نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


سراييفو: عبد الباقي خليفة


محظوظون جدا أولئك الذين يعيشون في سراييفو، أو زاروا سراييفو، أو، سراي بوسنة، كما كانت تسمى في أزهى وأحلى وأروع أيامها، يوم كان عبق الوصل يقود التاريخ، بل محظوظون جدا، حتى أولئك الذين ينوون أو يحلمون بزيارة المدينة التي تشبه تضاريسها موج البحر، في حالة الهيجان، وتعيش توق الشباب في فصل الربيع، وترتدي ثوب الحكمة عند الشتاء، مدينة تتقن فن الاصول، فتقدم نفسها وفق الفصول، تعزف ألحانا مختلفة، من قيثارات متنوعة الطول، والالوان، والازمان، والامكنة. مدينة تعيش الفصول الاربعة، في اليوم الواحد أحيانا، وتعطي للمواسم حقها في التعبير، إلى حد الاشباع والاقناع. ففي مساحة لا تزيد عن 25 كيلومتراً مربعاً يتآخى الجبل والسهل والنهر والزهر في أماكن جميلة تغمرها الورود في الربيع، وتلفحها أشعة الشمس في الصيف، وتكتسي حلة بيضاء من الثلج في الشتاء.


ما أجمل الشتاء في سراييفو، رغم البرد القارس أحيانا، فالفصول كما يقول البوسنيون مثل الأطعمة تتنوع مذاقاتها، ولا يمكن الاستغناء عن خصوصياتها. لا يمكن الحديث عن سراييفو دون التطرق للاشياء الجميلة في سراييفو، رغم قيامها من بين الاموات عديد المرات، وفي كل مرة يكون لها موعد جديد مع التاريخ، ومع الحياة والنماء والخصب، إنها مدينة الخيال والاحلام. اغتيلت أكثر من مرة، وفي كل مرة تنفخ فيها الروح لتسخر من حفاري القبور، والعاملين ضد الطبيعة الجميلة، أصحاب مشروع تجفيف ماء البحر والمحيط، وتغيير لون السماء بدافع التجديد. سراييفو فيلسوفة كبيرة، تعلم زائريها فلسفتها الخاصة، بطريقتها الخاصة . تقول، هنا التاريخ، والحرب والسلام، والبحر والنهر والجبل والغاب والسهل والزهر. سراييفو ليست مناظر طبيعية فحسب، ولا فنادق ومنتجعات فقط، بل فلسفة حياة. لا تحتاج في سراييفو لتذهب بعيدا بحثا عن متعة جديدة للسفر وطريقة جديدة للترفيه، ففي كل فصل تقدم لك سراييفو ما تريده، وتعلمك كيف تتمتع به. لذلك احتلت سراييفو المرتبة 43 في سلم التصنيف العالمي للمدن السياحية، رغم ما في هذا التصنيف من غمط وفق تقديرات البعض، ومع ذلك جاءت في مرتبة أفضل من الكثير من المدن السياسية، مثل دوبرفونيك الكرواتية على الساحل الادرياتيكي التي يزورها الاثرياء العرب، والامراء، والاغنياء، والتي جاءت في المرتبة 59، بينما كانت العاصمة السلوفينية لوبليانا في المرتبة 84 والعاصمة الكرواتية زغرب في المرتبة 125 أما بلغراد ففي المرتبة 143.

وهكذا تغلبت سراييفو على جيرانها لانها تعرفهم ويعرفونها، واللوم على البعيدين الذين يجهلونها، وليتهم يعرفونها عن قرب. إنها قلب أوروبا، وعاصمة الجليد، ففيها منطقة بيالاشنيتسا الاسم الذي تردده كثيرا الاوساط الاولمبية، في هذه المنطقة التي تبعد نحو 25 كيلومتراً من وسط سراييفو، ورغم الجليد ناصع البياض، والحاد في بعض الاحيان كالسكين، يكون الجو أكثر حرارة من وسط العاصمة البوسنية، ولا سيما في الايام القادمة، وتحديدا في شهري ابريل (نيسان) ومايو (ايار) القادمين. وليس مهما إن كنت تجيد التزلج أم لا، وما إذا سبق لك ممارسة هذه الرياضة الجميلة والرشيقة، التي لا تحتاج للكثير من الرشاقة، فهناك معلمون سيهتمون بك، ولن يتركوك تسرح في ميدان بيالاشنيتسا الواسع، دون أن تمتلك زمام المزلاج والعصا، بعدها تشعر وكأنك تقود طائرة في الفضاء الفسيح، أو فارس من فرسان العرب في الزمن الغابر، على صهوة فرس جامح، في فيافي الصحراء الشاسعة .

وإن لم ترغب في التزلج على الطريقة التقليدية فيمكن للزائر أن يستأجر مركبا مزودا بمحرك يمكنك من اكتشاف جبال الجليد في سراييفو، والتي يحتاج المتزلجون لركوب مقاعد مشدودة في الهواء تضعك في نقطة معينة لتعود بمفردك إلى المنطلق. ولن تكون بمفردك، فالشعب البوسني مضياف، وسيتسابق الجميع لعرض خدماته عليك، وتذكر فإن سراييفو التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون ساكن فقط استضافت أكثر من مائة ألف شخص سنة 1984 اثناء الالعاب الاولمبية الشتوية الشهيرة. ومن المتوقع أن تستضيف تلك الالعاب مجددا في 2010. لقد تضاعف عدد السياح إلى البوسنة خلال السنوات التي أعقبت الحرب 10 مرات، لتصل إلى نحو 8 ملايين سائح في السنة. وفي هذا السياق تم إعادة بناء البنية التحتية من فنادق ومطاعم، ومقاه في نفس المنطقة، مما يجعل جميع مقومات التمتع بالاجازة متوفرة، فهناك ثلاثة فنادق بها أكثر من الف غرفة، والاسعار مناسبة جدا حيث حددت لتناسب دخل المواطن العادي.

ولراغبي الشواء والتمتع بالطبخ الشخصي فرصة لذلك، فكثير من العائلات، وحتى بعض الاصدقاء، يحملون معهم عند الذهاب إلى بيالاشنيتسا، معدات الشواء، واللحم أو السمك الطازج، ليقيموا مراسيم الشواء في الهواء الطلق، ويتمتعوا بأوقات لا تعوض بعيدا عن الضوضاء، وحيطان المكاتب، والمنازل، والشوارع الموبوءة بدخان السيارات وأصوات محركاتها، والصخب القاتل. وبامكان الزائر أن ينام في بيالاشنيتسا، أو يعود أدراجه إلى سراييفو حيث المطاعم المختلفة، والفنادق المتنوعة، والرياضات المتعددة. ويمكنك أن تختار بين العودة إلى سراييفو، والنوم في ضاحية ايليجا والتسمية مشتقة من الكلمة العربية «علاج»، لتتمتع في المركب السياحي الكبير، تارما، بالمياه الكبريتية العلاجية، التي استخدمها الرومان، وطورها العثمانيون، وأصبحت من أسس الطب الحديث، لا سيما في علاج الروماتيزم، وتصلب الشرايين، وهشاشة العظام وغيرها.

وذلك بأسعار زهيدة. وتوفر الفنادق في سراييفو، وعددها أكثر من 350 فندقا، خدمات المواصلات، وهي إلى جانب تأجير السيارات، أفضل من النقل العمومي، الذي يكون مزدحما أحيانا. وفي مطاعم سراييفو ما لذ وطاب من الاطعمة العربية، والبوسنية، والايطالية، والفرنسية، والتركية وغيرها، حتى الشوارما، متوفرة في سراييفو، والفلافل والطعمية، والحمص، والفول، والكبسة، والسباغيتي والبتزا، والكافيار، وغيره من أصناف الأطعمة، لكن لا يفوتك الاكل الشعبي مثل الصرمة، وبوسانسكي لوناتس، والبيتا التي تشبه شهرتها وشعبيتها في البوسنة شهرة الفول في مصر، أو السليق في السعودية، والتشباب، وهو الكباب البوسني، المنتشرة مطاعمه في سراييفو القديمة «سراييفو العثمانية» أو الباش تشارشيا، وتعني بالتركية السوق الكبير.

وإذا كان لك وقت إضافي يمكنك أن تزور متحف سراييفو القريب من فندق الهولداي إن، وهو فندق من فئة 3 نجوم، وبه 250 غرفة، وأسعاره مرتفعة نسبيا مقارنة بالفنادق من فئته، حيث تصل إلى 125 دولارا للفرد في الليلة تقريبا. بينما توجد فنادق ممتازة لا تزيد اسعارها عن 50 دولارا في الليلة الواحدة، وهناك أسعار أقل تصل إلى 25 دولارا، ومبيتات نظيفة بـ 5 دولارات فقط. أما إذا استضافتك عائلة فليس عليك سوى شراء بعض الهدايا لابنائها، وفق رغبتك، التي لا تكلف سوى 10 في المائة من نفقات المبيت في الفندق. ومن الغبن أن تزور سراييفو من دون الصعود على الجسر الذي انطلقت منه الحرب العالمية الاولى 1914 / 1919 حيث قتل ولي العهد النمساوي على يد أحد الصرب. أو النفق الذي بناه البوشناق المسلمون ليربط سراييفو بالمطار مما جعلهم يصمدون لمدة 4 سنوات كاملة في وجه الحصار (1992/1995).

إضافة لبعض المعالم الاثرية والتاريخية في سراييفو، وبعض المؤسسات الثقافية والحضارية. وستستمتع فعلا بسباق الخيل في «بوتمير» القريبة من «اليجا» احدى ضواحي سراييفو، وقد تذهب في رحلة لصيد السمك من نهر البوسنة، الذي اشتق منه اسم البلد، ولا يمكن أن تترك سراييفو قبل أن تتطلع على منبع النهر، ومنطقة فريلو بوسنا المحيطة به، وتركب العربات التي تجرها الخيل، أو تجرب بنفسك امتطاء صهوة حصان معد للايجار، لتجرب مدى سيطرتك على الوضع، وإذا ما كنت لا تزال فارسا كما تعتقد. واعلم أنك في كل هذا الطيف الواسع، لا تزال على مقربة من المطار الذي نزلت فيه عند قدومك الاول إلى سراييفو المدينة الساحرة التي ستحبها في الصيف والشتاء.