الشيخ فضيل الجزائري / / 24 محرم 1428 / حوار في الحرمين
حوار في الحرمين
حوار شيّق جرى في الحرمين: مكمة المكرمة و المدينة المنورة، بين السيد شفيعي فاضل من فضلاء قم المقدّسة و الدكتور أبو النور الجزائري
تعريب: الشيخ فضيل الجزائري
أستاذ في حوزة قم العلمية
بسم الله الرحمن الرحيم
لا توجد آلية، في تصورنا، أحسن و أنجع من عملية الحوار الهادئ لتقريب وجهات النظر، و للاقتراب من فكر الآخر. و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه الآلية الحضارية في عدة آيات مباركة منها قوله تعالى في أوّل سورة المجادلة { قد سَمِعَ اللهُ قولَ التي تجادِلُكَ في زَوجِها و تشتكي إلى اللهِ و اللهُ يسمَعُ تَحاورَكما إنّ اللهَ سميعٌ بصير }المجادلة/الآية 1، و قوله تعالى تعالى:{ و دخل جنّتَه و هو ظالَمٌ لنفسه قال ما أظن أن تبيدَ هذه أبداً * و ما أظن الساعةَ قائمةً و لئِن رُدِدت إلى ربّي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً * قال له صاحِبُه و هو يحاوره أكفرتَ بالذي خلقك من ترابٍ ثمَّ من نطفة ٍثمَّ سواك رجلاً ٍ} الكهف/الآيتين/35-36. و أساس هاتين الآيتين تبيّنه آية شريفة أخرى هي قوله تعالى:{ قُل من يَرزُقُكُم من السماواتِ و الأرضِ قُل اللهُ و إنا و أيَّاكم لَعَلَى هدًى أو في ضَلالٍ مُّبينٍ } فالمسألة لا تخلو من أحد الشقّين فإمّا أن أكون أنا مع الحقّ و أمّا أن تكون أنت مع الحقّ، و الذي يكشف مكنون الحقّ و خفاياه هو الحوار الهادئ و المفيد الذي يحركه قلبٌ لا يريد إلاّ الحق و الحقّ فقط. و النبي الأكرم ( صلى الله عليه و آله ) مع يقينه التام بربه و بقضيته – كيف لا!؟ و هو الذي وصل إلى منزلة قاب قوسين أو أدنى – قد فسح المجال للحوار مع المخالف حتى ينجلي الحق و يظهر لمن له قلب يعي و لب يُبصِر.
لكن مع شديد الأسف لم نجد لهذه الآلية العظيم مكانة تُذكَر في تاريخنا الذي أسسته السياسة و لا زالت إلى يومنا هذا تعبث به من خلال عبثها بعقول النّاس ( و النّاس عموماً في غفلة كبيرة من أمرهم ). لكن من شرّفه الله تعالى بالإنتماء إلى مدرسة أهل البيت أهل العصمة و الطهارة يَجِدُ تاريخَ هؤلاء المخلَصين حافلاً بالمناظرات المليئة بالحوارات الهادئة المفيدة التي كانت سبباً في تغيّر مسار حياة الآلاف من النّاس. و يجد عيّنات من الحوارات القيمة و العالية المضمون لو عُرِضَت على العقل الحرّ لما تمالك نفسه في اختيار صراطهم المستقيم. من ذلك على سبيل المثال حوارات أمير المؤمنين عليه السلام مع الصحابة في بيان حقه المغصوب يحاججهم بغدير خم و غيره من الأدلة الناصعة بعيداً عن كل عنفٍ و تجاوزٍ في كلام لا يليق بالمروؤة و مقتضيات الدين، و كذلك ما ألقته سيدتنا و مولاتنا الزهراء عليه السلام أمام الصحابة في خطبتها الغراء ذات النفس المحمدي العلوي، و حوارات الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره إلى كربلاء و في أرض الطف نفسها، فإنّه عليه السلام ما فتئ يبيّن لهم بأسلوب متين و هاديء غيَّهم و ضلالهَم و يحثّهم على التوبة، لكن قلوبهم كانت قاسية مظلمة فلم تسغ إلى حواراته النورانية و الهادية. و كذلك الإمام الصادق ( عليه السلام ) الذي كان يحاور من ينتمي إلى الدين الإسلامي كأبي حنيفة و غيره من علماء المخالفين و من هو خارج دائرة الدين من الزنادقة و الملاحدة، بحيث يخرج الرجل و هو في غاية الإعجاب بعلم الإمام و سعة صدره الشريف و قوة تحمله لسوء أدب المحاور و تغطرسه. و تمثل حوارت الإمام الرضا عليه السلام في مجالس المأمون مع المتشرّعة و غيرهم من أهل الكتاب و الملاحدة غايةَ ما يمكن أن تصل إليه أداب الحوار و المناظرة، لقوة حجته عليه السلام و عمق علمه، الأمر الذي جعل المأمون يخشى من انقلاب الآية عليه ففعل ما فعل ( و إلى الله المشتكى ).
فالحوار هو الوسيلة الحضارية الوحيدة التي تجعل الإنسان الحرّ ينفتح على أفكار الغير و على الحضارة التي تقع خارج دائرته و معتقداته. و من دون هذه الآلية يقع لا محالة في ما وقع فيه من يحمل في قلبه إلاّ الحقد و البغض و الذي ما فتيء يكفِّر و يزندق غيره لمجرد أن يرى فكرة ظهرت في الأفق لا تتماشى مع ما لُقِنَ المسكين من أفكار لا يدري مفادها و لا من لقّنه إياها يدري معناها، كما لمسنا ذلك بأنفسنا من خلال التأمل في مكتوباتهم و مسطوراتهم المتروسة بالجهل بقسميه: البسيط و المركب.
فمن يحرم نفسه من الحوار الهاديء و آلياته الحضارية تجده يلجأ إلى آليات غير إنسانية في مخاطبة غيره و مناظرتهم من قبيل الشتم و التكفير و الإقصاء و ما شابه ذلك من وسائل تنتمي إلى عالّم التخلف و الظلامية. و العجيب أنّ المخالِفَ يجادلك من منطلق ما يؤمن به هو، و بتعبيرنا الحوزوي ينقض عليك على أساس ما يتبناه هو من مباني علمية، غافلاً المسكين أنّ هذه الطريقة تنطوي على مغالطة من باب المصادرة على المطلوب، فمن حقنا الرد عليه قائلين: نحن لا نؤمن بما تتبناه من مباني علمية ( لو كانت مبانيه علمية في الواقع!؟ و هذا أوّل الكلام )، فيتحتم عليك بيان ما تبني عليه من أصول و مباني. و قد عشت شخصياً تجربة من هذا النوع في الحج من سنتين كان ذلك في المزدلفة أين ألتقيت بدكتور مغربي يدرس في جامعة أم القرى بمكة المكرمة قسم الدراسات العليا و كان في صدد كتابه أطروحة دكتوراه في الشيخ محي الدين بن عربي مؤسس العرفان النظري، فقلت له: إذا تسمح أناقشك في مضمون الأطروحة فرفض فألحيت عليه فرفض، فأدركت أنّ الرجلَ ما يفهم شيء عن مدرسة محي الدين بن عربي. فدخلنا في حوارٍ مذهبي فأسقطته في الدور و المصادرة على المطلوب 6 مرات فقلت له أنت عاجز على إثبات دينك للبوذي و اليهودي ناهيك لشيعي مثلي ) إن شاء الله إذا ساعدنا القدر نقصّ عليكم مغامرات تبليغية شيقة مع المخالف عشتها في موسم الحج المبارك.
أخي القارئ الكريم أنقل لك في هذه المقالة جلسات نورانية و حوارات علمية عميقة شيقة جرت بين فاضل إيراني من فضلاء قم المقدسة هو السيد محمد شفيعي حفظه الله تعالى صاحب التأليفات القيمة منها: "الفطرة الدينية في الإنسان" و هو بحث قيم في بابه يشرِّح فيه معنى الفطرة في مجالات متعددة و يبيّن دور الفطرة في مجال التوحيد و في مجال العبودية و منشأ الدين، و "معرفة المبدأ" و غيرها من الرسائل العلمية المفيدة، و بين شاب مثقف جامعي جزائري ( أبو النور ) دكتور في الأديان من أصول باكستانية، يحسن التكلم بخمس لغات: 1. العربية،2. الفارسية، 3. الأنجليزية، 4. الأردو، 5. الفرنسية. شاب متوقد الذهن كثير الوعي، منفتح على الحوار و يعرف جيداً قيمة المحاورة و المناظرة، يتقن آليات الحوار و يحسن إثارة المساءلة، نلمس ذلك كله من خلال هذه الحوارات القيمية و الجملية. و هذه الجلسات كانت في الحرمين: مكة و المدينة، يبلغ عددها أحدى عشرَ حواراً، حوارات يملأها الصفاء و المودة من الطرفين و الحرية في طرح المسائل و الرد عليها. تشعر و أنت تقرأ هذه الحوارات و المساجلات أنّ الحقّ لا يظهر للضمير الحرّ و العقل النيّر إلاّ ببركة الحوار الهاديء الذي يتجلى فيه العمق العلمي و قوة الحجة و انفتاح قلبيّ المتحاورين على الحقيقة و الحقيقة فقط بعيداًَ عن الموروث البالي و التقاليد المتخلفة و التعصّب الأعمى.
و إليك أيها القارئ الكريم الحوار الأوّل من تلك الحوارات النورانية في بقعة مقدسة خرجت من لسانٍ سيدٍ ينتصر لحقانيّة أجداده الطاهرين بالحجة البالغة و المنطق القويم في مقابل عقل جزائري يحمل من الوعي و المعرفة ما يكفيه لقبول الحقّ و الانفتاح عليه.