الباب الأول
زواج المتعة فى السنة والقرآن
الفصل الثانى
مداخلة توثيقية
" وقال ابن حزم ثبت على إباحتها بعد رسول الله ـ ص ـ ابن مسعود ومعاوية وأبو سعيد وابن عباس وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف وجابر وعمرو بن حريث ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله ـ ص ـ وأبى بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر قال ومن التابعين طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكة ".
فتح البارى ـ ابن حجر العسقلانى.
عزيزى القارئ ...
قررت هنا أن أتدخل وأن أقطع الحوار، وظنى أنك مستمتع به، مستغرق فيه، متعجب منه،
أما الاستمتاع فمرجعه إلى رقى مستواه، وأما الاستغراق فمرجعه إلى خطورة محتواه،
وأما التعجب فمرجعه إلى جدته وطرافته وغيابه عنك على كثرة ما سمعت من الفقهاء فى موضوعات أقل خطرًا وأهون شأنًا، وظنى أيضًا أنك قد فزعت لما استند إليه الفريقان،
وكيف توافر فى نصوص السنة ما يستند إليه هذا وما يستند إليه ذاك على اختلاف الرأى بينهما بل على تضاده؟
ولعلك قد سألت نفسك أيضًا عن هذه الأحاديث التى استند إليها هذا والتى استند إليها ذاك وعن مصدرها وعن محتواها وعن إسنادها وعن فحواها، ولعلك فى حاجة إلى توثيق قررت أن أقوم به نيابة عن الطرفين المتحاورين، وكان بإمكانى أن أضع الأحاديث المسندة على لسان كل طرف خلال الحوار، وأن أحصل عليها من كتب الطرفين عند تعرضها لهذا الموضوع الحساس، ولعل هذا كان السبيل الأسهل، ولكنه سبيل تكتنفه مخاطر شتى تتناقض مع منهجية البحث وأسلوبه العلمى، لأن كل طرف يقتصر على حجته، ويزين من أسانيده لها، ويهمل أسانيد الطرف الآخر ويشكك فيها، ولم يكن أمامى من سبيل إلا أن أرجع إلى المصادر الأصلية، وإلا أن أنقل منها نقلاً كاملاً، مع تعليقات محدودة وترتيب مقصود بحيث يتعرف القارئ على أسانيد كل طرف، ولعله سوف يتبين يقينًا أن الطرفين لا ينطلقان من فراغ، ولعله سوف يتوقف أمام حقيقة مذهلة لكنها حقيقة على آية حال وهى أنه لو قصر منهجه فى قبول الحديث أو رفضه على السند أو على وروده فى الصحاح أو على تواتره فى كتب الأحاديث المعتمدة.
لوصل إلى نتيجة يأباها عقله وضميره وهى أن زواج المتعة حلال وحرام فى آن واحد
وأن الرسول هو الذى حرمها إلى الأبد وأن عمر هو الذى حرمها بعد أن كانت مستمرة فى عهد الرسول وعهد أبى بكر وصدر عهد عمر فى آن واحد، وأن عليًا أعلن حرمة المتعة وأن عليًا أيضًا لم يعلن ذلك وإنما أشار إلى تحريم عمر لها بقول فيه غير قليل من الإنكار فى آن واحد، وأن عبد الله بن عباس أصر على حل المتعة فى آخر حياته وانه تراجع عن حل المتعة إلا فى حالة الضرورة فى آخر حياته فى آن واحد، وهكذا، ولعلنا لا نرى فى ذلك بأسًا، ولا نراه يبعث على الشك فى كتب السنة بقدر ما نراه دافعًا إلى إعمال العقل وإلى ترجيح الحجج وموازنتها بالمنطق، وإلى ضرورة أن يتوازى السند والمتن فى الحكم على صحة الحديث، وهو منهج يراه البعض إثمًا ونراه ضرورة، وأذكر فى هذا الصدد عالمًا دينيًا كبيرًا يشغل منصب عميد إحدى الكليات الأزهرية، ذكر فى محاضرة له حديثًا غريبًا عن ظهور المهدى المنتظر فى الشام ومحاربته للسفيانى ولقائه به فى ( المنارة ) فى الشام ... إلى آخر الحديث
وقد اصطدم الحديث بعقلى ووجدانى فى عنف شديد، ولما راجعته سائلاً عن بعض تفاصيل الحديث، وعن مدى معقولية متنه، ومدى صحة إسناده نظر إلى فى تعال شديد، وصعد بصره إلى وجهى، وركز عينيه فى عينى، وأجاب فى بطء شديد وكأنه يتلذذ بهزيمتى: إن الحديث وارد فى صحيح مسلم ثم ابتسم فى خبث أو تخابث ـ لا أدرى ـ وعاد يصوب نظرته إلى مع إبتسامة لم ينجح فى إخفائها متشفيًا مما تصوره هزيمتى بالضربة القاضية ...
ولم أملك إلا الصمت احترامًا لدعوة صاحب المكان ومدير الندوة ...
أمثال هذا الأستاذ الجليل سوف يفقدون توازنهم وهم يراجعون أحاديث المتعة فى صحيح مسلم بالتحديد، وهم أيضًا يتطوعون بتقديم أنفسهم لقمة سائغة للطرف الآخر فى الحوار، ولعلهم سوف يخرجون منه فى جولته الأولى السابقة، إن جاز استعمال تعبير الجولة فى حوار ساخن مثل هذا، أما الذين سيبقون، وهم كثر، فهم من وهبهم الله نعمة التفكير والعقل والتدبر والاجتهاد ...
وما علينا، بل علينا أن نعرض وثائق الطرفين من مصادرها الأصلية ( السنية ) ولا نعتذر فى هذا للطرف الآخر وهم الشيعة لأنهم يستندون إلى هذه المصادر نفسها، ولسنا نشك فى أن هذه المداخلة ( التوثيقية ) ضرورة ليس فقط لطرفى الحوار، وليس فقط للقراء، وإنما أيضًا المتشككين فيما نكتبه، والمتصورين دائمًا وأبدًا سوء النية وفساد القصد، والمتخيلين أننا فيما نكتبه نأخذ بأطراف القول ولا ناخذ أنفسنا بالصعب من البحث والكثير من الجهد، والمرهق من تقصى الحقائق فى مصادرها، وتبقى ملاحظة نراها هامة وهى أن من حق القارئ ـ إن شاء ـ أن يعبر هذه المداخلة حتى يستكمل الحوار، وأن يعود إليها ـ إن شاء ـ بعد أن يستكمله لكى يتأكد من صحة أسانيد الطرفين أو من أمانتنا فى التوثيق، والله، واحترام العقل وهو منهج إلهى ـ من وراء القصد ...
********************
المرجع الأول: صحيح البخارى
ورد فى صحيح البخارى أربعة أحاديث فى باب ( نهى رسول الله عن نكاح المتعة آخرًا )، وأحد هذه الأحاديث وهو حديث على بن أبى طالب تكرر فى ثلاثة مواضع أخرى من الصحيح كل منها فى باب مختلف مع اختلاف طفيف فى الرواية.
الحديث الأول ومكرراته:
يذكر الحديث عن على بن أبى طالب أن الرسول نهى عن زواج المتعة فى غزوة خيبر، وقد تكرر أربع مرات، اثنتين دون ذكر المناسبة، واثنتين تذكران المناسبة وهى الرد على عبد الله بن عباس ( أو على الناقلين عن ابن عباس ) الذى كان لا يرى بمتعة النساء بأسًا، وفيما يلى الأحاديث الأربعة:
1 ـ { 4825- حدثنا مالك بن إسماعيل: حدثنا ابن عيينة: أنه سمع الزهري يقول: أخبرني الحسن بن محمد بن علي، وأخوه عبد الله، عن أبيهما:
أن عليًا رضي الله عنه قال لابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية، زمن خيبر }. [ راجع : 3979].
[ الحمر الأهلية أو الأنسبة يقصد بها: الحيوانات الأليفة التى تألف البيوت ].
[ جزء الثالث. 70 ـ كتاب النكاح. 32 ـ باب: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرًا ].
2 ـ { 3979 ـ حدثني يحيى بن قزعة: حدثنا ملك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية }. [4825، 5203، 6560]
[ ش أخرجه مسلم في النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ. وفي الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، رقم: 1407 (متعة النساء) زواج المرأة لمدة معينة، بلفظ التمتع، على قدر من المال. كان مباحا ثم حرم باتفاق من يعتد به من علماء المسلمين ]. صحيح البخاري: وجدت في: 36 - باب: غزوة خيبر].
3 ـ { 6560 ـ حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن عبيد الله بن عمر: حدثنا الزُهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما:
أن علياً رضي الله عنه قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأساً، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية }. [ راجع :3979].
وقال بعض الناس: إن احتال حتى تمتع فالنكاح فاسد. وقال بعضهم: النكاح جائز والشرط باطل. [ صحيح البخاري وجدت في: 4 - باب: الحيلة في النكاح ]
4 ـ { 5203 ـ حدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي رضي الله عنهم قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر، وعن لحوم حُمُر الإنسية }. [ راجع : 3979 ] [ صحيح البخاري: الجزء الرابع. 75 - كتاب الذبائح والصيد. 28 - باب: لحوم الحُمُر الإنسية ].
الحديث الثانى:
يشير هذا الحديث إلى ترخيص عبدالله بن عباس فى متعة النساء ثم قصره الترخيص ( بعد مراجعته ) على الضرورة.
4826 - حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة قال:
سمعت ابن عباس: يسأل عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة ؟ أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم
[ ش ( متعة النساء ) عقد الزواج على المرأة لمدة معينة، وقد نسخ أخيرا. ( الحال الشديد) أي حال كثرة الرجال وتوقانهم إلى النساء، مع قلة في النساء لا تسد هذه الحاجة، وعلى كل فهذا رأي ابن عباس رضي الله عنهما، والجمهور على خلافه، وأنما رخص بها بشروط وقيود كما ترى من الحديث، وقد نقل أن ابن جبير قال له: لقد سارت بفتياك الركبان وقال فيها الشعراء ؟ فقال: والله ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة، لا تحل إلا للمضطر].[ صحيح البخاري : وجدت في: 32 - باب: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرا ].
الحديث الثالث:
فى ترخيص رسول الله ـ ص ـ بالمتعة:
{ 4827 ـ حدثنا علي: حدثنا سفيان: قال عمرو، عن الحسن بن محمد، عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا:
كنا في جيش، فأتانا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا، فاستمتعوا }.
[ صحيح البخاري : الجزء الثالث. 70 - كتاب النكاح. 32 - باب: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرا].
الحديث الرابع:
ورغم أن المتعة لم يرد صريحًا فى الحديث إلا أنه فى تقديرنا يختص بترخيص المتعة لسببين هامين:
أولهما ورود الحديث فى صحيح البخارى تحت عنوان نكاح المتعة
وثانيهما أن إطلاق الحديث دون قصره على المتعة دلالته خطيرة يأباها الإسلام والمسلمون ويأبون نسبتها لرسول الكريم.
{ وقال ابن أبي ذئب:
حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، عن رسول الله ـ ص ـ: ( أيما رجل وامرأة توافقا، فعشرة ما بينهما ثلاث ليال، فإن أحبا أن يتزايدا، أويتتاركا تتاركا ). فما أدري أشيء كان لنا خاصة، أم للناس عامة. قال أبوعبد الله: وبينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ }.
[ ش أخرجه مسلم في النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ..، رقم: 1405
( توافقا ) في النكاح بينهما مطلق من غير ذكر أجل. ( فعشرة ما بينهما ) أي إن الإطلاق يحمل على معاشرة ثلاثة أيام بلياليها ].
********************
المرجع الثانى: صحيح مسلم
وردت جميع الأحاديث فى كتاب النكاح ( كتاب 16 )،
وفى الباب الثالث منه وعنوانه: ( باب نكاح المتعة، وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة ).
النسخة التى اعتمدنا عليها فى النقل هى: صحيح مسلم ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى ـ دار إحياء التراث العربى ـ بيروت ـ خمسة أجزاء.
واضح من العنوان رأى الإمام مسلم فى أن نكاح المتعة قد أبيح مرتين ونسخ مرتين،
وفى شرح الإمام النووى ( هامش ص 1022 ـ صحيح مسلم ـ المرجع السابق ) قال:
" الصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين: فكانت حلالاً قبل خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة، وهو يوم أوطاس، لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤيدًا إلى يوم القيامة، قال القاضى: واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل ـ لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بعد انقضاء الأجل من غير طلاق".
وقد ورد فى الباب المشار إليه تسعة وعشرون حديثًا أغلبها مكرر عن نفس المصادرمع اختلاف الرواية، لذا لزم تصنيفها وترتيبها وفقًا لمصدرها.
1 ـ أحاديث ثلاثة تمثل تكرارًا لحديث واحد عن عبدالله بن مسعود مع اختلاف طفيف فى الرواية، والأحاديث الثلاثة ترخّص بالمتعة دون ذكر للنهى عنها:
الحديث الأول : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمَدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي وَوَكِيعٌ، وَابْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ:
كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَ ـ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي؟
فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. [ صحيح مسلم ـ الجزء الثانى ـ كتاب النكاح ـ باب نكاح المتعة ـ ص 1022 ].
---------------------------
اعلم أنَّ القاضي عياضاً بسط شرح هذا الباب بسطاً بليغاً وأتى فيه بأشياء نفيسة وأشياء يخالف فيها، فالوجه أن ننقل ما ذكره مختصراً ثمَّ نذكر ما ينكر عليه ويخالف فيه وننبِّه على المختار.
قال المازريُّ: ثبت أنَّ نكاح المتعة كان جائزاً في أوَّل الإسلام، ثمَّ ثبت بالأحاديث الصَّحيحة المذكورة هنا: أنَّه نسخ وانعقد الإجماع على تحريمه، ولم يخالف فيه إلاَّ طائفة من المستبدعة، وتعلَّقوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد ذكرنا أنَّها منسوخة فلا دلالة لهم فيها، وتعلَّقوا بقوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] وفي قراءة ابن مسعود: { فما استمتعتم به منهن إلى أجل} وقراءة ابن مسعود هذه شاذَّة لا يحتجّ بها قرآناً ولا خبراً ولا يلزم العمل بها.
قال: وقال زفر: من نكح نكاح متعة تأبَّد نكاحه، وكأنَّه جعل ذكر التَّأجيل من باب الشُّروط الفاسدة في النِّكاح فإنَّها تلغى ويصحُّ النِّكاح.
قال المازريُّ: واختلفت الرِّواية في ( صحيح مسلم ) في النَّهي عن المتعة، ففيه أنَّه ـ صَ ـ نهى عنها يوم خيبر، وفيه أنَّه نهى عنها يوم فتح مكَّة، فإن تعلَّق بهذا من أجاز نكاح المتعة وزعم أنَّ الأحاديث تعارضت، وأنَّ هذا الاختلاف قادح فيها.
قال القاضي عياض: روى حديث إباحة المتعة جماعة من الصَّحابة: فذكره مسلم من رواية ابن مسعود، وابن عبَّاس، وجابر، وسلمة بن الأكوع، وسبرة بن معبد الجهنيّ، وليس في هذه الأحاديث كلّها أنَّها كانت في الحضر وإنَّما كانت في أسفارهم في الغزو عند ضرورتهم وعدم النِّساء مع أنَّ بلادهم حارَّة وصبرهم عنهنَّ قليل. ( ج/ص: 9/180)
وقد ذكر في حديث ابن أبي عمر أنَّها كانت رخصة في أوَّل الإسلام لمن اضطرَّ إليها كالميتة ونحوها.
وعن ابن عبَّاس ـ رَض ـ نحوه.
وذكر مسلم عن سلمة بن الأكوع: إباحتها يوم أوطاس.
ومن رواية سبرة: إباحتها يوم الفَّتح وهما واحد ثمَّ حرِّمت يومئذ.
وفي حديث عليٍّ: تحريمها يوم خيبر وهو قبل الفتح.
وذكر غير مسلم عن عليّ أنَّ النَّبيَّ ـ صَ ـ نهى عنها في غزوة تبوك، من رواية إسحاق بن راشد، عن الزُّهريِّ، عن عبد الله بن محمَّد بن عليٍّ، عن أبيه، عن عليِّ ولم يتابعه أحد على هذا، وهو غلط منه.
وهذا الحديث: رواه مالك في ( الموطَّأ ) وسفيان بن عيينة، والعمريُّ، ويونس وغيرهم عن الزُّهريِّ، وفيه يوم خيبر.
وكذا ذكره مسلم عن جماعة عن الزُّهريِّ وهذا هو الصَّحيح.
وقد روى أبو داود من حديث الرَّبيع بن سبرة عن أبيه: النَّهي عنها في حجَّة الوداع.
قال أبو داود: وهذا أصحُّ ما روي في ذلك.
وقد روي عن سبرة أيضاً إباحتها في حجَّة الوداع ثمَّ نهى النَّبيُّ ـ صَ ـ عنها حينئذ إلى يوم القيامة.
وروي عن الحسن البصريّ: أنَّها ما حلَّت قط إلاَّ في عمرة القضاء.
وروي هذا عن سبرة الجهنيِّ أيضاً.
ولم يذكر مسلم في روايات حديث سبرة تعيين وقت إلاَّ في رواية محمَّد بن سعيد الدَّارميّ، ورواية إسحاق بن إبراهيم، ورواية يحيى بن يحيى، فإنَّه ذكر فيها يوم فتح مكَّة.
قالوا: وذكر الرِّواية بإباحتها يوم حجَّة الوداع خطأ لأنَّه لم يكن يومئذ ضرورة ولا عزوبة وأكثرهم حجُّوا بنسائهم.
والصَّحيح أنَّ الَّذي جرى في حجَّة الوداع مجرد النَّهي كما جاء في غير رواية، ويكون تجديده ـ صَ ـ النَّهي عنها يومئذ لاجتماع النَّاس وليبلِّغ الشَّاهد الغائب، ولتمام الدِّين وتقرّر الشَّريعة كما قرّر غير شيء، وبيَّن الحلال والحرام يومئذ، وبتَّ تحريم المتعة حينئذ لقوله: (إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ).
قال القاضي: ويحتمل ما جاء من تحريم المتعة يوم خيبر، وفي عمرة القضاء، ويوم الفتح، ويوم أوطاس، أنَّه جدَّد النَّهي عنها في هذه المواطن، لأنَّ حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مطعن فيه بل هو ثابت من رواية الثِّقات الأثبات، لكن في رواية سفيان أنَّه نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهليَّة يوم خيبر.
فقال بعضهم: هذا الكلام فيه انفصال، ومعناه: أنَّه حرَّم المتعة ولم يبيِّن زمن تحريمها.
ثمَّ قال: ولحوم الحمر الأهليَّة يوم خيبر، فيكون يوم خيبر لتحريم الحمر خاصَّة ولم يبيِّن وقت تحريم المتعة ليجمع بين الرِّوايات.
قال هذا القائل: وهذا هو الأشبه أنَّ تحريم المتعة كان بمكَّة، وأمَّا لحوم الحُمر فبخيبر بلا شكٍّ. ( ج/ ص: 9/181)
قال القاضي: وهذا أحسن لو ساعده سائر الرِّوايات عن غير سفيان.
لكن يبقى بعد هذا ما جاء من ذكر إباحته في عمرة القضاء ويوم الفتح ويوم أوطاس،
فتحتمل أنَّ النَّبيَّ ـ صَ ـ أباحها لهم للضَّرورة بعد التَّحريم ثمَّ حرَّمها تحريماً مؤبَّداً،
فيكون حرَّمها يوم خيبر، وفي عمرة القضاء، ثمَّ أباحها يوم الفتح للضَّرورة، ثمَّ حرَّمها يوم الفتح أيضاً تحريماً مؤبَّداً.
وتسقط رواية إباحتها يوم حجَّة الوداع لأنَّها مرويَّة عن سبرة الجهنيِّ، وإنَّما روى الثِّقات الأثبات عنه الإباحة يوم فتح مكَّة.
والَّذي في حجَّة الوداع إنَّما هو: التَّحريم فيؤخذ من حديثه ما اتَّفق عليه جمهور الرُّواة ووافقه عليه غيره من الصَّحابة ـ رَض ـ من النَّهي عنها يوم الفتح، ويكون تحريمها يوم حجَّة الوداع تأكيداً وإشاعة له كما سبق.
وأمَّا قول الحسن: إنَّما كانت في عمرة القضاء لا قبلها ولا بعدها فتردّه الأحاديث الثَّابتة في تحريمها يوم خيبر وهي قبل عمرة القضاء، وما جاء من إباحتها يوم فتح مكَّة ويوم أوطاس، مع أنَّ الرِّواية بهذا إنَّما جاءت عن سبرة الجهنيِّ، وهو: راوي الرِّوايات الأخر وهي أصحّ فيترك ما خالف الصَّحيح.
وقد قال بعضهم: هذا ممَّا تداوله التَّحريم والإباحة والنَّسخ مرَّتين، واللَّه أعلم، هذا آخر كلام القاضي.
والصَّواب المختار: أنَّ التَّحريم والإباحة كانا مرَّتين، وكانت حلالاً قبل خيبر، ثمَّ حرِّمت يوم خيبر، ثمَّ أبيحت يوم فتح مكَّة وهو يوم أوطاس لاتِّصالهما، ثمَّ حرِّمت يومئذ بعد ثلاثة أيَّام تحريماً مؤبَّداً إلى يوم القيامة واستمرَّ التَّحريم.
وكان ابن عباس ـ رَض ـ يقول بإباحتها، وروي عنه أنَّه رجع عنه.
قال: وأجمعوا على أنَّه متى وقع نكاح المتعة الآن حكم ببطلانه سواء كان قبل الدُّخول أو بعده إلاَّ ما سبق عن زفر.
واختلف أصحاب مالك هل يُحَدُّ الواطئ فيه؟
ومذهبنا: أنَّه لا يحدُّ لشبهة العقد وشبهة الخلاف، ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليِّين في أنَّ الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعاً عليها. (ج/ ص: 9/182)
الحديث الثانى:
{ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِير، عَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وَقَالَ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا هَذِهِ الآيَةَ، وَلَمْ يَقُلْ: قَرَأَ عَبْدُ اللهِ }[ صحيح مسلم ـ الجزء الثانى ـ كتاب النكاح ـ باب نكاح المتعة ـ ص 1022 ].
الحديث الثالث:
{ وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الإسْنَادِ.
قَالَ: كُنَّا -وَنَحْنُ شَبَابٌ- فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا نَسْتَخْصِي؟ وَلَمْ يَقُلْ: نَغْزُو}.[ صحيح مسلم ـ الجزء الثانى ـ كتاب النكاح ـ باب نكاح المتعة ـ ص 1022 ].
2ـ حديثان عن سلمة بن الأكوع وجابر بن عبدالله يفيدان ترخيص الرسول ـ ص ـ بالمتعة، دون ذكر للنهى عنهما:
الحديث الأول :
{ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ يُحَدِّثُ، عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالاَ:
خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللهِ ـ صَ ـ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ ص ـ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا ـ يَعْنِي: مُتْعَةَ النِّسَاءِ ـ }.[ صحيح مسلم ـ الجزء الثانى ـ كتاب النكاح ـ باب نكاح المتعة ـ ص 1022 ].
------------------------
المفضلات