--------------------------------------------------------------------------------
و السؤال: من أين يستمد أهل البيت عليهم السلام أو نوابهم ( مراجع التقليد الجامعون للشرائط) المشروعية في إدراة الأمة و مؤسسات الدولة؟ الجواب واضح: تستمد العترة الطاهرة المشروعية من الله تعالى، و أساس هذه المشروعية ( الحجية في العرف الديني ) هو العصمة التي ترتكز – كما حُقق ذلك في مجاله الخاص و سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه بالنفصيل- على العلم الشهودي أي الكاشفية التامة للمصالح و المفاسد الواقعيتين. و هذه الوجودات المقدسة هي الوحيدة التي تملك هذه المشروعية الإلهية على أساس ما تتمع به من عصمة التي تقوم على الكاشفية المطلقة للمصالح و المفاسد أو بالإصطلاح الفلسفي الكمالات الوجودية، و وفقاً للرؤية العرفانية هي الوحيدة التي يمكن لها تحقيق مقتضيات الأسماء الحسنى في الحقيقة الإنسانية ( مهما كان إنتماء من تتمثل فيه هذه الحقيقة ).
فإذا قلت: كيف الحل مع من لا يقبل هذه المشروعية و لا يخضع لها من الكفار و أهل الكتاب و غيرهم من العلمانيين و ما شابه ذلك؟ فأنتم مبتلون بالإشكالية نفسها التي طرحتموها في وجه اليبرالية؟!

--------------------------------------------------------------------------------
نقول: نضطر إلى بيان مسألة تتصل بالحقيقة الإنسانية، هذه الحقيقة مكونة من أبعاد ثلاثة هي 1. البعد الحيواني، 2. البعد المعنوي و 2. البعد الإلهي. و سرّ الخلق و الإيجاد الإلهي هو البعد الثالث أي البعد الإلهي، فإذا نظرنا إلى هذا البعد فلا يحق للإنسان مهما كان دينيه و مهما كان اتجاهه في الحياة أن يردّ هذه المشروعية، شريطة أن يبقي على إنسانيته و لا يتمرد عليها. و لماذا عليه أن يخضع لهذه المشروعية؟ الجواب هو أنّ البعد الإلهي في الإنسان ينسجم مع هذه المشروعية تمام الإنسجام، فيد التكوين جعلته بهذه الكيفية لمصلحة ترجع إلى الإنسان نفسه ماداميحمل هذه الحقيقة في أعماقه.
نعم: لو اختُزِلَ الإنسانُ في البعد المعنوي فقط لكان له الحق في طرح هذا السؤال ( السؤال عن أساس المشروعية ). هذا البعد ( المعنوي ) الذي يتجلى فيه المجتع المدني يتميّز بأمرٍ مهمهو التربية: التربية المعرفية و الثقافية و التربية الاقتصادية (التخطيطُ الحَسَن لكسب الثروة و توزيعها بشكل عادل) و التربية الرياضية. و هذا هو سرّ بروز المعاهد العلمية و الجامعات و المؤسسات الإقتصادية و الرياضية في المجتمع المدني. و هذه المؤسسات أسّسها الإنسان لتربية بعده الحيواني حتى لا يطغى عليه و يدمِّرُه. و الغاية التي يسعى إليها الفرد في المجتمع المدني هي الجاه القائم على أمرين أساسيين: 1. المقام الإجتماعي و المال و 2. رعاية القانون ( الفرار من القصاص ). و رعاية القانون ( الفرار من القصاص ) طريق في المجتمع المدني إلى الجاه. و السرّ في التركيز على القانون و رعايته في المجتع المدني حتى يستفيد الفرد أكثر من حياته المتجلية في جاهه:{ و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب }.
و حينما اكتشف المجتمع الغربي المشروعية الزائفة التي كانت تدّعيها الكنيسة المتواطئة مع النظام الملكي الظلامي، عمد إلى النظام الليبرالي العلماني الذي يعني فصل الكنيسة عن السياسة و إدارة المجتمع ( و لا يعني فصل الدين عن المجتمع كما قد يفهم البعض ذلك، فالدين له تأثيره الكبير على سياسة دوَل كبيرة: كإميريكا و آلمانيا و غيرهما من الدول ). و السرّ في عدول الغرب إلى النظام الليبرالي القائم على المجتمع المدني هو انتفاء المشروعية التي كانت تدعيها الكنيسة و النظام الملكي، فرجع إلى الأصل العقلائي الأساس:"لا حاكمية لأحد على أحد"، فسلّم الحكم للشعب يحكم نفسه بنفسه، و هذه هي الليبرالية و آليتها الأساس هي المجتمع المدني الذي يرتكز على الديمقراية و حرية الشعوب في إختيار من يمثلها في الحكم.

--------------------------------------------------------------------------------
أمّا البعد الحيواني فتتجلى فيه طبيعة الإنسان التي لا تحسِن إلاّ الجذب بالقوة الماسكة و الدفع بالقوة الغاضبة، تجذب ما ينسجم مع غرائزها الحيوانية و تدفع ما لا ينسجم معها أيضاً، و إذا عارضها معارض في ذلك عمدت إلى تدميره و الفتك به. و هذا سرّ بروز الأنظمة الدكتاتورية و غيرها من الأنظمة التي لا تعرف معنىً لإنسانية الإنسان. فالإنسان إذا اختُزِلَ في هذا البعد يكون أخس من الحيوان فهو مجرد دابة لا تحسن إلاّ العلف قيمتها تعادل ما يخرج من دبرها كما أشار إلى ذلك الأمير عليه السلام.
و أمّا البعد الإلهي في الإنسان، الذي يرتكز على الفطرة الإلهية المكنونة في أعماق الإنسان، فلا يؤمن بحاكمية البعد الحيواني على الحقيقة الإنسانية، بل يرى هذا البعد دمّاراً للحقيقة الإنسانية إذا بقي الإنسان على مستواه. و خير من وصف هذا البعد هو الصحيفة المقدسة القرآن الكريم:{ و العصر إنّ الإنسان لفي خُسر ... }العصر/1. فالبعد الإلهي في الإنسان يرتكز على مفردة الإيمان الذي تورث الإنسان الرشد و التكامل نحو الحق تعالى:{ فليستجيبوا لي، و ليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون } البقرة/ 186.
و أمّا موقف هذا البعد من البعد المعنوي المتجلي في المجتمع المدني فيؤمن به إذا كان هذا البعد خادماً للبعد الإلهي، فإن لم يكن كذلك فإنّه يراه لعباً و لهواً كما يصفه القرآن الكريم بذلك. و هذا الذي وصل إليه في نهاية المطاف إتجاه ما بعد الحداثة في الغرب الذي يقول أنّ العقل الغربي أنتج حضارة اختزلت الحقيقة الإنسان في حيوان يعيش الإستهلاك و الترفيه فقط. فالحياة التي ينشدها البعد الإلهي هي الحياة الطيّبة:{ من عمل عملاً صالحاً من ذكر و أنثى و هو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة }النحل/97. حياة تتجلى فيها حقيقة الإنسان في أعلى صورها يوم القيامة:{ يا أيتها النفس المطمئنّة أرجعي إلى ربك راضية مرضيّة فادخلي في عبادي و ادخلي جنّتي }الفجر/ 27-30. يقول العرفاء هذه الجنة نسبها الله تعالى إلى ذاته المقدسة هي جنة الذات التي تمثل أعلى مقامات القرب الإلهي. فالإمام المعصوم هم الوحيد الذي يتمكن من وضع الإنسان في محضر الله و يجعله يتذوق معنى الحياة و معنى أشياء الكون ( أيات الحق تعالى ).

--------------------------------------------------------------------------------
بعد هذه المقدمة الطويلة نطرح هذه المساءلة: من له الصلاحية و المكنة تكويناً ( العصمة ) و تشريعاً ( الحجيّة ) للأخذ بيد الإنسان – مهما كان دين هذا الإنسان و مهما كان مذهبه العَقَدي –و يعرج بحقيقته نحو الحق تعالى الذي تناديه هذه الحقيقة من أعماقها؟ الجواب: هو من أصطفاه الله تعالى العالمِ بحقائق الأشياء أزلاً و أبداً، و من نصّبه لهذه المهمة العظيمة. فكل من يستشكل على هذا الإصطفاء الإلهي فقد أعطى المشروعية للشيطان؛ لأنّ الشيطان هو أوّل من سنّ هذه السنة السيئة المخالفة لإرادة الله تعالى، و تبعه على ذلك البعض إلى عصر السقيفة و ما بعدها ( أوصي القاريء العزيز مطالعة الكتيب الذي كتبه صديقي المستبصر السيد يحيى اليمني الذي بيّن فيه نظرية الإصطفاء الإلهي كما تعرضها الرؤية القرآنية، و كشف الجماعة التي عارضت هذه السنة الإلهية من زمن الشيطان مروراً على قصة قابيل و هابيل إلى زمن السقيفة. عنوان الكتيب:"بنور القرآن اهتديت" كتيب نفيس جداً - جزاك الله خيراً أخي يحيى العزيز ) . نعم: من يقول أنا لست إنساناً، أنا حيوان و لي الحق أن أعيش كما يحلو لي في بعدي الحيواني أو المعنوي. نقول له: من حقك ذلك، لكن لا تتكلم معنا بلغة العقل و الحريات الإنسانية و المعنويات، و إذا اتفق و كلمتنا بهذه الأمور فأنت منافق عليم اللّسان و خبيث القلب. أنت مجرد حيوان بل أخس من الحيوان. فليحكمك قانون الغاب و الوحوش. إذن: مشروعية أهل البيت و حكومتهم عليهم السلام ترتكز على شيء يشكل لبّ الحقيقة الإنسانية، و خارج هذه الحقيقة ( البعد الإلهي ) فلا مشروعية و لا شيء من هذا القبيل، بل هناك يُدمرُ الإنسانُ و يفني نفسَه بنفسِه كما نرى ذلك بالعيان في النظام الغربي و غيره من الأنظمة البعيدة عن هذا خط أهل البيت.
قد يقول قائل: إذا كانت يدُ التكوين جعلت الإنسانَ يستجيب إلى مشروعية الأئمة (عليهم السلام) على أساس الحقيقة التي ينطوي عليها -كما تزعمون - فلماذا نرى التمرّد و الانحراف في دار الوجود؟ نقول: الوجوب الذي يفرضه العقل و الشرع على الحقيقة الإنسانية أمام من اصطفاه الله تعالى لهذا المنصب الإلهي المقدس وجوب تشريعي أي أنّ الإرادة التكوينية الإلهية شاءت أن تكون هذه الاستجابة و الطاعة لمن لهم هذه المشروعية الإلهية باختيار الإنسان حتى يتميّز بهذا التشريف الإلهي عن غيره من المخلوقات. فالتكليف الشرعي تكليف في صورته أمّا في حقيقته هو حق للإنسان، فالهندسة الإلهية التي صممت حقيقته اعطته هذا الحق تكويناً فجاء التكليف لتحقيق هذا الحق فعلاً و واقعاً. و التكليف أساسه الاختيار حتى نُصحِح الثواب و العقاب، فالإرادة التكوينة شاءت أن يتلبس الإنسان بهذه الكمالات الوجودية ( التي هي حق له في الواقع ) على أساس اختياره الذي قد يستعمله في طريق مخالف للتكليف فيتمرد على حقيقته.

--------------------------------------------------------------------------------

4. أبو النّور: في رأيكم، كيف يعرِفُ النّاسُ إمامَهم؟
الجواب: للإجابة على هذه المساءلة يتعيّن عليّ الإشارة إلى جملة من النقاط فيما يلي:
ألف. الإمام -مع عدم كونه نبياً- منصوب من الله تعالى شأنه في ذلك شأن النبي، و الرسول بصفته مبلِّغاً لتعاليم الله تعالى هو الذي يعرِّف الإمامَ للنّاس.
ب. بيّن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) أسماء الأئمة بمشخصاتها، من خلال أحاديثه المباركة، للنّاس.
ج. يعرِّف الإمامُ السابق الإمامَ اللاحق وصياً له حتى يستمِرَ خطُ الإمامة و تدوم قيادة الأمة و يتّم بذلك تطبيق ما أتى به النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) على المصاديق اللازمة و المناسبة.[ 14 ]
د. خصوصيات يتمتع بها الإمام المعصوم عليه السلام منها: المعجزة.[ 15 ]

5. أبو النّور: في نظركم ما هي السياسة و من هو السياسي ( القائد )؟
الجواب: للسياسة معانٍ متعددة و استعملات مختلفة، من جملتها: تكميل النفوس و تدبير الأمور و إدراة المجتمع بنحوٍ أحسن، و "الإمامة الفاضلة" و هذا المعنى هو الذي يشير إلى السياسية الإلهية التي يتزعّمها الأنبياء و الأولياء و الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ). فقد جاء في الرواية:{ فوِّضَ إلى النًّبي أمرُ الدّينِ و الأمّةِ ليسوسَ عبادَه }[ 16 ]، يقول الشيخ الطوسي في ذيل الآية المباركة { هو الذي بعث في الأمّيّين رسولاً ... و يعلّمهمُ الكتاب و الحكمة }: المراد من الحكمة هو "كيفية تسيير أمور الحيات الدنيوية الذي يعلمها الأنبياء للنّاس"[ 17 ]و جاء في الزيارة الجامعة في حقّ الأئمة:{ و ساسة العباد }، و على هذا الأساس قال الإمام المجتبى عليه السلام:{ ندبّنا الله لسياسة الأمّة }[ 18 ].
تأسيساً على هذا تضحى أصول السياسة في الرؤية الدينية عبارة عن:
ألف. إنّ حاكمية الله تعالى الصحيحة لا تتحقق على أرض الواقع إلاّ إذا كان على رأس الحكومة من اصطفاه الله تعالى لذلك، و هم من يشكّل "مثلّث الهداية":"النبي، الرسول و الإمام"، فهؤلاء هم الذين يستطيعون تطبيق الأوامر الإلهية تطبيقاً عينياً واقعياً في حياة النّاس اليومية، و تكون إرادتهم فانية في إرادة المولى تعالى:{ إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ لتحكم بين النّاس بما أراك الله }النساء/الآية105، فالساسة الحقيقيون هم فقط من يحققُ إرادة الله تعالى و يطبق تعاليمه تعالى على أرض الواقع.
عقد البخاري في صحيحه باباً يشير فيه إلى تعبّد النبي الحقيقي بتعاليم السماء:"باب ما كان النبي يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري أو لا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، و لم يقل برأيٍ و لا قياس، لقوله تعالى:{ لتحكم بما أراك الله }".[ 19 ]نعم: السياسة الحقيقية هي الإجراء الصحيح و الدقيق للأوامر الإلهية في دائرة القيادة و هداية النّاس، و الساسة الحقيقيون هم أنبياء الله تعالى و أوليائه.
أبو النّور: ففي نظركم أنّ الساسة الحقيقيين هم: النبي الأكرم ( صلى الله عليه و آله ) و الأئمة المعصومون؟
قلت: طبعاً: بإمكان أتباعهم الواقعيين العارفين بالإسلام و بسيرة النبي و الأئِمَة معرفة كاملة ... أن يكونوا ساسة إسلاميين. ثمّ قلت له: عفواً: هل تريد أن نستمر قليلاً في بحثنا؟ قال: بلى. قلت: أريد أن ألفت إنتباهك إلى حديث معروف عندنا بإسم حديث جابر.
حديث جابر:
قال جابر: أوصى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في آخر أيام حياته الظاهرية لأبنه الحسن المجتبى ( عليه السلام ) بالإمامة في أمته بعده، و جعل أبناءه الآخَرين: الحسين ( عليه السلام ) و محمد بن الحنفية و غيرهما من رؤوس الشيعة ... شهوداً على ذلك:{ يا بنيّ! أمرني رسول اللهُ أن أدفَعَ إليك كُتُبي و سلاحي كما أوْصي إليّ رسولُ الله و دفع إليّ كتبه و سلاحه و أمرني أن آمرك إذا حضرت الموتَ أن تدفعه إلى أخيك الحسين عليه السلام }، ثم ألتفت إلى الحسين عليه السلام مخاطباً له: { أمرك رسولُ الله أن تدفعه إلى ابنك هذا } ثم أخذ بيد السجّاد و قال: { يا بنيّ! و أمرك رسولُ الله أن تدفعه إلى إبنك محمد بن عليّ وأقرأه من رسول الله و منيّ السلام }، ثمّ نظر إلى الحسن عليه السلام و قال: { يا بنيّ! أنت وليّ الأمر }.[ 19 ]
ففي هذا الحديث الشريف يشير الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصراحة تامة إلى إمامة جملة من الوجودات على لسان رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) أشارت روايات أُخَر إلى أسمائهم الشريفة, ولم تكن رواية جابر في صدد بيان سائر أسمائهم عليهم السلام. و كما هو واضح لم يكن رسول الله (صلى الله عليه و آله) في هذا العمل الجليل إلاّ مبلغاً لتعاليم الله تعالى، و لهذا حينما سأله جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري:"هذا شيء منك أم من الله تعالى؟" فقال رسول الله:{ و الذي لا إله إلاّ هو إنّ هذا من الله }. فولىّ جابر بن النظر يريد راحلته، و هو يقول:"اللّهم إن كان ما يقول محمد حقّاً فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره، و قتله، و أنزل الله تعالى:{ سأل سائل بعذابٍ واقع [] للكافرين ليس له دافع [] من الله ذي المعارج }المعارج/الآية 1.[ 21 ]
و لمّا وصل دعبل الخزاعي إلى مَرو و دخل على الإمام الرضا (عليه السلام) و ذكر إمام الزمان (عجّ) فيما ذكر في كلامه، قال له الإمام الرضا (عليه السلام): { يا دعبلًُ! الإمام بعدي ابني ( محمد ) و بعد محمد ابنه عليّ و بعد عليّ ابنه الحسن و بعد الحسن ابنه الحجّة القائم، و هو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره }[ 22 ]. نفهم من هذه الأحاديث أنّ أسماء الأئمة عليهم السلام كانت معروفة قبل ولادتهم الشريفة.
أبو النّور: حقيقة: أستفدت منكم كثيراً فيما يتصل بآراء الشيعة الإمامية. يبدو لي أنكم تعبتم، و يظهر أنّ توقفكم هنا ( جدة ) لمدة قصيرة. غداً تتحرك قافلتنا في اتجاه مكة المكرمة. متى تتحركون أنتم إلى مكمة المكرمة؟
قلت له: نحن الإرانيين لكون عددِنا كبيراً جداً (عددنا يتجاوز 150 ألف نفراً ) نُقسَم إلى فوجين: الأوّل: يتحرك نحو المدينة المنورة ثم بعد ذلك يذهب إلى مكة المكرمة، و الثاني: ينتقل بعد انتهاء مراسم الحج إلى المدينة المنورة. و في هذه الأثناء أطلعت أبا النور على مكان قافلتنا و أعطيته عنوان الفندق الذي سنقيم فيه بمكة المكرمة.
أيات الشورى و مسألة الخلافة:
كنت جالساً مع بعض الأصدقاء في مطار جدة فإذا حضور أبي النور يلفت نظري من دون شعور مني. و قفت و حضنته. قال مسروراً: تأخّرت رحلتنا إلى مكة و سنبقى هنا غداً أيضاً. فالظاهر إنّي سأزاحمكم مرة أخرى و لهذا جئتكم. أصرّ على إخراجي من الجمع الذي كنت معه، و قال: لديّ بعض الأسئلة فقط، فلا أخذ كثيراً من وقت نومكم و استراحتكم، طبعاً: سمعت منكم نكات ( علمية ) جديدة.
6. أبو النّور: ألا تشير آيات الشورى، في نظركم، إلى حق النّاس في انتخاب الخليفة؟
الجواب: لا شكّ أنّ الآيات المرتبطة بالشورى لا علاقة لها بمسألة الخلافة مطلقاً، و على هذا الأساس عيّن أبو بكر، لمّا اقترب نعيُه، عمراً خليفة له على الأمة، و عمر أيضاً أوكل المسألة إلى شورى خاصة حدد عددها بنفسه، و أراد منها تعيين شخص منهم للخلافة. و إن كانا يدريان، كما تدلّ على ذلك شواهدٌ من التاريخ، أنّ لا حق لهما في هذا الأمر، باعتبار أنّ مسألة الإمامة حقٌ إلهي و لا حضَّ للنّاس فيها. و من يتأمل جيداً في الآيات من قبيل قوله تعالى:{ و شاورهم في الأمر }آل عمران/الآية 159 و قوله تعالى:{ و أمرهم شورى بينهم }الشورى/الآية 38، تتضح له بجلاء هذه الحقيقة و هي أنّ للنّاس فيما يتصل بشؤونهم الحقَّ أن يدلوا بآرائهم و أن يتدخلوا في مسائل تعيّن مصيرهم، و الآيات السابقة تشير إلى هذه الحقيقة. لكن في الأمور التي هي خارجة عن دائرة صلاحيتهم و لا تدخل في حيّز وظيفتهم فليس لهم حق التدخل فيها. فهل للنّاس الحق في تعيين النبي؟! و هل يُأخذ برأيهم في هذا الأمر؟! و هل قبول القرآن بصفته وحياً إلهياً و قانوناً للحياة موكول لآراء النّاس؟! و هل تعقل عملية الانتخاب فيما يتصل بهذه الأمور؟!
لا شكَّ أنّ الجواب بالنفي، فمسألة الإمامة كذلك تنتمي إلى المقولة نفسها، فالإمامة شأنها في ذلك شأن النبوّة تُعَدُ من المسائل المختّصة بالسماء و من الأمور الإلهية و لا شأن للنّاس بها. فمن هذه الناحية لا يوجد أيّ تفاوت بين النبوّة و الإمامة. فالآيات فوق لا تشمل القيادة العامة ( الزعامة على الأمة )، بل تختّص بشؤون النّاس اليومية كما تشير إلى هذه الحقيقة بجلاء الآية 36 من سورة الأحزاب:{ و ما كانَ لمؤمنٍ و لا مؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ و رَسولُهُ أمراً أن يَكُونَ لهم الخِيَرَةُ من أمرِهِم و من يَعْصِ اللهَ و رَسُولَه فقد ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً }، و الآية الكريمة:{ أطيعوا اللهَ و الرَّسولَ و أُوْلى الأمرِ منكم }النساء/الآية59. و لا شكّ أنّ الأمر الإلهي المتجلي في الآية الكريمة: { يا أيّها الرَّسول بلّغ ما أُنزِلَ إليك من ربِّك و إن لم تفعل فما بلّغت رسالَتَه و الله يعصمك من النّاس }المائدة/67 يؤكّد على أنّ مسألة الإمامة مثلها مثل النبوّة من الأمور الإلهية التي لا يحقّ للنّاس أن يدلوا برأيهم فيها.
و بالتالي: ليس من حقّ النّاس أن يدلوا برأيهم في مسائل من قبيل: من هو إمام الزمان؟ هل إمامكم الغائب يظهر أم لا؟ و في أيّ زمان يظهر؟ فهذه المسائل تتعلّق بالله تعالى و لا دخل للنّاس فيها، فيجب التفكيك بين المسائل [ أي: التفكيك بين ما هو من صلاحية الأمة و ما هو مختّص بالله تعالى ].
دور الإمامة:
أبو النور: يبدو أنكم تعبتم كثيراً، أعتذر لكم كثيراً، أمَلُ أن تبيِّنوا وفقاً لرؤياكم تأثير الإمامة في الجتمع.
7. أبو النّور: في رأيكم ما هو دور الإمامة في حياة النّاس الفردية و الجماعية؟
الجواب: دور الإمامة في حياة النّاس دور حيوي و مصيري شأنها في هذا المهام شأن النبوّة، نشير فيما يلي إلى جملة من أبعاد هذا الدور:
1. الإدارة السياسية الصحيحة التي تفضي إلى تطور المجتمع و تكامل أفراده، و هذا ما تعنيه "الإمامة الفاضلة"؛ فإنّ المراد من لفظة الحكمة في قوله تعالى:{ و يعلّمهم الكتاب و الحكمة ... الآية } هو كيفية التديّن و الإلتزام الديني و كيفية العيش بنحو أحسن و أفضل. يقول الشيخ الطوسي في تفسيره الشريف التبيان في تفسير قوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته و يزكّيهم و يعلّمهم الكتابَ و الحكمةَ و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }:"فإنّ الحكمة هي العلم الذي يعمل عليه فيما يخشى رَسُولاً أو يجيب أمر الدين و الدنيا".[ 23 ]
2. التفسير الصحيح لأحكام القرآن و السنة النبوية لا يتمّ إلاّ بالإمامة ( و سرّ إقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم كما نلمس ذلك في حديث الثقلين الشريف، يجب البحث عنه في هذه النكتة ). فعن طريق الإمامة نتمكن من فهم القرآن فهماً صحيحاً و عن طريق الإمامة أيضاً نتعلم كيفية إجراء الأحكام عملياً. فمن لم يؤمن بمسألة الإمامة يعجز عن فهم القرآن و لا يتيّسر له الوصول إلى مفاهيمه الراقية و إجراء تعاليم الدين بطريقة صحيحة.
3. الدفاع عن الأحكام و تعاليم الإسلامي و العمل على حفظها في مقابل الغزو الثقافي و تحريف الشياطين.
4. الوساطة في قبول الأعمال عند الله تعالى، يقول النبي الأكرم ( صلى الله عليه و آله ):{ لا ينفع عبداً عملُهُ إلاّ بمعرفةِ حقنا }[ 23 ]و يقول أيضاً:{ لو أنّ عبداً عبد الله ألف عام و ألف عام و ألف عام بين الركن و المقام و لقي الله عزَّ و جلَّ مبغِضاً لعليّ بن أبي طالبٍ و عِترتي، أكبّه الله على منخره يوم القيامة في نار جهنم }.[ 24 ]

5. المعرفة الصحيحة بوقائع التاريخ و حقائق العالَم.
التأمل الجيّد و الدقيق في كل عنصر من العناصر الخمسة السابقة يوصلنا إلى هذه الحقيقة و هي أنّه لا يمكن لغير الإمام المعصوم أن يدير المسار الإنساني، و إلى هذه الحقيقة يشير رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) في الرواية الشريفة: { ألزِموا مودتنا أهل البيت فإنّ من لقيَّ اللهَ و هو يَودُنا دخل الجنّةَ بشفاعتنا و الذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عملُهُ إلاَّ بمعرفة حقنا }[ 25 ].
8. أبو النّور: هل الإمامة، في رأيكم، تُعتَبرُ من أصول الدين أم من فروعه؟ كان أحد الطلاب من الشيعة يقول:"الإمامة من أصول الدين"، و كان يقول:"أصول الإعتقاد عندنا خمسة: 1. التوحيد، 2. العدل، 3. النبوة، 4. الإمامة، و 5. المَعاد"، فيما كان طالب آخر يقول: أنّ العدل و الإمامة من أصول المذهب. ما هو رأيكم فيما يتعلق بهذه المسألة؟*
الجواب: الإمامة لا تنحصر في البعد السياسي و الإجتماعي فقط، بل لها بعد عَقَدي أيضاً و تعد مسألة من مسائل أصول الدين؛ ذلك لأنّ مسألة النبوّة تشكّل أصلاً من أصول الدين فالإعتقاد بها و بالخاتمية وحتمية استمرار الإسلام و بقائه في العالَم يوجب علينا الإعتقاد بمن يحقق هذه الاستمرارية و إدامة النبوة، و هي الإمامة.
نسأل: هل النّاس بعد وفاة النبي الأكرم ( فدته روحي ) مكلَّفون بالتكاليف الإلهية أم غيرُ مكلفين؟ فإذا كانوا مكلفين فمن يعلّمهم هذه التكاليم و يبيّنها لهم؟
أبو النّور: فوراً قال: من القرآن.
قلت: و من يفسِّر القرآن؟!
قال: من عنده عِلمٌ بالقرآن.
قلت: إذا اتفق و وقع اختلاف في الرؤى فما هو المعيار أو الملاك الذي على أساسه نرجِّخ الصحيح منها ( الرؤى ) من غير الصحيح؟!
قال أبو النّور: المعيار هو من كان أعلمَ بحقائق الدين و كان اشتباهه أقل و كان على أساسٍ من دينه.
قلت: بغية الوصول إلى من وصفت عرّفنا اللهُ تعالى، من خلال أنبيائه، بالأئمة المعصومين، و لمّا كان دينُنا عالمياً و آخرَ دين ارتضاه اللهُ لعباده و كان النّاسُ في زمان رسول الله محتاجين في أمور دينهم و دنياهم إلى إنسان معصوم يتمثل في شخص النبي الأكرم ( صلى الله عليه و آله ) فبعد ارتحاله إلى ربه يبقى هذا الإحتياج قائماً، فيتعيّن وجود الإمام المعصوم (عليه السلام) لسدّ هذا الاحتياج و هذا النقص، فالاعتقاد بالإمامة نشأ من الاعتقاد بالنبوّة و الخاتمية.**
فلا يمكننا القول، على هذا الأساس، أنّ الإمامة ليست من أصول الدين، و أولائك الذين ظنّوا أنّ الإمامة من أصول المذهب لم يتأملوا جيداً في هذه المسألة الخطيرة و لم يلتفتوا إلى أهميتها الفائقة، أو أنّهم تفوهوا بهذا الكلام تبعاً لمصلحة في البين، و إلاّ فلا يمكن الشك أبداً في هذه القضية. و يكفي حجيّة في هذا المجال ما قاله الأمير عليّ عليه السلام: { جُعِلَتِ الموالاةُ أصلاً من أصولِ الدِّين }[ 26 ].
.