الاستقامة بين الفكر والعمل...خطبة الجمعة-سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله حفظه الله
سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
خطبةالجمعة 20 شوال 1433هـ الموافق 07 أيلول 2012 م
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيم
[justify]وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأَفَضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وَأَعَزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وَحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ وَعَلَى آَلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
يُحدِّثنا اللهُ سبحانه وتعالى في كِتابِهِ الكَريمِ عَن مَفهُومِ الإيمانِ الَّذي عَلَينَا أن نَلتَزِمَ بِهِ في حَياتِنَا، وَالَّذي يَجِبُ أن نَتَحرَّكَ على أَساسِهِ، حَتَّى نَحصُلَ على رِضَا اللهِ تعالى وَرَحمَتِه، وَتَوفيقِهِ وَتَسدِيدِهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، فَيقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ {فصلت:30-32}.
وَرَدَ في أسبَابِ النُّزُولِ، أنَّهُ لَمَّا نَزَلَت الآيَةُ في سُورَةِ هُود الَّتي تَقُول: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ {هود:112}، قَالَ عِندَهَا رَسُولُ اللهِ (ص): شَيَّبَتنِي سُورَةُ هُود.
وَالاستِقَامَةُ أيُّها الإخوَة، هِيَ إحدَى المَفَاهيمِ الَّتي نَطلُبُ مِنَ اللهِ أن يُوفِّقَنَا لَها، وهَذَا ما نَقرَأُهُ في سُورَةِ الفاتِحَة في كُلِّ صَلاةٍ، حِينَ نَقُولُ: اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {الفاتحة:6}، وَذَلِكَ لأنَّ إيمَانَ المُؤمِنَ لا يَكُونُ فَاعِلاً وَمُؤثِّراً في حَيَاتِه إلَّا إذَا كانَت مَعَهُ الاستِقَامَةُ في العَمَل، وَالاستِقَامَةُ في الالتِزَامِ الاعتِقَادِيِّ.
وَالاستِقَامَةُ، هيَ العُنوانُ الَّذي يَجِبُ أن يَحكُمَ تَصَرُّفَاتِنَا حَتَّى نَصِلَ إلى رِضَا اللهِ سبحانه وتعالى، لأنَّ اللهَ يُريدُ لَنَا أن نَتَحرَّكَ في الخَطِّ الوَاضِحِ الَّذي لَيسَ فِيهِ مُدَاهَنَةٌ أو مُوَارَبَةٌ أو التِوَاءٌ في المَوَاقِف، وَهُو مَا نَتَعَلَّمُه مِن أَمِيرِ المُؤمِنينَ(ع) الَّذي كانَ يُعَانِي مِنَ الأسَالِيبِ المُلتَوِيَةِ الَّتي يَتَّبِعُهَا النَّاسُ مِن حَولِهِ، وَالَّتي يَخرُجُونَ بِهَا عَن الصِّرَاطِ المُستَقيمِ، وَأبرَزُهُم مُعَاوِيَة، ولِذَلِكَ قَال(ع): وَاللهِ، مَا مُعَاوِيَةُ بِأدهَى مِنِّي، ولَكِنَّهُ يَغدُرُ ويَفجُر. وَلَولَا كَرَاهِيَةُ الغَدرِ لَكُنتُ مِن أَدهَى النَّاسِ، وَلَكِن كُلُّ غُدرَةٍ فُجرَة، وكُلُّ فُجرَةٍ كُفرَة.
وَنَحنُ عَلَينَا أن نَلتَزِمَ بِخَطِّ رَسُولِ اللهِ(ص)، وَخَطِّ أمِيرِ المُؤمِنِينَ(ع)، وَهَذَا هُوَ مَعنَى الإسلامِ وَمَعنَى التَّشيُّع، أن نَلتَزِمَ السَّيرَ في الخَطِّ المُستَقيمِ لأنَّهُ الخَطُّ الّذي يُوصِلُنَا إلَى رِضَا الله تعالى، وَلِذَلِكَ عَلَينَا أن نَتَعرَّفَ عَلى مُفرَدَاتِ هَذا الخَطِّ، وَكَيفَ يُمكِنُ لَنَا أن نَسيرَ عَلَيه حتَّى نَبلُغَ رِضَا اللهِ وَنَنَالَ مَحَبَّتَهُ وَتَسدِيدَه .
وَالإسلامُ جَاءَ ليَقُولَ لنَا أنَّ الإيمَانَ هُوَ أن نَقبَلَ بِما يَحكُمُ بِهِ العَقلُ وَالفِطرَة، فَنعتَقِدَ بِوُجُودِ الله، وَبِنُبُوَّةِ أنَبِيَائِه، وَنُؤمِنَ بِمَلائِكَتِه وَبكُتُبِه، وَيَكونَ اعتِقَادُنا هَذَا تَامّاً وَمُستَنِداً إلى الأدِلَّةِ الثَّابِتَةِ وَالبَرَاهِينِ الوَاضِحَةِ حَتَّى يَكُونَ صَحيحاً غَيرَ مُنحَرِف، وَعَلَيهِ فَلا يَكفِي أن نَعتَقِدَ بِوُجُودِ اللهِ ثُمَّ لا نَعتَقِدَ مَعَهُ بِنُبُوَّةِ الأنبِيَاءِ، أو إنزَالِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ، أو وُجُودِ المَلائِكَةِ، أو أنَّ اللهَ تعالى عَادِلٌ لا يَظلِم، وَغَيرُ ذَلِكَ مِنَ الاعتِقَادَاتِ الفِكرِيَّة...
وَالإسلامُ جَاءَ لِيَقُولَ كَذِلِكَ أنَّ الإيمَانَ يَحمِلُ بُعداً آخَرَ غَيرَ هَذا البُعدِ الفِكريّ، وهُو البُعدُ العَمَلِيّ والالتِزَامُ الفِعلِيّ بِكُلِّ مَا يَحكُم بِه العَقلُ والفِطرَةُ كَذلِكَ مِن وُجُوبِ شُكرِ الخَالِقِ وَطَاعَتِهِ في كُلِّ أوَامِرِهِ ونَواهِيه.
وَالإيمانُ أيُّها الإخوَةُ لا يَكتَمِلُ إلا بِهذَينِ البُعدَين: الفِكرِيِّ وَالعَمَلِيّ، وهذا ما جاءَت بِهِ الآيَةُ الَّتي ذَكَرناها: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ...{فصلت:30-32} فَالإيمَانُ القَلبِيُّ لا بُدَّ مِن أن يَتَرَافَقَ مَعَ إِيمَانٍ عَمَلِيٍّ، وَاستِقَامَةٍ عَمَلِيَّة.
وَتَسمَعُونَ الحَدِيثَ الَّذي رَوَاه الإمَامُ عَليٌّ(ع) عَن رَسُولِ اللهِ(ص)، حَيثُ قَال: الإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ.
وَالإيمانُ باللهِ تعالى يَعني الإيمَانَ بالقُوَّةِ الَّتي تَستَحِقُّ أن يَخضَعَ لَها الإنسَانُ وَيُطِيعَهَا ويُوَجِّهَ حَيَاتَهُ علَى أسَاسِهَا، لأنَّ حَيَاتَهُ، خَاضِعَة ٌفي وُجُودِهَا وَاستِمرَارِهَا لهَذِهِ القُوَّة.
وَلِذَلِكَ فإنَّ الاستِقَامَةَ هِي في اتِّبَاعِ أوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، وَالَّتي شَرَّعَهَا سبحانه لِمَصلَحَةِ النَّاسِ وَخَيرِهِم وَانتِظَامِ حَيَاتِهِم.
وَمِنَ الاستِقَامَة، أن يَكُونَ نَظَرُنَا إلَى اللهِ تعالى وَحَدَه، فنُرَاعِيهِ ونُرَاقِبُهُ في كُلِّ شَيء، وَفي كُلِّ وَقت؛ حينَ نَعمَل، وَحِينَ نُفَكِّر، وَحِينَ نَرتَاحُ مِن تَعَبِ العَمَلِ وَعَنَائه، لأنَّ الشَّيطَانَ يَتَربَّصُ بِنَا في كُلَّ هَذِهِ الأوقَاتِ، وَعِندَمَا نَغفَلُ عَن ذِكرِ اللهِ، وَاستِحضَارِ قُوَّتِهِ وَعَظَمَتِه وَحَقِّهِ العَظيمِ عَلَينَا، فإنَّنا سَوفَ نَقَعُ فَريسَةَ وَسوَسَةِ شَيَاطِينِ الإنسِ وَالجِنّ، وَفَريسَةَ وَسوَسَةِ النَّفسِ الأمَّارَةِ بالسُّوء، وَنِنحِرِفَ بِذَلِكَ عَن الصِّرَاطِ المُستَقِيم، وَنَبتَعِدَ عَن الاستِقَامَةِ الَّتي أرَادَهَا اللهُ تعالى أن تَحكُمَ حَيَاتَنَا وَوَاقِعَنَا.
وَمِنَ الاستِقَامَةِ كذَلِك، مُجَاهَدَةُ النَّفسِ حِينَ تَدعُونَا إلى ارتِكَابِ الشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَة، وَالانصِيَاعِ إلى الغَرَائزِ الحَيَوَانِيَّة، الَّتي تَنحَطُّ بالإنسَانِ العَاقِلِ عَن إنسَانيِّتِهِ إلى مَرتَبَةِ الحَيَوانِ غَيرِ العَاقِل.
وَمِنَ الاستِقَامَةِ أن نُواجِهَ السَّيِّئةَ بالحَسَنَة: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34}.
وَمَن الاستِقَامَةِ كَذَلِكَ؛ أن نُرَاعِي اللهَ في المُجتَمَعَاتِ الَّتي نَعيشُ فِيهَا فَلا نَسلُكَ الطُّرُقَ المُلتَوِيَةَ في عَلاقاتِنا مَعَ الآخَرِين، مِن أجلِ المَنَافِعِ الشَّخصِيَّة، سَوَاءً في عَلاقَاتِنَا الفَردِيَّةِ أو الاجتِمَاعِيَّةِ أو السِّيَاسِيَّة، فلا نُصَاحِبُ أهلَ السُّوءِ وَالانحِرَاف، وَلا نُشَاوِرُهُم في أمُورِنَا وَفي أمُورِ الأمَّة؛ لأنَّهُم لَن يُشِيرُوا عَلَينا إلا بِمَا يَنسَجِمُ مَعَ مَصَالِحِهِمُ الخَاصَّةِ وَأفكَارِهِم المُلتَوِيَةِ وَالمُنحَرِفَة، وَلا نَتَّخِذُ الكَافِرينَ وَلَا المُستَكبِرينَ أولِيَاءَ مِن دُونِ المُؤمِنينَ - سَواءً كَانُوا مُلُوكاً أَو أُمَرَاءَ أَو زُعَمَاءَ أحزَابٍ وَتَيَّارَاتٍ سِيَاسِيَّة – وَاللهُ تعالى يَقُولُ: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَعِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا {النساء: 138-139}
أيُّها الإخوَةُ المُؤمِنون
إنَّ الاستِقَامَةَ في خَطِّ اللهِ سبحانه وتعالى، قَد تُكَلِّفُنا الكَثيرَ مِنَ التَّضحِياتِ وَمِنَ الصَّبرِ على الأذَى وَالصُّمُودِ أمَامَ الإغرَاءَاتِ المَعنَوِيَّةِ وَالمَادِّيَّةِ الَّتي يُريدُ المُستَكبِرُونَ مِن خِلالِهَا أن يَحرِفُونَنَا عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ الَّذي أرَادَ اللهُ تعالى لَنا أن نَسيرَ عَلَيهِ وَنَلتَزِمَ بِه، وَلِهَذَا فإنَّ الأُمَّةَ كُلَّهَا اليَومَ مَدْعُوَّةٌ إلى الاستِقَامَةِ على خَطِّ اللهِ، خَطِّ الأنبِيَاءِ وَالأئمَّةِ وَالعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِين، في مُواجَهَةِ الاستِكبَارِ الأمريكِيِّ وَالغَربيِّ وَالصِّهيُونِيِّ وَأذنَابِه في المَنطِقَة.
وَقَد وَضَعَ لنا الإمَامُ الخُمَينِيُّ(ره) بِحِكمَتِهِ وَبَصِيرَتِه الثَّاقِبَةِ قَاعِدَةً لا بُدَّ لنَا أن نَستَحضِرَهَا دَائماً أمَامَ المَشَاكِلِ الَّتي تُواجِهُهَا الأُمَّة، حِينَ اعتَبَرَ أنَّ الاستِكبَارَ الأمريكِيَّ هوَ أسَاسُ كُلِّ بَلاءَاتِ المُستَضعَفينَ فِي العَالَم، وَلِذا قَال: لَو قَالَت أمرِيكَا لا إلَهَ إلَّا اللهُ، لَمَا صَدَّقنَاهَا.
وَهَذا مَا نَستَفيدُهُ أيضاً مِنَ العَلَّامَةِ المَرجِع السَّيِّدِ فَضلِ الله(ره) الَّذي أكَّدَ هَذا المَبدَأَ في حَرَكَتِهِ وَجِهَادِه عِندَمَا كَانَ يَقُولُ: فَتِّشُوا عَن أمرِيكَا فِي كُلِّ المَصَائِبِ الَّتي تَنزِلُ بالعَالَمِ الإسلاميّ، وَهُو الَّذي كَانَ يَدعُو إلى التَّبصُّرِ وَالوَعيِ في قِرَاءَةِ الأحدَاثِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتي تَعصِفُ بالمَنطِقَةِ وَمُواجَهَتِها، وَكانَ يُؤكِّدُ دَائماً على مُواجَهَةِ الاستِكبَارِ الأمريكِيِّ وَالصِّهيونيِّ بأشكَالِهِ المُختَلِفَة، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ الاستِخبَارَاتِ الأمريكيَّةِ وَالغربيَّةِ لا تُوظِّفُ عُمَلاءَ عَادِيِّينَ فَقَط، بَل تَصنَعُ مُلُوكاً وَأُمَرَاءَ وَزُعَمَاءَ وَقَادَةَ دُوَل، وَلِذَلِكَ كَانَ يَدعُو إلى الصُّمُودِ مَعَ المُستَضعَفِينَ وَالمُجَاهِدِينَ وَالمُقَاوِمِينَ الثَّابِتينَ على الخَطِّ المُستَقِيمِ في مُواجَهَةِ الاستِكبَار، مُستَحضِراً قولَ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {الكهف:28}
وَمِن هُنَا فإنَّ عَلَينَا أن نَستَقِيمَ عَلى هَذَا الخَطِّ خَاصَّةً في هَذه الأوقَاتِ العَصِيبَةِ الَّتي تَعصِفُ فيها رياحُ الفِتَنِ وَالمؤمَراتِ في بقاعٍ مُتعدِّدَةٍ مِن عالَمِنا العَرَبيَّ وَالإسلاميّ، فَلا نُضيِّعُ البُوصِلَةَ وَلا نَضِلُّ الطَّريق، وَلا نَنحرِفُ عَن سَبيلِ الله تعالى في ذَلِكَ كُلِّه، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {الأنعام:153}
ومِن هَذا المَنظورِ الإسلاميِّ الأَصيلِ نُحاولُ أن نُطِلَّ على قَضايانا وَأوضاعِنا وَمَشاكِلِ عالَمِنا العربيِّ والإسلاميّ، لِنَعَرِفَ ماذا يَجري حَولَنا وَماذا يُخطَّطُ لَنا، وَلِنُحَدِّدَ مَوقِفَنا مِن ذَلِكَ كُلِّه.
في فِلسطينَ المُحتَلَّة، لا يَزالُ الشَّعبُ الفِلسطينيُّ يَتَعرَّضُ يَومياً لمُختَلَفِ أنواعِ الاعتِداءاتِ مِن قِبَلِ العدوُّ الصِّهيونيِّ الغاصِب، هَذِهِ الاعتِداءاتِ الَّتي كانَت وَما زالَت سياسَةً مُمَنهَجَةً يتَّبِعُها هذا العَدوُّ في تَعامُلِهِ مَعَ الفلسطينيِّين، مُستَبيحاً أَرضَهُم وَسَماءَهُم وَدِماءَهُم وَأموالَهُم وَكَرامتَهُم وَمُقدَّساتِهِم وَأَبسَطِ حُقوقِهِم الإنسانيَّة، وَهوَ يُنَفِّذُ ذَلِكَ بِواسِطَةِ جَيشِ إحتِلالِهِ تارَةً، وَمَجموعاتِ المُستَوطِنينَ وَالمُغتَصِبينَ الصَّهاينَةِ أُخرى، مُستَغِلاً الأَوضاعَ الصَّعبَةَ الَّتي يَمُرُّ بِها العَرَبُ وَالمُسلِمونَ الَّذينَ يُعانونَ مِنَ حَالَةِ انعِدامِ الوَزنِ الَّتي تَمُرُّ بِها مُعظَمُ دُوَلِهِم وَحُكوماتِهِم المُستَسلِمَةِ للإرادَةِ الأمريكيَّة.
وَهكَذا بِتنا نَسمَعُ في كُلِّ يَومٍ عَن غاراتٍ تَشُنُّها الطَّائِراتُ الحَربيَّةُ الصِّهيونيَّةُ على غزَّةَ مُستَهدِفَةً البَشَرَ وَالحَجَر، وَعَن قَصفٍ يَقومُ بِهِ المُستَوطِنونَ الصَّهاينَةِ لِهَذِهِ المَنطِقَةِ أو تِلك، وَعن شُهداءَ وَجَرحى فِلسطِينيُّونَ يَسقُطونَ يَومياً بِفِعلِ سياسَةِ القَتلِ الوَحشيَّةِ هَذِه، وَعَن مقدَّساتٍ إسلاميَّةٍ وَمَسيحيَّةٍ تُدنَّسُ وَتُنتَهكُ حُرمَتُها بِشَكلٍ سافِرٍ وَمُخزٍ دونَ أن يَرِفَّ جَفنٌ لأحدٍ في هذا العالَمِ المُستَكبِر، وَدونَ أن نَسمَعَ صَوتاً أمريكيّاً أَو غَربيّاً مُستَنكِراً أَو مُديناً، لا بَل إنَّ العالَمَ المُستَكبِرَ وَفي مُقدِّمتِهِ أَمريكا يَغُضُّ الطَّرفَ عَن كُلِّ هَذِهِ الجَرائِمِ الصِّهيونيَّة، بِفِعلِ التَّحالُفاتِ الاستراتيجيَّةِ الَّتي تَربِطُهُ بالكيانِ الغاصِب، أمَّا ما نَسمَعُهُ عَن تَبايُناتٍ سياسيَّةٍ مَع هذا الكيانِ بينَ الحينِ وَالآَخَرِ فَلَيسَت إلَّا مِن قَبيلِ اختِلافِ الأبِ الرَّاعي مَعَ ابنِهِ المُشاغِبِ والمُتَهوِّر، حِمايةً لهُ مِن نَفسِهِ وَمَنعاً لَهُ مِن أن يَرتَكِبَ حَمَاقاتٍ جُنونيَّةٍ قَد تُؤدِّي بِهِ إلى الهاوية.
أمَّا سوريّا، فَتَبقَى في قَلبِ دَوَامَةِ الصِّراعِ الإقليميِّ وَالدَّوليِّ، حَيثُ يَستَمِرُ نَزفُ الدَّمِّ السُّوريِّ، وَتَستَمِرُ التَّفجيراتُ وَالعَمَليَّاتُ الإجراميَّةُ الَّتي تَرفَعُ شِعاراتِ الثَّورة، وَتَقتِلُ كُلَّ يومٍ المَزيدَ مِنَ المَدَنييِّن، وَيبرِزُ الأسلوبُ التَّكفيريُّ الوَحشيُّ الَّذي لَم تَعهَدهُ سوريّا مِن قَبَل، وَالَّذي يُوضِحُ خَلفيَّةَ هَذِهِ الجماعات الَّتي بَاتَ مَعلُوماً مَا تَتَلَقَّاهُ مِن دَعمٍ ماديٍّ وَعَسكريٍّ مُباشِرٍ مِن الإدارَةِ الأمريكيَّةِ الَّتي تُقيمُ مُعسكراتٍ مَعروفَةٍ في تُركيّا لتَدريبِ هَذِهِ الجَماعات، كَما تُوعِزُ إلى أذنابِها في المَنطِقَةِ لِضَخِّ أموالِ النَّفطِ مِن أجلِ َتسعيرِ الأوضاعِ المُشتَعِلَةِ وَالنَّفخِ في نِيرانِ الفِتنَةِ المَذهبيَّةِ الَّتي تَخدِمُ المَشروعَ الأمريكيَّ الرَّامي إلى تَفتيتِ المنطِقَةِ لِصالِحِ العدوِّ الصِّهيونيّ.
إنَّ مُشكِلَةَ هَؤلاءِ مَعَ النِّظامِ السُّوريِّ ليسَت مَسألَةَ الحُريَّاتِ وَحُقوقِ الإنسان، وَإلَّا فَكيفَ يَدعَمونَ أكثَرَ الأنظِمَةِ تَخلُّفاً وَقَمعاً لِحقوقِ الإنسان؟؟!! لَكِنَّ مُشكِلَةَ هؤلاءِ مَع سوريّا أنَّها تَرفُضُ أن تَكونَ في الفَلَكِ الأمريكيِّ وَأنَّها تَنخَرِطُ في مِحورِ المُقاومَةِ مع إيرانَ الإسلام، كما أنَّها تَدعَمُ المُقاومَةَ في لُبنانَ وَفِلسطينَ بِشَكلٍ غيرِ مَحدود، الأمرُ الَّذي لَم يَفعَلهُ أيُّ نِظامٍ عَربيٍّ مِنَ الأنظِمَةِ العَميلة، وَقَد سَمِعنا مُؤخَّراً تَصريحاتِ عَدَدٍ مِن كِبارِ القَادَةِ العَسكَرييِّنَ الصَّهاينَةِ الَّذينَ يَدعونَ لِبَذلِ كُلِّ الجُهودِ لإسقاطِ النِّظامِ في سوريّا، وَهذا يَكشِفُ بِشَكلٍ جَليٍّ طَبيعَةَ المُؤامَرَةِ الَّتي تَستَهدِفُ سوريّا.
وّأخيراً، في لُبنان، الَّذي يبقَى غَيرَ بعيدٍ عَن تَداعياتِ الحَريقِ السُّوريِّ، حيثُ تُحاولُ جَماعاتُ 14 آذار أن تُقحِمَ البَلَدَ بِشَكلٍ مُباشِرٍ، في دوَّامَةِ الصِّراعِ في سوريا، ليَكونَ طَرَفاً في المُؤامَرَةِ الدَّوليَّةِ على مِحورِ المُقاومَة، فَكَيفَ يا تُرى تَرتَفِعُ أصواتُ هَؤلاءِ بِدَعوى حِفظِ السِّيادةِ اللبنانيَّةِ مِنَ التَّدخُّل السُّوريِّ المَزعومِ، في حين لا يُحرِّكون ساكناً أمام تَدَفُّقِ السِّلاحِ وَالمالِ وَالمُقاتِلينَ مِن لُبنانَ إلى سوريّا، وَلا يُحرِّكونَ ساكِناً أيضاً أَمامَ كُلِّ الاختِراقاتِ الصِّهيونيَّةِ لِسيادَةِ لُبنان، إلَّا إذا كانَ حالُهُم كَحَالِ أسيادِهِم، بِحيثُ باتوا يَعتبِرونَ إسرائيلَ دَولةً ديموقراطيَّةً صَديقَةً، وَينظُرونَ إلى سوريّا باعتِبارِها العَدوَّ الَّذي يَنبغَي إسقاطُه.
لِذلكَ يَجِبُ أن تَبقَى البُوصِلَةُ مُتَّجِهَةً جَنوباً، في ظِلِّ تَصاعُدِ التَّهديداتِ الصِّهيونيِّةِ باستِغلالِ الأوضاعِ للعدوانِ على لُبنان، الأمرُ الَّذي يَستَدعي إبقاءَ مُجاهدي المُقاومَةِ في حالِ جُهوزيَّةٍ وَتأهُّبٍ لِصَدِّ أيِّ عُدوانٍ مُحتَمَل، وَتلقينِ العدوِّ دَرساً جديداً بَعدَ دَرسِ حَربِ تموز 2006م.
إنَّ المُقاومَةَ هيَ النُّقطَةُ المُضيئَةُ في ظُلُماتِ هذا العالَمِ العَربيِّ الخانِع، الَّذي تَتغيَّرُ فيهِ الوجوهُ وَالقياداتُ، وَلا يتغيَّرُ –وَلِلأَسَفِ الشَّديد- ولاءُ حُكَّامِهِ لأمريكا.
أمَّا على المُستوى الدَّاخليّ، فلا زالَ الشَّعبُ يُعاني في أَوضاعِهِ المَعيشيَّةِ مِن مَشاكِلَ مُستَمِرَّةٍ لا تَجِدُ لَها حُلولاً جَذريَّة، الأمرُ الَّذي يَفرِضُ على المَسؤولينَ تَحَمُّلُ مسؤوليَّاتِهِم تُجاهَ النَّاس، ومِن هُنا فَإنَّ إقرارَ الحُكومَةِ لِسِلسِلَةِ الرُّتَبِ والرَّواتِبِ هُوَ خُطوةٌ يَجِبُ أن تُستَتبَعَ بِخُطواتٍ فاعِلَةٍ تُقدِّمُ الحُلولَ لِكُلِّ هَذِهِ المَشاكِلِ المُزمِنَةِ على مُستَوى الكَهرباءِ وَالمياهِ وَارتِفاعِ الأسعار، حتَّى لا يَبقَى الشَّعبُ ضَحيَّةً لاستِهتارِ الحُكوماتِ المُتعاقِبة.
أيُّها المسؤولون
إتَّقوا اللهَ في عِبادِهِ وَبِلادِهِ فإنَّكُم مَسؤولونَ حتَّى عَنِ البِقَاعِ وَالبَهائِم.
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ {التوبة:105}
وَالحمدُ للهِ ربِّ العالَمين.[/justify]
#635f5f
المصدر: شذرات عاملية