ديمقراطية الصولات العرجاء

لست ممن يؤمن بالديمقراطية ، فلا يذهبن الظن بأحد الى أنني أستهدف من العنوان مجرد هجاء ما يسمى بـ ( لعبة الديمقراطية في العراق ) ، ولكني أريد منه الإشارة الى واقع فكري وعملي يحصل في العراق ، وهو واقع وإن لم يكن مثالياً ، إلا أنه لا ينفك عن نفس الديمقراطية ، ويشير بالتأكيد شئ من أمراضها على الأقل . فالحديث هو إذن عن الديمقراطية ، وعن سبب عدم إيماني بها .
تقدم الديمقراطية نفسها على أنها النموذج الأكمل لنظام الحكم الذي استطاعت البشرية بلوغه بعد أن قاست الأمرّين من نظم الحكم الديكتاتورية والشمولية ، فالديمقراطية بكلمة أخرى وليدة تجربة بشرية طويلة مرت بمراحل كثيرة ، لم تخلو من مرارة الألم ، وشدة المعاناة . وإذا كانت الفكرة الديمقراطية قديمة ، فإن نشوءها في العصر الحديث ترافق مع نشوء الفكر الليبرالي وبروز الرأسمالية على المستوى الإقتصادي ، والحق إن هاتين الحاضنتين ضروريتان للديمقراطية ، لا يكاد المرء يتصورها من دونهما . ولكن الديمقراطية – شأنها شأن كل فكرة شيطانية – تقوم على مغالطة رهيبة ، إذ إنها ببساطة تضمر فكرة أن الفكر البشري المحدود بطبيعته هو كل ما هو موجود في جردة الحساب ، فهي بكلمة أخرى لا تقيم وزناً للسماء ولا تحسب لها أي حساب . الديمقراطية تغيب الدين وتنظر للحياة من منظار مادي ضيق وهذه في الحقيقة واحدة من الأسس الليبرالية ( العلمانية وفصل الدين عن الدولة ) التي تتقوم بها الديمقراطية .
والحق إن القوم إلتجأوا الى الديمقراطية فراراً مما ألحقته بهم الديكتاتورية من مظالم وويلات دون أن يلحظوا أن فرارهم ليس سوى فرار من الرمضاء إلى النار . فالديمقراطية التي يتغنى بها اليوم من يحسبون أنفسهم قيادات دينية وأحزاباً أسلامية تمثل بحق أبشع الحلقات في مسلسل التأمر على منهجية السماء .
إذ ليست الديمقراطية سوى إعادة إخراج مسرحي - يتسم بقدر كبير من الدهاء و الإلتفاف على الحقائق - لما كان يمثله الطواغيت في عصور سالفة من منهج معاد لمبدأ التنصيب الإلهي بهدف إضفاء مسحة من المقبولية عليه ومنحه مشروعية كان يفتقدها .
فالديمقراطية لم تغير شيئاً من روح المنهجية القديمة القائمة على أساس حاكمية الناس ورفض حاكمية الله ، بل أقصى ما فعلته إنها استبدلت بأدوات العنف وآليات الاضطهاد الجسدي التي مارسها الطواغيت أدوات وأساليباً أكثر سلمية على حد تعبيرهم ، ولكنها أيضا أكثر شيطانية وأغور في التضليل والتعمية . ولعل هذه النظرة التي تصنف النظم الديمقراطية ونظم الاستبداد والديكتاتورية في خانة واحدة لم تكن لتغيب عن أذهان الناس لولا المعاناة المريرة التي مرت بها البشرية طيلة الحقب المتوالية من حكم الطواغيت . والحق أن ماكنة الإعلام الديمقراطي قد ركزت كثيرا وتباكت طويلا على المعاناة المشار إليها بقصد إيهام الناس بان ثمة انقلابا جذريا وتغييراً حقيقياً قد أحدثته الديمقراطية في حياتهم ، وإن ما حدث ليس مجرد استبدال ثوب بثوب أو قشرة بقشرة ، كما هي الحقيقة .
إن فتاكة سم الديمقراطية تتجلى للمتأمل المنصف من ملاحظة الأساس الذي تتركز عليه , فهي تحاول إقناع الناس بأن مساوئ الديكتاتورية ليست في إنها تجسيد لمبدأ حاكمية الناس , وإنما لأنها تركز على حكم الفرد أو رأي الفرد الواحد أو المجموعة الصغيرة المستبدة , والعلاج برأيها يكمن في إطلاق العنان لأكبر عدد ممكن من الآراء وكأن الديمقراطية ترى أن كثرة الآراء تنتج في المحصلة رأياً على قدر من الحكمة و الحصافة , إن لم نقل العصمة , بينما حقيقة الأمر أن تجميع الآراء الناقصة ليس سوى جمع بالسالب , أي أن النتيجة أكثر سوءاً ، فالآراء والأهواء المتعددة ستقود حتماُ الى فوضى تفلت عن السيطرة .
إن الشَّرَك الكبير الذي تتصيد به الديمقراطية فرائسها يتمثل بالمقولة التي تبدو أكثر قرباً الى المعقولية والإنصاف ، وهي مقولة ( إنك في ظل النظام الديمقراطي تستطيع تحقيق ما تشاء من فكر على أرض الواقع الإجتماعي دونما حاجة منك الى العنف ، إذ لا يحتاج الأمر منك سوى إقناع أغلبية مناسبة من الناس تؤهلك لتسنم مقعد الحكم في الدولة والبرلمان ، ويمكنك بعدها أن تغير دستور الدولة إذا رغبت ) .
كما قلت تبدو هذه المقولة منصفة ومعقولة تماماً ، لكنها في الحقيقة أشبه شئ بالعسل الذي تختفي تحت صفائه عروق السم الناقع . . كيف ذلك ؟
سلفت الإشارة فيما تقدم الى أن الديمقراطية لا يمكن تصورها دون أن نتصور مجتمعاً تحكمه القيم الرأسمالية على المستوى الإقتصادي ، والليبرالية المستوى الإجتماعي والثقافي ، وبكلمة واحدة لا يمكن لمجتمع تطبق فيه الديمقراطية إلا أن يكون محكوماً لقيم المنفعة والأهواء الفردية ، فالحق إن هذه العناصر تشكل مع الديمقراطية حقيقة واحدة لا يمكن التفكيك بينها ، بمعنى أن أياً عنصر منها يستدعي العناصر الأخرى باعتبارها أجزاءه التي لا يستغني عنها ، بل لا حياة لها من دونها وبين يديك كل التجارب الديمقراطية شاهداً على ما أقول .
في ظل واقع كهذا محكوم لمبدأ المنفعة والمصالح الفردية يلزمك لكي تستقطب جماعة ما أن تقدم لهم أطروحة فكرية تحقق المبدأ الذي ينهجون على وفقه ، بمعنى أن رؤيتك الكونية لابد أن تنبثق من نفس الأفق الفكري الذي يتنفسون فيه ، بل إنك غالباً ما تجد نفسك مضطراً – من أجل كسب أكبر قدر من الأصوات – الى النزول الى أدنى دركات الرغبة المادية التي يعيشها عادة الجمهور الواسع من الناس المحكومين لمبدأ المنفعة ( برنامج الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون تضمن فقرة تدعو الى إحترام رغبات الشاذين ) ، ماذا يعني هذا ؟
يعني إنك بدلاً من تقديم فكر يعمل على انتشال الواقع الفكري والإجتماعي والقيمي للناس من ربقة التردي والإنحدار الأخلاقي ستجد نفسك مرغماً على التردي ، بل ربما اضطررت – كما حدث مع كلينتون وغيره – الى زيادة التردي والسفال ! وماذا يعني هذا أيضاً ؟ يعني أن المقولة التي تبدو منصفة هي مقولة من أكثر المقولات دهاء وخداعاً ، إذ إنها تستدرجك لتدخل في لعبة الديمقراطية ، لتعمل بعد ذلك على تجريدك من كل مبدأ تحمله ، فالترجمة الحقيقية لتك المقولة هي : أنت رجل رسالي لديك فكر يستهدف الرقي بالواقع في مدارج الكمال ، أدخل في لعبة الديمقراطية وستجد نفسك بلا مبدأ ، هذه هي النتيجة التي يريد فقهاء آخر الزمان أن يوصلونا إليها !!
وهكذا إذا كان الفكر من شأنه أن يسعى الى تنظيم الواقع على وفق افتراضاته ، فإن الفكرة الديمقراطية تعمل على تجريده من خصوصيته الجوهرية هذه ، فيكون تابعاً ينظم افتراضاته أو مقولاته على أساس مقولة الواقع .
أفهم أن الكثيرين يجادلون بأن الإسلام قد تمت تجربته ، ولم نجد فيه ما يفترض أن يكون الحل المناسب لمشكلات الحياة ، ولكن هذا الجدال سالبة بانتفاء الموضوع ، طالما لم يلتفت المجادلون الى حقيقة جوهرية تتمثل بأن التجربة الإسلامية لا يمكن أن تستحق هذا الوصف إلا إذا كان قائدها هو من نصبته السماء .. ولكن هذا بحث آخر أرجأه الآن . ولا بأس من الختام بهذه الكلمة : إن إيماننا بوجود الله تعالى وإيماننا بأن حياة أخرى وحساباً ينتظراننا ، هذا الإيمان يمنعنا من الإقرار بأن الله تعالى قد ارتضى لنا مسيرة الخطأ والصواب التي لا يبدو أنها ستنتهي يوماً ما النهاية السعيدة التي نتطلع لها ، لاسيما وأن هذه المسيرة لا تناسب أعمارنا القصيرة مطلقاً .
مساحة المأساة تتسع في ما يسمى الديمقراطية العراقية ، فالمتابع للوضع العراقي لا يُخطأ نوايا المؤسسة الدينية المنحرفة التي تركب موجة الديمقراطية من أجل السيطرة على الوضع العراقي لاسيما في الجنوب ، وما صولات أوباشها في المدن الجنوبية سوى ملمح دال جداً على ما نقول ، فهي تحاول جاهدة التخلص من كل خصومها الفكريين والسياسيين ليخلو لها الجو هناك فتبيض وتصفر كما يحلو لها .
وهذا يشير الى تناقض أساس في الديمقراطية ، عبر عنه السيد أحمد الحسن في كتابه ( حاكمية الله لا حاكمية الناس ) بقوله : (( الدكتاتورية مستبطنة في الديمقراطية :- وهذا بين في الواقع العملي فعند وصول مذهب فكري الى السلطة عن طريق حزب معين فإنه يحاول فرض نظرته السياسية على هذا البلد بشكل أو بآخر وربما يقال أن الناس هم الذين انتخبوا وأوصلوا هذا المذهب إلى السلطة أقول إن الناس أوصلوا هذا الحزب وهذا المذهب الفكري بناءً على ما هو موجود في الساحة السياسية في فترة الانتخابات أما ما سيؤول إليه الأمر بعد عام فلا يعلمه الناس فإذا حدث شيء يضر بمصالحهم الدينية أو الدنيوية من هذا النظام الحاكم لا يستطيعون رده وكما يقال ( وقع الفأس بالرأس ) . وهكذا وصل أمثال هتلر الذي عاث في الأرض فساداً عن طريق الانتخابات والديمقراطية المدعاة وإذا كان هناك اعتراضات على ما حصل في ألمانيا بسبب عدم نضوج الحالة الديمقراطية فيها في ذلك الوقت فهذا هو حال إيطاليا اليوم فقد وصل إلى السلطة جماعة زجوا بإيطاليا مع أمريكا في حرب عفنة ضد الإسلام والمسلمين والشعب الإيطالي معارض لهذه الحكومة اليوم والمعارضة تطالب بسحب القوات الإيطالية ولكن هؤلاء الجماعة المتسلطين يصرون على بقاء القوات الإيطالية محتلة للعراق وهكذا عادت الدكتاتورية والفاشية إلى إيطاليا في هذه الفترة بل أن في بريطانيا الديمقراطية الحليف الرئيسي لأمريكا في احتلال العراق والاعتداء على الإسلام والمسلمين خرج في شوارع لندن ملايين ينددون بهذه الحرب الاستعمارية الكافرة على الإسلام والمسلمين دونما تأثير على قرار الحكومة البريطانية , إذن فالدكتاتورية مستبطنة في الديمقراطية )) .