لابد من نافذة للحوار
الكثير منا سمع حكاية الشك الديكارتي الذي لم يبق لديكارت شيئاً سوى الشك نفسه ( الشك = الأنا المفكر ) ، فلا السماء ولا النجم ولا تاج الملك ، ولا حتى أرنبة أنف ديكارت سلمت من شكه العاصف ، الكل بالنسبة لديكارت غير موجود ، وهو لكي يطالب بحصته من الوجود لابد أن يمر أولاً بدفاتر عقل ديكارت ليسجل حضوره .
لا تهمني حكاية ديكارت كثيراً – وبالمناسبة لا ينبغي أن نتعامل مع الكوجيتو الديكارتي على أنه مسلمة لا تقبل نقاشاً ، فالمرجح بقوة إنه ، أي الكوجيتو عنوان ثقافة معينة قد لا تستأهل أن نتفق معها – أقول ما يهمني حقاً هو معنى أحاول استلاله منها بتقريب قد يكون واضحاً للأذهان ، أريد التأكيد على ضرورة البحث ويقظة الفكر بالنسبة لثقافتنا ، ونبذ الكسل والإعتماد على التصورات المسبقة التي تشكلت ضمن إطار واقع ثقافي عنوانه الأساس التغريب واستلاب الذات ، أو حتى الشعور الحاد بدونيتها .
فالغريب إننا نعيش حالة محزنة من الإنسداد الثقافي ، فالأبواب موصدة بيننا لا يكاد أحدنا يسمع الآخر ناهيك بتفهمه والقبول منه ، لكل منا وللأسف الشديد قناعات شكلها أو بالأحرى تشكل وعيه طبقاً لها في زمن غابر ، ولأنه أطبق الباب على نفسه تحجرت قناعاته واستحالت وثناً لا يعرف غير السجود له ، ومن يتفحص دوافعنا يجدنا في الأعم الأغلب نصدر عن غوغائية وعصبية مقيتة ومع ذلك نزعم أننا مثقفو الأمة والجزء الواعي منها ونتطلب من الناس أن يسمعوا لنا !
هل تساءلنا يوماً أين هويتنا من كل هذا الفكر الذي نستهلكه كعلب السردين المستوردة ، هل حقاً نحن أنتجنا هويتنا ، أم إننا ارتضينا بأكذوبة عالمية الفكر الغربي التي لا يصدقها أحد غيرنا ؟ ولماذا لا ننظر الى الفكر الغربي على أنه وليد أفق حضاري وشرط تأريخي ، كما ينظر بعضنا للدين الإسلامي ( هويتنا ) ، ونعمل بالنتيجة على تجاوزه ، أو الإفادة منه بشرط هويتنا ؟
تفيدنا حكاية ديكارت المشار إليها ضرورة البحث عن الهوية ، وإن البحث لابد أن ينطلق من تعليق القناعات والتصورات المسبقة التي أدمناها ( في غفلة عن هويتنا مع الأسف ) ، فالبحث عن الهوية – كما لا ينبغي لأحد أن يشك – قدر لا يسعنا الإنفكاك عنه ، وفي لحظة البحث لابد أن تحضر التصورات والقناعات المسبقة على أنها إمكانات وعي ، لا تكتسب حضورها كوعي فعلي إلا بعد مرورها بمصفاة الوعي الحاضر اليقظ الذي يضع نصب عينيه ملامح الهوية فيغربلها ويزيد عليها ويُنقص منها ، أو يطّرحها كلياً .
وبقدر تعلق الأمر بالفكر الغربي من جهة والدين الإسلامي من جهة أخرى – بوصفهما النقيضين المتصارعين ذهنياً وواقعياً ، والذين يعينان بالنتيجة إشكاليتنا الثقافية – أقول إن علينا من جهة أن لا نقبل بخرافة عالمية الفكر الغربي ، وخرافة نهاية التأريخ ، ويكفينا في هذا الصدد الشكوك الكثيرة التي أثارها بعض مفكرو الغرب من قبيل جاك دريدا وادوارد سعيد حول فكرة المركز ، وأن نطرح الفكر الغربي على بساط البحث شأنه شأن أية فكرة قابلة للنقض والقبول على أقل تقدير ، وعلينا من جهة أخرى أن لا نتطير من التجارب الفاشلة والتصورات المحرفة التي قدمت صورة مشوهة للإسلام ، فالإسلام ليس هو التجربة الإفغانية التي قدمتها طالبان وليس هو التجربة الإيرانية كذلك ، بل ليس هو التصور الذي تقدمه مؤسسة المرجعية بشقيها الشيعي والسني على حد سواء .
لا ينبغي أن نقبل لوعينا أن يبقى مأسوراً لسلطات الوعي المزيفة ، ولا ينبغي أن نخشى مخالفة ما تقدمه هذه السلطات ، فإن بين يدينا من الوسائل ما يمكننا من التعرف على الإسلام من منبعه الصافي ، ولا أظننا بحاجة الى تأويلات وأفهام الآخرين غير المعصومة ، بل المتأثرة غالباً بحدود عقل ونفسية وظروف ومصالح المؤولين .
والحق إن ما ينبغي أن نحذر منه كل الحذر هو التدخل غير الواعي غالباً لثقافتنا أو تصوراتنا المسبقة في توجيه حركة وعينا ، فالغالبية العظمى ممن كتبوا عن الإسلام وبينهم فقهاء – هكذا يسمون أنفسهم على الأقل – كانوا يتعاملون مع الإسلام وفق الآليات نفسها التي يتعاملون بها مع غيره .
فهم يتعاملون مع الإسلام على أنه إيديولوجية ، أو بكلمة أخرى على أنه منجز بشري يخضع لملابسات الإطار أو المحيط الذي نشأ ونما فيه ، بينما الإسلام يقدم نفسه على أنه عقيدة وفكر مطلق أو متعالي على التجربة البشرية المحدودة ، ومن ثمّ فإنه يقرر سلفاً أن من الخطأ المنهجي أن تتم مقاربته بآليات التحليل المستنبطة من واقع فكري إنساني محدود يتأثر بالضرورة بالحاضنة التي نشأ فيها ومنها .
إن من الخطأ أن نحاكم الإسلام على أساس المنطلقات والمتبنيات التي أفرزتها الثقافة المحدودة لأننا بذلك لا نكون نحاول فهم الإسلام بقدر ما نسعى لتدجينه وإفقاده روحه وكل خصوصياته ، ليكون بالنتيجة هو ما بأيدينا نفسه ، أي يكون نفس التصور المسبق الذي نحاكمه على وفقه .
وقراءة هذا شأنها هي في الحقيقة إساءة قراءة ، بل إنها اجترار لتصورات مسبقة ، فبدلاً من أن نقرأ نحن في الحقيقة نجتر تصوراتنا السابقة ذات البعد المحدود والغريبة موضوعاً ومنهجاً عن الإسلام وبالنتيجة نجرد لحظة وعينا الحاضرة أو لحظة القراءة من حقيقتها ، أي بوصفها اكتشافاً موضوعه الإسلام الذي نزعم أننا نقرأه ، بعد أن جردنا هذا الموضوع من حضوره الحقيقي وأحلناه الى حضور ذرائعي أو عرضي الهدف منه استعادة ما نعرفه مسبقاً .
إن أكثر القراءات التي قُدم من خلالها الإسلام – إن لم أقل جميعها – كانت تعاني في الحقيقة من هذا الخطأ المنهجي الذي تتم فيه مقاربة غير المحدود من خلال العقل المحدود – فقهاء المدرسة الأصولية أنموذجاً – وبالنتيجة قُدم الإسلام بعيداً عن حقيقته وأفرغ من مضمونه وتعرض لهجمات قاسية ، بينما الحقيقة هي أن من يهاجمه إنما يهاجم نفسه دون أن يشعر ، أي يهاجم الآليات الثقافية التي يحملها وتشكل رؤيته ويقارب الإسلام من زاويتها .
لكي نفهم الإسلام في الحقيقة لابد أن ننطلق من فرضيات الإسلام نفسه ، ونحاول ما وسعنا تقريب وعينا لمنطقه ، أي أن نفهمه كما هو أو كما يقدم نفسه ، لا أن نقربه هو الى منطقنا بدعوى إن عملية الفهم تقتضي تقريب موضوع الفهم الى ما هو متحصل وفهمه انطلاقاً منه ( هذا ما يقرره غادامير والتأويليون على سبيل التمثيل ) .
الإسلام يقدم نظرية مختلفة تماماً ، فهو يفترض مسبقاً عدم قدرة الوعي البشري المحدود على استيعابه ، ومن هنا يحدد من يسعه تأويله ( الراسخون بالعلم ) بل إن النص النبوي يسميهم بأسمائهم ، والبشرى السعيدة التي أود دعوتكم للنظر فيها هي أن أحدهم وهو السيد اليماني موجود بيننا ، برجاء أن تكون هذه الكلمة نافذة حوار تفتحها لنا ( كتابات ) .