محمد حسين «ولد مجدداً» بعد خطفه في العراق 39 يوماً وإطلاقه وعاهد نفسه على عدم العودة

طرابلس (شمال لبنان) ـ
من مرسال الترس:

«لن أعود الى العراق ابداً رغم ان الشعب العراقي طيب، واعتبر انني قد ولدت مجدداً», بهذه العبارات لخص اللبناني محمد جودت حسين (27 عاماً) من مدينة طرابلس (عاصمة محافظة الشمال) وضعه، بعدما خطف في العراق لتسعة وثلاثين يوماً وأفرج عنه ظهر الاربعاء 3/11/2004، اي قبل يومين من بدء تشديد الحصار على مدينة الفلوجة.

«الرأي العام» التقته غداة وصوله الى طرابلس في متجر لبيع الالبسة يملكه احد اصدقائه في محلة ابي سمراء، وذلك لأنه يريد الابتعاد عن منزله نظراً لضغط الزوار المهنئين, واستهل كلامه بالقول: «اعمل في العراق منذ نحو عام بعدما أوفدتني شركة «الجبيلي» لتركيب مولدات كهرباء, وكان يفترض ان تنتهي مهمتي خلال بضعة ايام لأعود مجدداً الى لبنان، ولكن سارت الرياح بما لا تشتهي سفننا, توجهنا الى الاردن مروان القصار، وأنا يوم الخميس 26 سبتمبر ومن هناك الى نقطة عبور الطرابيل على الحدود العراقية حيث وافتنا سيارتان من شركة «محمد العبيدي للمولدات» في العراق لمواكبتنا الى العاصمة بغداد.

وبالفعل كانت في انتظارنا سيارتا جيب فيهما اربعة رجال مسلحين, ولكن كانت مهمتهما مواكبة خادمتين اندونيسيتين طلبهما العبيدي لمنزله, واعتقد ان الشخص الذي رافق الخادمتين عند الحدود كان له صلة ما بالمقاومة العراقية, لان الاخبار التي سبقتنا الى العراق قالت ان أفراداً يتعاملون مع «الموساد» الاسرائيلي دخلوا البلاد، وهما خادمتان تحملان الجنسية الاندونيسية التقتا عند الحدود شابين لبنانيين, والمعروف ان المسافة بين الحدود الاردنية ومنطقة الرمادي تناهز اربعمئة كيلومتر، وكنا خلالها نلاحظ ان سيارات من انواع مختلفة فيها عدد من الاشخاص تتخطى موكبنا وتحدق بنا ما جعلنا نتوجس».

واضاف: «قبل ان نصل الى مدينة الرمادي وكانت الساعة قرابة الثانية بعد الظهر، وفيما نحن على الطريق السريعة، وسرعتنا تناهز 200 كيلومتر، فوجئنا بحاجز للشرطة العراقية فاضطررنا الى تخفيف سيرنا، طبعاً لم يسألونا كثيراً وكنت نائماً ثم فتحت عيني, وفيما كنت احاول ان اغمض جفوني وبعد نحو خمسين متراً من حاجز الشرطة سمعنا اطلاق رصاص فاستطلعنا الامر فوجدنا امامنا حاجزاً يضم نحو ستين مسلحاً يحاول ان يوقف موكبنا, فما كان من سائق سيارتنا إلا ان أدارها وسط الاوتوستراد وعاد في اتجاه الشرطة ليخبر عناصرها بالحاجز، فقال له ضابط الشرطة: لا تخف هؤلاء سلاّبة (سارقون) وبإمكانك الهرب, ولكن الهرب يعني التعرض ربما لمشاكل اكبر، وخصوصاً ان المناطق صحراوية ولا احد يدرك معالمها.

فقررنا التوجه نحو المسلحين واتكلنا على الله, لكنهم أمسكوا بنا ووضعو مروان في صندوق السيارة والاخرين في اماكن اخرى، فيما اجلسوني في المقعد الخلفي لسيارة من طراز «اوبل», وبعدما سرنا نحو نصف ساعة في منطقة الانبار وصلنا الى منزل مهجور حوله مجموعة من الاشجار، وهناك نقلونا جميعاً الى صناديق السيارات بعدما كبّلوا ايدينا ثم انطلقوا بنا لنحو ساعة ونصف ساعة كنا نسمع خلالها اصوات أبواق السيارات وضجة».

ونفى محمد ان يكون المسلحون ملثمين وأوضح انهم سلموهم عند المنزل الى مسلحين آخرين نقلوهم الى صناديق السيارات وقالوا لهم: «اذا لم يكن ضدكم شيء فسيفرج عنكم، ولكن المعلومات تقول انكم تتعاملون مع «الموساد» الاسرائيلي», واضاف: «وصلنا بعدها الى مكان محدد في منطقة عرفنا لاحقاً انها الفلوجة، حيث وضعوننا في منزل مسوّر يضم غرفاً منفصلة فيما الحمامات خارجها ولكنها ضمن السور, وشاهدنا هناك عدداً من المشايخ والمسلحين، وسمعنا هدير طائرات حتى اننا شاهدنا طائرات ب 52».

وعن جنسية المشايخ والمسلحين قال: «كلهم عراقيون من منطقة الانبار», واضاف: «وجدنا انفسنا جميعاً في مكان واحد ثم بدأوا التأكد مما نحمل فصادروا جوازات السفر واعتبروا ان الكومبيوترات المحمولة التي كانت معنا والساعات المخصصة لفحص قوة الكهرباء في المولدات اجهزة للتخابر مع الموساد, ووجه احدهم كلامه الى زميلي مروان قائلاً:

انت مع (سمير) جعجع, فأجابه مروان وهو مسلم سني من بيروت: افتح جواز سفري تجد عليه تأشيرة عمرة الى المملكة العربية السعودية، فتأكد من قوله, ثم وجه كلامه إلي وقال: انت مهندس فأجبته انني فني فقط، فقال مهدداً: استطيع ان انومك مغناطيسياً لأتأكد مما تعمل، فقلت له: حاضر, وكان جميع المسلحين ملثمين فيما كنا نحن عشرة، مروان وأنا وشخصان عراقيان من شركة «جبيلي» والفتاتان من اندونيسيا والمرافقون الاربعة, وكان المسلحون يرددون ان الفتاتين تابعتان لـ «الموساد» ودخلا من اجل الفتنة في العراق, ولكن تبين انهما مسلمتان, بعد ذلك ابلغوننا اننا سنحوّل على التحقيق، ووضعوننا في غرفة راكعين ووجوهنا الى الحائط فيما ايدينا مكبّلة وراء ظهورنا، وبدأوا بجلدنا بطريقة متساوية، ولم استطع ان اميز أداة الجلد, وتم ذلك على طريقة الشرع الاسلامي، اي القسم الاعلى من الظهر فقط، واستمر الامر نحو ساعة ولم اعد اذكر الكثير من التفاصيل لأنني شعرت بأنها اللحظات الاخيرة من حياتي».

وتابع: «ثم طلبوا منا ان نغتسل ونتوضأ ونؤدي الصلاة، في حين كنا على يقين انه ستتم تصفيتنا».

التحقيق
وأوضح انه اول من اخضع للتحقيق وقال: «ادخلوني غرفة وجدت فيها شخصاً ملتحياً بعض الشيء بادرني: عليك ان تقول كل ما تعرف وستتعرض للضرب حتى تسرح الدماء منك، فأجبته: لم اقم بأي عمل يدينني، فأنا عامل فني في شركة «الجبيلي» التي تعنى بتركيب المولدات، فسألني: هل شاركت في تركيب مولدات للجيش الاميركي، فأجبت:

عند مجيئي الى العراق قبل نحو عام شاركت في تركيب مولد في احد القصور الرئاسية, ولكن حصل ذلك قبل ان تعلن المقاومة ان التعامل مع الاميركيين محرم, ثم ابلغته اسماء الأماكن والاشخاص الذين تعاملت معهم, ولم يستمر التحقيق معي سوى نحو نصف ساعة قال لي في ختامها: انتهى التحقيق معك, ثم أحالوا الباقين على التحقيق وبعد الانتهاء قالوا لي: عندك تصوير، وطلبوا مني ان اعرّف عن نفسي امام الكاميرا، واقول انني اعمل مع شركة «جبيلي اخوان» التي تتعامل مع الاميركيين، ففعلت ومن تلك اللحظة صارت معاملتنا مميزة، فصباحاً يقدمون الينا الجبنة او القشدة، وظهراً معظم الطعام مع الارز، ومساء الدجاج او اللحم المشوي.

واستمر ذلك اياماً عدة حتى تم قصف المطعم الذي يمونهم في الفلوجة، فصاروا يقدمون الينا مساء البطيخ وظهراً طعاماً تم تحضيره منزلياً, كنا ثلاثة عشر شخصاً في غرفة واحدة مساحتها نحو 12 متراً مربعاً، وكنا مروان وأنا نحمل الجنسية اللبنانية والباقون يحملون الجنسية العراقية، وكان يزيد العدد احياناً».

وهل فرض عليهم المسلحون الصلاة وخصوصاً خلال شهر رمضان عليكم؟
ــ «كلا، كان الجميع يصلون وفق رغبتهم بل ان بعضهم لم يصوموا خلال رمضان، وكانوا يؤمنون لهم الطعام, واضاف: «كنت ممن يعتقدون ان الخاطفين في العراق يودون الحصول على أموال فقط، ولكن لمست انهم متدينون بكل معنى الكلمة يخافون الله وأذية الانسان البريء, وعلمنا ايضاً انهم كانوا يلاحقون السارقين ومغتصبي النساء ويطبقون بحقهم الاحكام وفق الشريعة».

ويضيف محمد في حديثه عن معاناته: «في احيان كثيرة كان بعض المسلحين وأعمارهم بين 17 وخمسين عاماً يأكلون معنا ونتبادل وإياهم الاحاديث الدينية والاجتماعية، ولم يحاولوا يوماً التأثير على احد دينياً، وكانوا دائماً يطلبون منا ان نحيي جميع المسلمين في بلادنا بعد عودتنا, وقد ابلغوننا انهم يعتبروننا ابرياء ولكن هناك مبالغ على الشركات ان تدفعها لانها تتعامل مع الاميركيين».

وقال: «بداية شهر رمضان اغارت الطائرات الاميركية على الفلوجة لخمس ساعات متواصلة, وتهدم في محيط المكان الذي كنا نُحتجز فيه ستة منازل لم نعلم من قُتل فيها، ولا شك في ان الله عزّ وجل حمانا من القصف الذي طاول معظم المنطقة المحيطة بنا، من دون ان ننسى ان الطائرات الاميركية كانت في أجواء الفلوجة طوال اليوم بين غارات واستكشاف ورصد».
وهل كان المسلحون يتحدثون عن المتشدد الاردني ابو مصعب الزرقاوي او سواه؟ قال: «لم نكن نستطيع ان نسأل عن شيء وهم لم يتحدثوا عن ذلك اطلاقاً, فالمواضيع العسكرية كانوا يتداولونها في اوساطهم وكنا نبتعد قدر المستطاع عن الاسئلة التي تستفزهم, حتى أنني في اثناء المفاوضات في الايام الاخيرة من الاحتجاز حرصت على ألا اتكلم مع اي مسؤول مسيحي في شركة «الجبيلي» في لبنان حتى لا يثير ذلك رد فعل لديهم».

وهل تكلمت مع اهلك؟
ــ بالتأكيد، تحدثت معهم خمس او ست مرات عبر خط هاتفي واحد وكنت اكتفي بالقول: انا بخير، لا تخافوا علينا، القضية باتت بين الشركة والمقاومين, وفي احدى المرات اصرّت والدتي على معرفة مكاني فأجبتها: انا في العراق، ولم استطع ذكر اسم اي مكان لئلا تكون المخابرة مراقبة.

وعن المرة الاخيرة التي تكلم فيها مع اهله قال: «تحدثت معهم قرابة التاسعة مساء الليلة التي سبقت الافراج».

الافراج
وعن كيفية معرفته بموعد الإفراج اجاب: «كنت محور المفاوضات منذ صدور الفتوى ببراءتنا بعد اربعة ايام على خطفنا، وكنت اجري الاتصالات مع مسؤولي الشركة في لبنان، وأشرح لهم مطالب الخاطفين, وعندما طلبوا منا ان نتحدث عبر التلفزيون قالوا لنا: سنقول عبر التلفزيون اننا نريد مليون دولار ولكن سنكتفي بخمسين الف دولار, وبعد يومين ابلغونا ان المبلغ المطلوب للإفراج هو ثمانمئة الف دولار لان ارتباط الشركة وثيق بالاميركيين, فدب اليأس في نفوسنا وأجريت اتصالاً بالشركة وابلغتها الامر.

وبعد استمهال رد مسؤولو الشركة ان شركة «العبيدي» هي التي ستتولى التفاوض لانني وزميلي أرسلنا الى العراق لمصلحتها, ومضت عشرون يوماً كان العبيدي خلالها يحاول التملص من الشروط قدر المستطاع، ما دفع الخاطفين لإبلاغنا انه سيتم الإفراج عن الجميع في ظل المماطلة, ثم مضت عشرة ايام اخرى، وبلغنا اليوم الثلاثين للخطف فطلبوا منا إجراء اتصالات هاتفية بأهلنا لنطلب منهم القيام بضغوط ومناشدات, وفيما كان اهلنا يفتقرون الى وسائل ضغط فإن المخطوفين العراقيين مارسوا دوراً مهماً في هذا السياق وطلبوا من عشائرهم ان تلاحق الموضوع.

ودخلت القضية هنا مرحلة التفاوض المباشر بين الاهالي والعشائر والخاطفين، وبالنسبة الى شركة «العبيدي» تم ابلاغنا ان مجموعة من اهالي بعض المخطوفين توجهوا الى محمد العبيدي وهم يحملون الاسلحة مهددين بقتله اذا لم يتوصل الى حل, فأعلن ان لا علاقة له بنا وهو مسؤول عن المخطوفين العراقيين والخادمتين الاندونيسيتين فقط, فعاودت الاتصال بالمسؤولين في شركة «الجبيلي» وأخبرتهم ان العبيدي تخلى عنا، فكلفوا احد العراقيين التفاوض من اجلنا، فحضر في اليوم التالي يرافقه شخص من السفارة اللبنانية وثالث عراقي, وقال لنا الخاطفون انهم سيقومون بتصويرنا بالفيديو, وتأخرت المفاوضات بضعة ايام لان الاشخاص الثلاثة كانوا يحضرون معهم مسلحين كحراس واعترض الخاطفون على ذلك، ولكن العراقي ابو محمود رفض فعاد الاحباط الى نفوسنا واعتقدنا ان مسألتنا ستطول وخصوصاً ان الطيران الحربي لا يفارق اجواء الفلوجة وقد نتعرض للقصف في اي لحظة».

تحول محوري
واضاف: «عند هذه النقطة حصل تحول محوري في القضية وسُمح لي بإجراء اتصالات مباشرة وعبر الهاتف على محاور ثلاثة: الاول مسؤولو الشركة في لبنان، الثاني شيخ احدى العشائر الذي تولى مسؤولية التفاوض عنا، والثالث: الشيخ المفوض من الخاطفين الذين لم يعودوا متشددين في الموضوع المالي، الى ان تم ابلاغنا انه سيتم الافراج عنا لوجه الله لان الهجوم على الفلوجة وشيك وهم ليسوا على استعداد لتحمل دماء بريئة».

وتابع محمد: «أحمد الله انني توصلت الى ايجاد عامل ثقة بين افرقاء التفاوض الثلاثة وأفرج عنا قرابة الثانية بعد ظهر الاربعاء 3/11/2004 ورافقنا الخاطفون في اربع سيارات الى منتصف الطريق بين الفلوجة والعاصمة بغداد, ولدى وصولنا الى بغداد تناولنا الافطار وبتنا ليلتنا في منزل احد العراقيين, وصباح الخميس 4/11/2004 اقلتنا سيارة الى مطار بغداد حيث امّن لنا لبناني الدخول عبر خط عسكري, واستقللنا طائرة ركاب مدنية من الحجم الصغير يملكها عراقي اوصلتنا الى مطار دمشق الدولي حيث كان في استقبالنا مسؤولون من شركة «الجبيلي», وتم نقلنا الى لبنان فتوجه مروان الى اهله وأنا نقلتني سيارة لأقربائي الى طرابلس التي استقبلتني بنحر الخراف باعتبار انني ولدت مجدداً».

وسألناه: هل تفكر في العودة الى العراق؟
فأجاب بسرعة: «كلا، كلا، ابداً، ابداً, ولكنني اود ان اشكر كل من ساهم في اطلاقي سواء كان عراقياً او غير عراقي».