم الإيمان هذا سوى اختيار هذه الإنسانية حتى وإن لم تكن دوافع هذا الإختيار واعية ، أي حتى إن كان مدفوعاً بخداع محرفي الكلم و مخربي الشرائع ؛ فقهاء السوء الخونة الأراذل والمثقفون المسحورون بالمادة . فالإنسانية كانت على الدوام شريكة الطواغيت في ابتكار مأساتها !! فلم يكن انقيادها لفقهاء السوء الخونة ، المتاجرين بآلامها ، سوى التطبيق الفعلي لخوائها الروحي . لم تكن هذه الإنسانية في يوم من الأيام تحسب حساباً حقيقياً لقدرة الله تعالى فوجدت في كلمات فقهاء الضلالة المنكرة عاذراً ، وذريعة تسكت بها صوت الفطرة المتمرد .
ما أحوج الإنسانية إذن الى معلم مثل عيسى المسيح (ع) يهتف فيها : (( إن النور قد جاء الى العالم ، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور ، لأن أعمالهم كانت شريرة ، لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ، ولا يأتي الى النور لئلا تُوَّبخ أعمالُه وأما من يفعل الحق فيُقبل الى النور ، لكي تظهر أعماله إنها بالله معمولة )) [إنجيل يوحنا] .
وما أحوجهم الى من يعلمهم : (( اعلموا أيها الأحبة من المؤمنين والمؤمنات إن المخلوق الأول هو العقل وهو العالم الأول الروحاني وهو عالم كلي ، الموجودات فيه مستغرقة بعضها في بعض ولا تنافي بينها . وأهله على درجات أعلاها المس بعالم اللاهوت سبحانه ، وهي درجه خاصة بمحمد وعلي (ع) . فمحمد (ص) (دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم 8-9) . وعلي (ع) نفسه قال تعالى (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُم ) (آل عمران 61). وعلي ممسوس بذات الله كما ورد عنه ( ص ) ، ودونهما درجات ، فهما (ص) محيطان ويعلمان بكل من دونهما ، ومن دونهما يعلم منهما بقدر درجته ولا يعرفهما أحد بتمام معرفتهما غير خالقهما ، كما لا يعرف الله سبحانه أحد غيرهما بتمام معرفته الممكنة للإنسان . ورد عن صاحب المقام المحمود (ص) ما معناه : ( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت ، وما عرفني إلا الله وأنت ، وما عرفك إلا الله وأنا ) . أما العالم الثاني فهو عالم الملكوت ،وهو عالم مثالي صوري ، وهو عالم الأنفس شبيه بما يراه النائم . وذلك أن النائم غفل عن وجوده المادي فالتفت إلى وجوده الملكوتي ، ولك أن تقول المثالي أو النفسي .
أما العالم الثالث فهو العالم المادي وهو عالم شبيه بالعدم ليس له حظ من الوجود ، إلا قابليته للوجود ، وهو آخر درجات التـنـزل .فإذا أفيضت الصورة على المادة تكوّن الجسم ، وهو أول درجات الصعود أو العودة ، ثم أن الأجسام تنقسم بحسب درجاتها الوجودية إلى جماد ونبات وحيوان وإنسان ، والإنسان أما يرتقي ويعود إلى مبدأه سبحانه ، فيسبح في عالم العقل والقرب من الحي الذي لا يموت ، وأما يزري بنفسه ويدبر عن ربه ، فلا يرى إلا المادة التي لا تكاد تدرك أو يحصل العلم بها إلا عند إفاضة الصورة المثالية عليها ، وهكذا يصبح كالأنعام بل أضل سبيلا ، لأنه خلق ليقبل فأدبر ، وخُلق ليعقل فأبى إلا الجهل ، وخُلق ليحيا فأبى إلا الموت . قال أبو عبد الله (ع) : (أن الله عز وجل خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره ، فقال أدبر فأدبر ثم قال له اقبل فاقبل . فقال الله تبارك وتعالى خلقتك خلقاً عظيماً وكرمتك على جميع خلقي ، قال ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً : فقال له أدبر فأدبر ، ثم قال له اقبل فلم يقبل ، فقال له استكبرت فلعنه …)
أما العقل كل العقل فهو محمد (ص) ، ووصيه علي (ع) ، لأنه نفسه ، كما في الآية وأنفسنا وأنفسكم . وأما الجهل كل الجهل فهو الثاني (لعنه الله) وهو مبدأ التكبر وهو الذي أضل إبليس وأرداه في الهاوية . قال إبليس (لعنه الله) (ربِ بما أغويتني) أي بالذي أغويتني به ، أو بالنكرة التي تسببت بإغوائي . وهو في الآية النكرة الموصوفة لأنه ظلماني لا هوية له ، و (ما) التي تستعمل لـ(غير العاقل) لأنه لا عقل له (لعنه الله) وأخزاه . وهكذا فمن بني آدم (ع) من ارتقى بالعبادة والكمالات الأخلاقية ، حتى وصل إلى القاب قوسين أو أدنى ، فهو معلم الروحانيين والملائكة المقربين ، وهو الإنسان الكامل أي محمد (ص) وسلم ، كما إن آدم (ع) علم الملائكة ما لم يكونوا يعلمون ، قال أمير المؤمنين : ( خلق الإنسان ذا نفس ناطقة ، إن زكاها بالعلم والعمل ، فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك السبع الشداد ) . ومن بني آدم من أردى نفسه في الهاوية ، فهو يسبح في بحر أجاج ظلمات بعضها فوق بعض ، إذا اخرج يده لم يكد يراها ، حتى أمسى ظلمانياً لانور فيه ، وجهلاً لاعقل معه ، واضطراباً لا استقرار له ، وخوفاً لا طمأنينة فيه ، ولا سكينه تنـزل عليه . فلا يطمع في رحمة الله ويائس من روح الله مع إن إبليس لعنه الله إذا قامت القيامة يطمع في رحمة الله كما ورد في الحديث قال تعالى : ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال : 48) وهؤلاء يوحون لشياطين الجن زخرف القول ، بأنفسهم الخبيثة المستكبرة . فشياطين الجن من شياطين الأنس تأخذ ، ومنهم تتعلم ، قال تعالى ( شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (الأنعام : 112) .
وقال الحروري
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى بي الأمر حتى صار إبليس من جندي
فلو مـات قبلـي كنت أحسن بعـده طـرائق فسق ليس يحسنها بعـدي
وبقي شيء ...
ولسائل أن يسأل فالذي عند الكفرة أليس بعقل فهم يخترعون به الطائرة وأجهزة الاتصال المتطورة ؟!، والجواب : سئل أبو عبد الله (ع) عن الذي كان عند معاوية فقال (ع) : ( تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل ) . فكل إنسان له نصيب في عالم الملكوت ، ونصيبه نفسه وهي صورة مثالية وظل للعقل ،وهذا الظل هو قوة الإدراك أو الناطقة المغروسة في الجنان . والحيوان الصامت يشاركنا فيها ، ولكن مرآة الإنسان أصفى ، فإشراق العقل على نفسه أبهى وأوضح ، فحظه من هذا الظل اكبر . ومن تتبع عالم الحيوان سيعلم انه لبعض الحيوانات القدرة على اختراع بعض الآلات ، كما ورد عن بعض علماء الأحياء . وكمثال القنادس تنصب السدود لترفع منسوب الماء ، فليس للإنسان فضل على الحيوان ، إلا أن ينظر في هذا الظل ليرى الحقيقة والعقل ، ويسير نحوها بالتكامل بالعبادة والشكر والأخلاق الحميدة ، وإلا فان اكتفى بهذا الظل فهو كالأنعام أي كالحيوان الصامت ، وان أزرى بنفسه بالأخلاق الذميمة ، فهو أظل سبيلا . والحمد لله وحده وما أوتينا من العلم إلا قليلا ربي أدخلني والمؤمنين والمؤمنات في رحمتك أنت ولي في الدنيا والآخرة فنعم المولى ونعم النصير )) . [ السيد اليماني أحمد الحسن ] .