الحلقة الأولى
كتابات - احمد الكاتب
هل يوجد مبرر واقعي وجدي للتمايز بين المسلمين اليوم؟
وهل يوجد معنى حيوي للفرق بين الشيعة والسنة؟
وهل يوجد مفهوم حقيقي ومعاصر لمصطلحي:"الشيعة" و "السنة"؟
أم إن هذه مفاهيم ومصطلحات تاريخية قديمة وجوفاء؟ وان الأمة الإسلامية اليوم قد تجاوزت الخلاف التاريخي القديم الذي حدث بين المسلمين في القرون الأولى حول شروط الخلافة ومواصفات الخليفة ومن هو أحق بها. وذلك بعد مضي أربعة عشر قرنا على ذلك الخلاف ، وعدم وجود مصاديق خارجية لأهل البيت أو الأئمة المعصومين الذين قال الشيعة الامامية بانحصار الحق الشرعي في الخلافة بهم، من جهة، وكذلك انقراض الخلفاء العباسيين أو العثمانيين الذين قال السنة بحقهم في الخلافة ، من جهة أخرى.
وإذا كان ثمة في التاريخ السحيق معنى معقول للخلاف الذي حدث بين المسلمين الأوائل حول الخلافة، فان ذلك الخلاف، لاشك ، قد انطوى مع الزمن ، ولم يعد له أي معنى جدي أو حيوي معاصر، ولم يعد يتمثل اليوم سوى في بعض المخلفات والقشور والعادات والطقوس والرواسب التاريخية.
ومن هنا فان الأمة الإسلامية – شيعة وسنة – بأمس الحاجة اليوم لمراجعة ذلك الخلاف التاريخي ودراسته بدقة من اجل التخلص من رواسبه السلبية، والتحرر من مخلفاته التي قد لا تزال تشدخ الوحدة النفسية للمسلمين.. أو تؤجج بعض المعارك الوهمية بينهم.
وفي الحقيقة ان كلا من الشيعة والسنة بحاجة الى دراسة الأسس والعناصر التي كونت كلا من المذهبين السياسيين التاريخيين "التشيع" و "التسنن" وملاحظة التطورات الجذرية التي طرأت على المذهبين عبر التاريخ، ومعرفة العناصر المنقرضة والمظاهر المتبقية.. لعلهم يدركون أنهم لا يتمسكون اليوم سوى بأسماء وهمية وشعارات فارغة.. وأن الخلاف الجوهري بينهما قد ذهب مع التاريخ.
ان المشكلة تكمن في رؤية كل فريق للفريق الآخر بعيون تاريخية واعتمادا على التراث القديم، بدلا من النظر الى واقع الطرف الآخر اليوم ومدى وعيه والتزامه بالنظريات القديمة التي كونت المذهب. وتشتد هذه النظرة التاريخية الخاطئة المخالفة للواقع ، خصوصا لدى الجماعات السلفية من الشيعة والسنة التي تعيش في التاريخ وترفض الحياة في العصر الراهن. وإذا ما تسنى لهذه الجماعات ترجمة نظراتها السلبية الى مواقف متشنجة مع الآخر، فإنها قد تنجح في إثارة وتعزيز العصبية المضادة.
وبعيدا عن الجدل الطائفي العقيم الذي لم يستطع ولن يستطيع إعادة عقارب الساعة الى الوراء، فان من الأجدى القيام بالنقد الذاتي ومراجعة الفكر السياسي الموروث وتصحيحه، من أجل بناء نظام سياسي جديد أكثر عدلا وحرية واستقرارا. إذ لا يستطيع أحد ان يدعي أن الأمة الإسلامية اليوم بكل فرقها وطوائفها تعيش حياة سياسية أفضل وأرقى من الآخرين.
انطلاقا من هذه الرؤية قمت قبل أكثر من عشر سنوات بمراجعة الفكر السياسي الشيعي، الذي كنت أؤمن به وأدعو اليه، وقد اكتشفت بعد عملية المراجعة التي استغرقت مني عدة أعوام، أن كثيرا من الأفكار الشائعة والتي كنت أؤمن بها ما هي إلا أفكار دخيلة وطارئة لا تمت بصلة الى مذهب أهل البيت. وان فكر أهل البيت أو الشيعة الأوائل هو أقرب الى الفكر الإسلامي العام الذي كان يدور حول مبدأ الشورى. وفي دراسة أخرى قمت بها لاحقا، اكتشفت ان الفكر السياسي السني هو الآخر فكر مستحدث، وانه لا يمت الى السلف الأول بصلة. واكتشفت في نفس الوقت ان المسلمين جميعا سنة وشيعة قد تخلوا عمليا عن كثير من الأفكار الخاطئة التي تسربت إليهم عبر القرون، وانهم قد يشتركون في تبني نظريات سياسية جديدة ومعاصرة مشتركة ، بحيث لم يعد يجوز ان نطلق عليهم التسميات الطائفية القديمة التي كانت نتاج ظروف خاصة بائدة.
وسوف أقوم هنا باستعراض الفكر الشيعي الامامي الاثني عشري، الذي ولد في القرن الثاني الهجري، وتطور مع الزمن، ثم وصل الى طريق مسدود في منتصف القرن الثالث الهجري، ليسلك بعد ذلك طريقا طويلا من الانحدار والنهوض امتد حوالي ألف عام، وليصل بعد ذلك الى مستوى عال من التقدم ويختلف جذريا مع الفكر القديم. وما يهمنا جدا الآن هو تعزيز الإنجازات الديموقراطية التي حققها هذا الفكر، وإزالة العقبات والشوائب والمخلفات التي لا تزال تلعب أدوارا سلبية في تقدمه نحو الأمام.
النظرية الامامية
من المعروف ان مصطلح "الشيعة" أطلق في القرن الأول الهجري على أتباع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مقابل شيعة معاوية أو آل أبي سفيان. وربما أريد منه: الذين يفضلون علياً على غيره من الصحابة. أما مصطلح "الإمامية" فقد أطلق في القرن الثاني على الشيعة الذين قالوا باشتراط العصمة والنص في الإمام، وان أئمة أهل البيت أحق من غيرهم بالإمامة. وأما مصطلح "الإثني عشرية" فقد أطلق في القرن الرابع الهجري على الشيعة الذين قالوا بولادة ووجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) واستمرار حياته الى يوم الظهور.
وقد كان موضوع النظرية الامامية سياسي بالدرجة الأولى ، ويدور حول شروط الإمامة بمعنى الرئاسة والحكم والخلافة، وطبيعتها وانحصارها في البيت العلوي الحسيني، في مقابل النظريات الشيعية والسنية الأخرى التي كانت تختلف مع الامامية حول اشتراط العصمة والنص، أو اشتراك سائر البيوت العلوية أو الفاطمية أو الهاشمية أو القرشية في الحق في الخلافة، وقيامها على أساس الشورى والاختيار.
وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة النظرية الامامية، وفيما إذا كانت تمثل رأي عامة الشيعة أو رأي فريق خاص وصغير منهم، فان تلك النظرية وصلت الى طريق مسدود بوفاة الإمام الحسن العسكري دون خلف، أو غيبة الإمام الثاني عشر- على القول بولادته- حيث لم يعد هؤلاء الشيعة يمتلكون إماما ظاهرا يقود حركتهم الاجتماعية أو يؤسس لقيام دولتهم، في حين ظل العباسيون مستمرين في السلطة، وكذلك الشيعة الإسماعيلية الذين نجحوا في إقامة الدولة الفاطمية في شمالي أفريقيا، أو الشيعة الزيدية الذين أسسوا عدة دول لهم في اليمن وطبرستان. ولذلك دخل الشيعة الامامية الاثني عشرية منذ ذلك الحين في مرحلة أسموها (الانتظار) ويعنون به : انتظار الإمام الغائب (الثاني عشر). وقد اتسمت تلك المرحلة بالسلبية السياسية المطلقة حيث حرموا الثورة واقامة الدولة إلا بعد ظهور الإمام المعصوم المنصوص عليه من الله، وعطلوا كل ما يتعلق بالدولة من أمور، كجباية الخمس والزكاة وإقامة الحدود ، وصلاة الجمعة، ورفضوا حتى نظرية ولاية الفقيه باعتبارها تفتقد الى شروط الإمامة من العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية.[1]
فقد قال الشيخ محمد بن أبى زينب النعماني (توفي سنة 340هـ ) :" ان أمر الوصية والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره ، لا من خلقه ولا باختيارهم ، فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه ، وَرَدَ مورد الظالمين والمنافقين الحالّين في ناره" . وأورد سبع عشرة رواية حول وجوب التقية والانتظار وتحريم الخروج في (عصر الغيبة ).[2]
وقال الشيخ الصدوق (توفي سنة 381 هـ ) :" التقية فريضة واجبة علينا في دولة الظالمين ، فمن تركها فقد خالف دين الامامية وفارقه .. والتقية واجبة لا يجوز تركها الى ان يخرج القائم ، فمن تركها فقد دخل في نهي الله عز وجل ونهي رسوله والأئمة (ع) ويجب الاعتقاد ان حجة الله في أرضه وخليفته على عباده في زماننا هذا هو القائم المنتظر ابن الحسن.. ويجب ان يعتقد انه لا يجوز ان يكون القائم غيره بقي في غيبته ما بقي ، ولو بقي عمر الدنيا لم يكن القائم غيره ".[3]
و من هنا فقد رفض المتكلمون الاماميون الأوائل دعوة المعتزلة والشيعة الزيدية، الى تبني نظرية (ولاية الفقيه) في ظل (الغيبة الكبرى) ، استنادا الى فقدان الفقيه للعصمة والتعيين من الله ، وتعارض نظرية (ولاية الفقيه) مع نظرية (الإمامة الإلهية).[4]
ahmad@alkatib.co.uk
www.alkatib.co.uk
---------------------
[1] - لمزيد من التفصيل راجع: الفصل الأول من الجزء الثالث من كتابنا (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى الى ولاية الفقيه) للكاتب.
[2] - النعماني، الغيبة، ص 57 و 201 وكان من تلك الروايات التي اعتمد عليها محمد بن أبى زينب النعماني في تنظيره لفكرة الانتظار ، هي ما رواه عن أبى جعفر الباقر (ع) انه قال:
- الزم الأرض ، لا تحركن يدك ولا رجلك أبدا حتى ترى علامات اذكرها لك.. وإياك وشذاذ آل محمد ، فان لأل محمد وعلي راية ولغيرهم رايات ، فالزم الأرض ولا تتبع منهم رجلا أبدا حتى ترى رجلا من ولد الحسين معه عهد النبي ورايته وسلاحه.. فالزم هؤلاء أبدا وإياك ومن ذكرت لك .
- أوصيك بتقوى الله وان تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء الناس ، وإياك والخوارج منا فانهم ليسوا على شيء ولا الى شيء.
- انظروا الى أهل بيت نبيكم فان لبدوا فالبدوا ، وان استصرخوكم فانصروهم ، تؤجروا ، ولا تستبقوهم فتصرعكم البلية .
- كل راية ترفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله .
- كل بيعة قبل ظهور القائم فانها بيعة كفر ونفاق وخديعة.
- والله لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل ان يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به.
[3] - الصدوق، الهداية، ص 47
[4] - انظر المبحث الثاني من الفصل الأول من الجزء الثالث من كتاب: تطور الفكر السياسي الشيعي، حول الموقف السلبي من الاجتهاد وولاية الفقيه.
المفضلات