سماحة الشيخ/ حسن الصفار
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


المبررات الموضوعية لاختلاف العلماء


هناك تساؤل عريض يدور في اوساط الجمهور، وعامة افراد المجتمع، هو: لماذا وكيف يحصل الاختلاف بين العلماء؟ وعادة ما يأتي السؤال بصيغة الاستغراب والاستنكار!!
الاستغراب نتيجة لما يعتقده الناس من ان العلماء يعبرون عن الدين، ويتحدثون عن حقائقه واحكامه، والدين واحد وحقائقه واحكامه واحدة ثابتة، فكيف يختلف العلماء فيما ينقلونه عن الدين، وتتعدد فتاواهم وآراؤهم في الموضوع الواحد، والمسألة الواحدة؟ ثم كيف يدرك الناس ويعرفون الرأي الحقيقي، والحكم الواقعي للدين، مع هذا الاختلاف والتفاوت في الآراء والفتاوى؟
والاستنكار لما يتوقعه الناس من نزاهة العلماء، وورعهم، وحسن نواياهم، والتزامهم تعاليم الاسلام، وتخلقهم بأخلاقه وآدابه، مما يجعلهم وفقاً لتوقعات الناس، منسجمين متعاونين فيما بينهم، لا سبيل للشيطان عليهم، ولا تأثير للمصالح والاغراض المادية في نفوسهم، والا فكيف يكونون علماء وأئمة للناس، وحجة فيما بينهم وبين الله؟
هذا التساؤل الذي يدور بالحاح في اوساط العامة من الناس، يستوجب منا وقفة متأنية، ومعالجة هادئة، للاجابة عليه، باستعراض اهم الاسباب والعوامل، التي تنتج منها حالات الاختلاف بين العلماء، وهي في مجملها نفس الاسباب والعوامل لاي اختلاف آخر يجري بين ابناء البشر، ضمن مختلف الشرائح والتخصصات.
فالعلماء مثلهم مثل سائر الناس، والعلوم الدينية التي اكتسبوها لا تتجاوز بهم طبيعتهم البشرية، ولا تنقلهم الى الحالة الملائكية، كما لا تمنحهم درجة العصمة التي اختص الله تعالى بها انبياءه واوصياءهم.
صحيح ان العلماء يعتمدون في آرائهم الدينية، وفتاواهم الشرعية، على مصدرين اساسيين، هما الكتاب والسنة، لكن ذلك لا يعني الاتفاق في الآراء والفتاوى.
فبالنسبة للقرآن الكريم، وهو المصدر الاول، والمقطوع بصدوره من قبل الله تعالى حرفاً حرفاً، دون اي زيادة او نقصان، الا ان فهم الدلالة والمعنى في بعض الايات الكريمة، قد تكون مجالاً للاختلاف بين العلماء والمفسرين، اما لاسباب تعود للغة، كما اذا ورد في الآية لفظ مشترك، وضع لمعان متعددة مختلفة، كلفظ (عين) حيث تستعمل في الباصرة، والجارية، والذهب الخالص، والرقيب، ولم تكن الى جانبها قرينة تدل على المراد منها فهنا يحصل الاختلاف في حملها على اي معانيها.
ومن شواهد هذه الحالة قوله تعالى: (والمطلقات يتربصّن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولفظ (القرء) في اللغة مشترك، بين الطهر والحيض لذا اختلفت الفقهاء في عدة المطلقة اتكون بالحيض ام بالاطهار؟
وكذلك فيما يكون للفظ استعمالات: حقيقي ومجازي، فيختلف العلماء حول المراد من ذلك اللفظ في الآية هل هو المعنى الحقيقي او المجازي؟... وما شابه ذلك من موارد. كما في اختلافهم حول آية الوضوء، في سورة المائدة وهي قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلكم الى الكعبين).
فالآية تنص على مسح الرأس في الوضوء، لكن حرف الباء الوارد في (برؤوسكم) هل هو للتبعيض؟ فيكفي مسح بعض الرأس، وبه قال فقهاء مذهب اهل البيت، وفقهاء المذهب الحنفي والشافعي، ام هو حرف زائد؟ او للالصاق؟ فيجب مسح جميع الرأس، كما هو رأي فقهاء المذهب المالكي والحنبلي.
وقوله تعالى: (وارجلكم) هل هي معطوفة على (فاغسلوا وجوهكم)؟ فيكون حكم الرجلين هو الغسل كالوجه وهو ما يراه فقهاء المذاهب الاربعة، او انها معطوفة على (وامسحوا برؤوسكم) فيكون حكم الرجلين المسح كالرأس وهو ما ذهب اليه فقهاء مذهب اهل البيت، ويستند اهل كل رأي لدليل يعتمدون عليه.
وقد ينشأ الاختلاف حول مفاد النص القرآني، لتفاوت مستويات المعرفة والادراك، او نظراً لعلاقة النص بنصوص اخرى من القرآن او السنة.
وبالنسبة للسنة النبوية، وهي المصدر الثاني للتشريع الاسلامي، فان مجال الاختلاف فيها بين العلماء اوسع، واسبابه اكثر، لان القرآن الكريم يتفق المسلمون على قطيعة صدوره من قبل الله تعالى، ثم قد يختلفون في مداليل ومعاني بعض آياته كما ـ سبق ـ اما السنة، فان كل حديث من احاديثها يحتاج الى بحث، للتأكد من صحة سنده اولاً، ومن ثم يكون البحث في مدلوله ومعناه، وكلا الجانبين يتسع لاختلاف وتعدد وجهات النظر.
فالعالم لا يقبل حديثاً، الا اذا كان مطمئناً من صدق راويه، وصحة سند روايته، وهنا يتفاوت تقويم العلماء للرواة، وقبولهم لاسانيد الروايات.

ثم قد يحصل الاتفاق على صحة حديث، لكن يختلف في تحديد معناه ودلالته، وكمثال على ذلك حديث غدير خم وهو (قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يوم غدير خم ـ موضع بالجحفة ـ مرجعه من حجة الوداع بعد ان جمع الصحابة، وكرر عليهم: ألست اولى بكم من انفسكم ثلاثاً، وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف، ثم رفع يد علي، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واحب من احبه، وابغض من ابغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق معه حيث دار) وهذا الحديث اجمع علماء الشيعة على صحته وقبوله، ورأوه دالاً على تنصيب علي بن ابي طالب كامام وولي وخليفة من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووافقهم على قبول الحديث كثير من علماء السنة ولكنهم خالفوهم في تحديد دلالة الحديث.فهنا اتفاق على النص وصحة صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن الاختلاف هو في تحديد دلالة النص.
وهناك مصادر اخرى يختلف العلماء في مدى وحدود حجيتها للتشريع الاسلامي، كالاجماع والعقل، وما يتفرع عنه من قياس واستحسان.
فالاجماع مثلاً هل هو حجة بذاته، وكأصل مستقل من اصول التشريع، كما يقول بذلك جمهور فقهاء المذاهب الاربعة؟ ام انه حكاية عن اصل، فحجيته تتوقف على كاشفيته عن رأي المعصوم كما يقول فقهاء الشيعة؟ ثم ما هي حدود الاجماع الذي يحتج به؟ هل هو اجماع مطلق الامة؟ او خصوص المجتهدين منهم في عصر او اتفاق اهل المدينة او اتفاق مجتهدي المذاهب خاصة؟


الوطن الكويتية: 2-12-2004


موقع مكتب سماحة الشيخ حسن الصفار