نيويورك - جاد الحاج - الحياة


قرأنا وراجعنا عدداً لا يستهان به من الكتب عن العراق والحرب الدائرة فيه في السنوات القليلة الفائتة. وكان لافتاً أن يوميات الجنود ومذكراتهم جاءت اقل من التوقعات العادية خصوصاً أن الناشرين اليوم نهمون لترويج كل ما يضمن مبيعاً في السوق العالمية. الا أن كايلا سميث التي أمضت سنة «عسكرية» كاملة هناك كسرت الصمت في كتاب أصاب عصفورين بحجر: المغامرة الحربية؛ والشرط النسوي في الجيش الأميركي.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

عنوان الكتاب مأخوذ من أرجوزة يرددها الجنود الأميركيون أثناء التدريب: «سيندي سيندي سيندي لو/ اّي لاف ماي رايفل مور ذان يو... أما عبارة «ملكة لعام واحد» فلا وجود لها في القاموس العسكري المعروف لأنها جزء من لغة الثكن الخاصة، يسبغها المجندون على كل جندية تتمكن من قطف حد أدنى من الاحترام خلال وجودها في مهمة خارج الولايات المتحدة. مع هذا تبدأ كايلا حكايتها قائلة: «أحياناً تراني أستيقظ قبل الفجر ناسية أنني سافلة. الهواء ليس ليلياً ولا هو نهاري، وأنا مستلقية وساكنة، احاول اجبار نفسي على التذكر ما إن كنت حقاً كذلك. سافلة.»

وتخلص كايلا الى شرح الفارق بين السافلة والساقطة: «الساقطة تمنح نفسها للجميع بلا تردد، أما السافلة فتختار. وفي الجيش الأميركي للمرأة خياران لا ثالث لهما، ساقطة أو سافلة». ما قبل المعارك، خلا لها وبعدها، الجنس هو الهاجس الأول يشغل عقول وأحاسيس الجنود في شكل لا يقبل الجدل. وما ترويه كايلا في معظم صفحاتها عن هذا الموضوع لا نستطيع نقله هنا مهما حاولنا الالتفاف على المفردات. ربما لأن الجنس في العقلية الأميركية المعاصرة مسألة شبه رياضية غير مشروطة سلفاً بأي اعتبار خلقي ثابت، داخل القفص الزوجي أو خارجه، لليلة عابرة أو لمدى الحياة، الجنس عرض وطلب، لا أكثر ولا أقل. «هل تريد الذهاب الى الفراش أم تفضل كرة السلة؟»

هناك 15 في المئة من الأناث في عديد الجيش الأميركي وبحسب القوانين الجديدة لهن الحق في 91 في المئة من الاختصاصات وفي 67 في المئة من مراكز القيادة. لكن البنتاغون يتعمد إبقاءهن خارج وطيس المعارك، لهن أن يقدن الدبابات المتطورة والسيارات المصفحة وأن يعملن في المهمات المعقدة وراء خطوط المواجهة، ولهن أن يتعلمن اللغات الأجنبية للترجمة والتجسس على غرار ما فعلت كايلا التي درست العربية والتحقت بوحدة التنصت والمراقبة. وكايلا، على رغم تعرضها للتفكك العائلي السائد في الولايات المتحدة وما له من آّثار سلبية على الطفولة والنشوء الصحي، وعلى رغم التحاقها المبكر بقبائل «البانك» مع ما في ذلك من تعاطٍ للمخدرات الثقيلة ناهيك بالعلاقات المشوشة، استطاعت أن تكمل دراستها الجامعية وأن تجلّي في المعهد العسكري. أما اتقانها اللغة العربية فمرده، إضافة الى الدراسة، علاقتها العاطفية المتينة بشاب خليجي عرفته أثناء الدراسة. طارق، الملقب «ريكي» ترك أثراً عميقاً في حياة كايلا. من خلاله تعرّفت الى وجه العربي «الآخر» غير المشوه بالتعميمات والتعميات المتداولة في الغرب. ومع أن الظروف فرّقت بينهما بعد سنتين، يلحظ قارى «أحب بندقيتي أكثر منك» أن الكاتبة لا تني تتذكر طارقها بإعجاب كبير.

«لا شك في أن تجربتي مع ريكي منحتني تعاطفاً وتفهماً واحتراماً أكثر للشعب العراقي. ما نظرت اليهم قط على انهم يؤمنون بديانة غريبة عجيبة. ولا اعتبرتهم غرباً. بالعكس، وجدت أموراً مريحة ومطمئنة في عشرة العرب».

وتكتب كايلي أن الجندية هي الموئل الأثير للأميركيين البيض من الطبقات الفقيرة، لأنها تمنحهم الفرصة النادرة للحصول على مركز محترم في مجتمع معجون كلياً في القيم المادية الصرف، ففي الجندية يستطيعون استكمال دراستهم الجامعية والتدرّب على مهن وحرف تؤهلهم للانصراف بعدها الى حياة أفضل. لذلك مهما كانت المخاطر والصعاب فإن أبناء وبنات «الحثالة البيض» لا مفرّ لهم من الجندية.

وتكرس كايلا فصلاً كاملاً لوصف التوصيات اللامعقولة السابقة للالتحاق بمهمة في العراق. هناك 25 توصية بعضها غير قابل للتصديق أو للتنفيذ ما يجعل الفصل كله متأرجحاً بين الحقيقة والخيال. ربما يستطيع المجند أن ينام على كيس رمل داخل سيارته وأن يغطس في الوحل حتى أذنيه ويبقى بلا حمام طوال أسبوعين مرتدياً أسمالاً ممزقة آكلاً أي شيء من دون ان يعرف ماذا في طعامه، الى ما هناك من قهر للذات، أما التجول مسلحاً وإطلاق النار على جوار بيته واقامة حواجز تفتيش في الحارة وتفجير عبوة من شأنها نشر الذعر بين جيرانه ناهيك عن تحطيم زجاج بيوتهم فإذا اعترضوا «قل لهم بسيطة، البلاستيك أفضل من الزجاج،» هذا وغيره من التصرفات ذات العدائية المفرطة، لا يمكن اعتباره أكثر من تحدّ سيكولوجي هدفه التوطئة لما سيأتي. إلا أن مجرّد التفكير في مثل هذه التدابير يحيلنا الى التأمل في حجم الهلع المسيطر على كامل التجربة العراقية في الجانب الأميركي، ومن ثم التأمل في حجم الخيبة والإحباط في صفوف الجنود الذين نسوا لماذا هم في العراق أو لماذا يعيشون على شفا الموت.

وتكتب كايلا أن معدل الانتحار ارتفع في شكل مضاعف عنه في العام 2003 حين كان 1.11 في كل مئة ألف جندي يخدم في العراق، ثم تروي قصة مجندة انتحرت ولم يمض على وصولها أكثر من أربعة شهور. تختم كايلا: «أحب بندقيتي أكثر منك» بهذه السطور: «... كونها حرباً مبنية على أكاذيب يدمر لدي بعضاً من معنى المشاركة فيها. ويحط من قيمة هدفها. (...) الكلام عنها وعن أسباب مشاركتنا فيها يبقى صعباً علي. علينا جميعاً. على كل واحد منا».

اسلوب كايلا سريع، مباشر، خال من الادعا الأدبي ومحتشد بالمصطلحات العسكرية المختصرة مما يعيق أحياناً مسار المطالعة للقارئ العادي. الا أنها قادرة على توريطنا في المشكلات اليومية المعيشة في الجبهة، التافه منها والمهم، ناقلة الى «الخارج» فصلاً واضحاً عن معنى «صدام الحضارات» في خضم المواجهات الدموية و»الفوضى الخلاقة»!