يروّج بعض الخطباء في العالم الشيعي لقضية حرمة الرد على الفقهاء، وأن ذلك بمثابة الرد على الإمام الحجة ع لأنهم نوابه، والرد على الإمام هو رد على النبي، والرد على النبي هو رد على الله وهو بمثابة الشرك. وعندما تسأل: ألا يعني ذلك عصمة الفقهاء؟ يُقال لك: لا، فحرمة الرد ليست ناظرة إلى عصمة فتاويهم وآراءهم، بل لتكليفهم بالفتوى من قبل الإمام المعصوم.

وهنا أقول أن ذلك بحاجة إلى نظر، وما أعنيه بالتحديد مناقشة الأدلة التي تجعل من الرد على الفقيه والرد على الله في نفس المستوى. فلست معنيا هنا بالحديث عن النيابة ولا التقليد. ولا بأس هنا أن أذكر الأخوة القراء بنص واضح يدلل على وجود هذا الاعتقاد لدى الإمامية، إذ يقول الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله في ص 24 من كتاب عقائد الإمامية: "وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته ، وهو الحاكم والرئيس المطلق ، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس ، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله تعالى ، وهو على حد الشراك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام.".



ما يثير الاستغراب في هذا الموضوع أن أحدا من الفرق الإسلامية لم تمنح هذه الصلاحية الموسعة للفقيه، وهي مرتبة عالية إذا فُهمت كنوع من التنظيم للمجتمع وتسلسل القيادة فيه في زمن الغيبة فلا بأس، ولكن أن تتحوّل إلى سيف مسلّط على رقاب المكلفين إذا ما حاولوا الاستفسار عن أحكامهم أو حاولوا أن يفهموا ما يقومون به فمن المهم عندها أن نوضّح حجم وقوة الدليل الذي يُعتمد، وأنا هنا لست ضد الرجوع إلى المجتهدين لمعرفة الأحكام، ولكن ما أرفضه هو التهويل الإعلامي لموقع مرجع التقليد وجعل الرد عليه بمثابة رد على الله، وأرى ان ذلك بحاجة إلى دليل قوي. فما هو الدليل؟


إن أقوى دليل يحتج به في هذا المقام هو الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام والمعروف بمقبولة ابن حنظلة، وأنقله هنا كاملا من كتاب الكافي:


محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا ، وإن كان حقا ثابتا له ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ". قلت : فكيف يصنعان ؟ قال : ينظران [ إلى ] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله . قلت : فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، قال : قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم . قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة ، قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد . فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا . قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر . قلت : فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات .





هذه الرواية مشهورة لدى الفقهاء ولا يكاد يوجد بحث فقهي متعلق بالاجتهاد والتقليد إلا وتعرّض لهذه الرواية، وعلى حد تعبير المحقق البحراني في الحدائق الناضرة: "وتلقي الأصحاب لها بالقبول حتى أنه اتفقت كلمتهم على التعبير عنها بهذا اللفظ (أي المقبولة) الذي كررنا ذكره، وإطباقهم على العمل بما تضمنته من الأحكام" (الحدائق الناظرة ج1 ص99)، بل جعلوها عمدة التفقه واستنبطوا منها شرائطه كلها كما ذكر ذلك علي أكبر غفاري في كتابه دراسات في علم الدراية ص49.


على أنني أسجّل الملاحظات التالية على خطأ الاستدلال بهذه الرواية لإثبات أن الراد على الفقهاء كالراد على الله:


1. طريق الرواية فيها ثلاثة رواة فيهم كلام، فراوي الرواية عمر بن حنظلة لم يرد فيه توثيقا أو مدحا كما نص على ذلك السيد الخوئي في معجم رجال الحديث، وأشهر من وثقه هو الشهيد الثاني في الرعاية رغم انه ذكر أن الأصحاب أهملوه ولم ينصوا عليه بجرح ولا تعديل، وقد رد السيد الخوئي استدلالات الشهيد الثاني في توثيقه. والرجل الثاني هو داود بن الحصين إذ اتهمه الشيخ الطوسي بالوقف رغم أن النجاشي وثقه، وقد ذكره ابن داود في الممدوحين، بينما ضعفه الشهيد الثاني في الرعاية، والرجل الثالث هو محمد بن عيسى اليقطيني ضعفه الشيخ الطوسي في رجاله وذكر من يتهمه بالغلو، وكذا الشهيد الثاني في الرعاية، غير أن النجاشي وثّقه، ويقوّي العلامة الحلي قبول روايته كما في الخلاصة، ويدافع السيد الخوئي عنه في المعجم حيث يرد على جميع التضعيفات في حقه.



2. الرواية ضعيفة في نفسها، فهي تصنّف من الحديث المقبول الذي هو أحد أقسام الحديث الضعيف كما في أصول الحديث للدكتور الفضلي، لهذا اشتهرت بالمقبولة، ومعنى المقبولة قبول مضمونها في الجملة لا أنها محكومة بالصحة في جميع جزئياتها. وقد نقل هذا الضعف غير واحد من العلماء، فنقل المازندراني شارح أصول الكافي ج2 ص 335 قول الشهيد في الحديث: "في طريق هذا الخبر ضعف لكنه مشهور بين الأصحاب متفق على العمل بمضمونه بينهم، فكان ذلك جابرا للضعف عندهم". وضعفها السيد الخوئي في موضعين من كتاب الاجتهاد والتقليد، وكذا في مباني تكملة المنهاج. وقال عنها العلامة المجلسي في بحار الأنوار ج2 ص222: "رواه الصدوق في الفقيه وثقة الإسلام في الكافي بسند موثق لكنه من المشهورات وضعفه منجبر بعمل الأصحاب". وأكد ذلك الشهيد الثاني في كتابه الرعاية ص130، وذكرها الدكتور الفضلي ضمن أقسام الحديث الضعيف كما في أصول الحديث ص 130. وملخّص القول هنا أن الرواية إنما جُبرت بعمل الفقهاء بها لا بسندها، وعليه لا يمكن قبولها بكل تفاصيلها، بل علينا أن نعرف ما الذي عمل به الفقهاء من هذه الرواية، وهذا ما سأوضحه في النقطة الرابعة.



3. وردت هذه الرواية في غير الكافي، فقد أوردها الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه حيث رفعها مباشرة إلى داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة، وبين الروايتين اختلاف، فالمقطع "ينظران [ إلى ] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله " غير موجود في رواية الصدوق، فمن أين جاءت في رواية الكافي؟ . كما أوردها الطبرسي في الاحتجاج مرفوعة إلى عمر بن حنظلة وهي تقريبا بنفس صياغة رواية الكليني في الكافي. ويوردها الشيخ الطوسي في التهذيب ج6 بسند فيه اختلاف، وسنده هو "محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن بن شمون عن محمد بن عيسى عن صفوان عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة". وهي بهذا السند تزداد ضعفا فوق ضعفها، وذلك بمحمد بن الحسن بن شمون الواقفي المغالي، قال عنه النجاشي: "أبو جعفر ، بغدادي ، واقف ، ثم غلا ، وكان ضعيفا جدا ، فاسد المذهب"، وعن ابن الغضائري: "واقف ، ثم غلا ، ضعيف ، متهافت ، لا يلتفت إليه ، ولا إلى مصنفاته ، وسائر ما ينسب إليه"، ورماه الشيخ الطوسي نفسه بالغلو.



4. آتي الآن لأوضّح ما الذي يُهمّ الفقهاء من هذه الرواية، وما الذي يعملون به منها؟ وقد وجدتهم يستدلون بالرواية في القضايا التالية:

•العمل بالمشهور من الأقوال وترك الشاذ منها.

•القضاء والإفتاء وإقامة الحدود في عصر الغيبة.
•العمل بالتجزي عند فقد المجتهد المطلق.

•الترافع إلى فقهاء الجور وقضاة الظلمة.
•الترجيح عند التعارض.
•الوقوف في الشبهات.
•شروط الاجتهاد والوالي على الأحكام.
•أدلة ولاية الفقيه وحدودها.
•شرط الأعلمية في التقليد.
•موارد التخيير في العمل.
•أحكام الخمس.
•التقليد.



ولم أجد أحدا يستدل بالرواية ويستشهد بها في جعل الرد على الفقيه المجتهد كالرد على الله سبحانه وتعالى.


5. بقيت هناك بضعة نقاط من المهم الإشارة إليها في الرواية:

•أوّلها أنه لا يمكن اعتبار "الراد على الفقيه راد على الإمام" على إطلاقها، ففي الرواية ما يقيد ذلك، فمثلا قول الإمام ع: "من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا" فهنا نسأل: هل المقصود من روى كل الأحاديث وعرف كل الأحكام؟ طبعا هذا متعذّر من جهة، ومتعدد من جهة أخرى، إذ لا يمكن لشخص أن يحيط بكل روايات أهل البيت وخصوصا المعاصرين لهم، كما أنهم سيكونون كثرة، فأيهم ستشمله هذه الميزة؟ ومما يقيد ذلك أيضا قول الإمام: "فإذا حكم بحكمنا"، بمعنى أنه إذا تبيّن لشخص ما أن حكم معين ليس من أحكام أهل البيت فإنه يحق له الرد على الفقيه.
•النقطة الأخرى في الرواية وهي أن الإمام يعتبر مخالفة العامة فيه الرشاد، والعامة هم من غير أتباع أهل البيت، وهنا تساؤل: فهل مطلق مخالفة العامة فيه رشاد؟ وهل هذا مرجّح عقلي فعلا لمعرفة القول الصحيح؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله أقر بعض أحكام الجاهلية ولم يخالفها فهل يُمكن أن يصدر مثل ذلك من الإمام الصادق عليه السلام في حق فقهاء العامة؟ وهل كل فقهاء العامة هم اتباع الطاغوت؟ ألا يمكن أن يكون أحد فقهاء الإمامية من أتباع الطاغوت؟
•أما النقطة الثالثة في الرواية هي كثرة الاختلاف بين مدارس الفقه وبين الفقهاء فهم يردون على بعضهم البعض بل ويفسقون ويضللون بعضهم بعضا، وهذا جار منذ فترة الأئمة انفسهم إلى يومنا هذا، فإذا عملنا بالقول أن الراد عليهم راد على الله وهو بمنزلة الشرك؛ فإنه لن يبق أحد من فقهاء الإمامية إلا وشمله هذا الحكم!!


وكتلخيص للبحث فإني أقول أنه لا يثبت الاستشهاد بمقبولة عمر بن حنظلة للتدليل على حرمة الرد على الفقهاء وانتقادهم، وذلك لتصنيف الرواية ضمن الحديث المقبول، وهو ما يقبل في كليته لا أجزاءه، ولعدم عمل أحد من علماء الإمامية بمورد الاستدلال من الرواية، ولما ذكرته من اعتبارات أخرى. وحيث أنه لا توجد أدلّة مباشرة تصرّح بذلك، فسأكتفي بمناقشة هذا الدليل.


والله الهادي إلى سبيل الرشاد


عجائب يا دنيا اه اه اه .