نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


شبكة العراق الثقافية: العضو منازار







مرحلة الطفولة الأولى

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

لنبد بالطفولة بكل تكوناتها: جو البيت الي ولدت فيه وترعرعت في أكنافه، جو القرية بكل ما تحمل من تناقضات، جو المجتمع الأوسع السائد، وما هي القضايا التي تركت تأثيرها عليكم؟


لنبدأ من جو البيت. لقد ولدت في بيت ديني يتخذ المعيوش الديني عنواناً لحركته في الحياة الثقافية، والمسكلية العملية، كما كان هذا الجو ينطلق من عائلة دينية، تعيش إمتدادات الزمن، في لبنان، وقبل ذلك في مكة. وهكذا أبي الذي كان يدرس العلم في النجف، ويعيش الرغبانية العلمية بعمق مع إستغراق في دراساته العلمية، درساً وتدريساً، بحيث لم يكن له علاقات إجتماعية واسعة، إلا في دائرة محدودة. وكانت أمي إمرأة بسيطة لا تملك الكثير من الثقافة، وهي من عائلة جنوبية، لم تعش شبابها إلا وهي زوجة على أساس أنها لم تأخذ مجالاً واسعاً من الثقافة في بلدها. هكذا مضت طفولتي على شكل طفولة عادية، كنت الولد الذكر الأول في العائلة وكانت الحياة في داخل البيت حياة بائسة، من الناحية المادية، فقد كنا لا نستطيع التمتع بما يتمتع به الناس الذين يملكون الإمكانيات المعقولة في الحياة. ولكننا كنا نعيش هذا البؤس بشكل طبيعي لأن المحيط الذي كان يحيط بنا كان مجموعة من البائسين، من طلاب العلم المهاجرين الذين لا يجدون الكثير من سعة العيش، وعشت هناك هذه الطفولة المبكرة، في مدينة النجف الأشرف، المدينة العريقة التي كانت تضم إلى جانب إمتداداتها العربية خليط من القوميات المتنوعة التي كانت تأتي إلى النجف، إلى جوار مقام الإمام علي(ع)، أو كانت تأتي للدراسة الدينية والعلمية. لم يكن هناك شيء بارز في الطفولة المبكرة. النجف كانت تعيش على كتف الصحراء، وفقط جدول صغير يجري في وهادها المنفتحة على الرمال تحيط به بساتين تحدها إمكاناته في إعطائها الري. وفي تلك المنطقة المسماة بـ (الجدول) كان منتزه طلاب العلم في النجف الذين يخرجون من عائلاتهم أو أصحابهم في العطلة الدراسية، وهي عادة كل يوم خميس وجمعة من أيام الأسبوع، والعطل الدينية المتنوعة.

إنفتحت عيناي على الخضرة، من خلال السفرات التي كنت أرافق فيها أهلي إلى هذا الجدول، كما إنفتحت على الخضرة عندما كنت أذهب معهم إلى الكوفة، وهي تقع على بعد 10 كلم من النجف التي يجري في داخلها نهر الفرات وتحيط بها البساتين، كما تضم المسجد الأعظم التاريخي. ربمان تركت هذه المناظر الكثير من مؤثراتها الجمالية في نفسي بشكل لا شعوري من الناحية الوجدانية.

وفي هذا الجو من الطفولة، المبكرة بدأت الدرس بالكتاتيب عند شيخ يكاد يكون أمياً في ثقافته، وإن كان يملك بعض المعلومات في القراءة والكتابة من دون أية إمكانيات فنية، ومعرفية في المسألة التربوية.

كانت المدرسة شيء لم يألفه الوسط العلمي آنذاك، لأن هناك كثيراً من التهاويل التي كانت تعيش في الذهنية الدينية حول المدرسة، بإعتبارها نتاج الغرب، ومن هنا كانت مسألة الدخول إلى المدرسة من المسائل التي قد تكون مستنكرة، من دون أن يملك الذين يستنكرون منطقاً مقبولاً في هذا المجال. درست مدة عند هذا الشيخ، وكنا نتعلم الكتابة على اللوح، الذي يحتفظ كل طالب بقطعة منه، وكنا نقرأ بالطريقة القديمة، عن طريق الإستظهار، وكانت طريقة التأديب هي طريقة الضرب، واللجوء إلى (الفلقة) التي تربط فيها رجلا المتمرد، وينهال عليه بعض الطلاب الموكلين بالعصا أو بغير ذلك. ولم أمكث طويلاً عند هذا الشيخ، إذ إنتقلت إلى شيخ آخر يقيم في منطقة حرم الإمام علي(ع)، بما يسمى غرف الصحن على شيء من التنوع ولعل هذا الشيخ الآخر الذي أتذكر إسمه، وهو الشيخ موسى، كان أكثر تنظيماً من شيخنا الأول، وأكثر لباقة، ولا أدري إذا كان أكثر ثقافة. وغستطعنا أن نجتاز مرحلة قراءة القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة وبعض قواعد الحساب البسيطة. ولكننا إستفدنا من هذا لأننا إنفتحنا على مجتمع الأطفال الذين كان بعضهم يمت بنسب الطبقات العليا، والمميزة في النجف الأشرف. كنا نلاحظ أن الشيخ يقرب أبناء الطبقات العليا ويبعد أبناء طبقات الدنيا، ولعله كان ينال منهم مالاً أكثر، أو كان يريد أن يتقرب إليهم لحاجاته.

خرجنا من مدرسة هذا الشيخ، وكانت هناك مدرسة خصصت من قبل هيئة دينية لجمعية منتدى النشر، وهي جمعية أسست من قبل علماء مثقفين، أرادوا أن يكونوا جسراً للماضي والحاضر. ولعلي كنت في نظر إدارة تلك المدرسة قادراً على أن أكون في الصف الثالث على أساس أن معلوماتي كانت جيدة تمكنني من إجتياز الصف الأول والثاني إلى الثالث.
وأذكر إني كنت طالباً جيداً ونجحت إلى الصف الرابع، ولا أتذكر ما هي الظروف التي جعلتني أخرج من المدرسة وأنا في الصف الرابع لأتابع باكراً الدراسة الدينية.




مرحلة الطفولة الثانية


• كم كان عمرك في ذلك الوقت؟

كنت في عمر الحادية عشرة، وفي ذلك الوقت كنت أشعر بوجود شيء يضج داخلي، هو نهم المعرفة. ففي الوقت الذي كنت أدرس كتاب(قطر الندى) وهو أول كتاب في النحو، وأتصور أن بعض مصطلحاته لا يستطيع تحملها إبن الحادية عشر، ولكني كنت أستوعبه بشكل جيد.... وفي ذلك الوقت كنت أشعر بنهم للثقافة، فكنت أطالع المجلات المصرية، وكنت أطالع أيضاً المجلات التي تصدر في العراق.


الدخول إلى الثقافة الأوسع، ومحاولات الكتابة الأولى

في أي سنة كان ذلك؟

في سنة 47 أو 48. وفي ذلك الوقت كنت أطالع مجلات أكبر من سني، ومن ثقافتي فكنت في ذلك الوقت أقرأ مجلة(الرسالة) التي يصدرها أحمد حسن الزيات، وكنت أستمتع بقراءتها، ولا أدري إذا كان هذا إستمتاع الفكر الواعي. كما كنت أقرأ أيضاً، مجلة(الثقافة) التي تصدر في مصر. وفي ذلك الجو كنت أعيش الإنفتاح أكثر من اقراني، من خلال هذه القراءات التي قد لا تكون منظمة أو مرتبة أو ممنهجة، ولكنها كانت كمن يتنقل بين الأزهار إذا إستنهضت في داخلي شيئاً ما. كنت أختزن هذه المشاعر والأحاسيس في الوقت الذي بدأت فيه أكتب الشعر من دون أن تكون لدي ثقافة شعرية واسعة. أذكر سنة سقوط فلسطين عام 1947، نظمت قصيدة أذكر منها إلا بيتين:



دافعوا عن حقنا المغتصب ***** في فلسطين بحد القضب
وإذكروا عهد صلاح***** حينما هب فيها طارداً الأجنبي



حصل ذلك في أجواء حرب فلسطين الأولى التي إنتهت بسقوط فلسطين، كما أني في ذلك الوقت أو قبله أذكر أبياتاً كتبتها وأنا في العاشرة من عمري:


فمن كان في نظم القريض مفاخراً*****ففخري طراً بالعلا والفضائل
ولست بآبائي الأباة مفاخراً ***** ولست بمن يبكي لأجل المنازل
فإن أك في نيل المعالي مقصراً***** فلا رجعت بإسمي حداة القوافل
سأنهج نهج الصالحين وأرتدي***** رداء العلا السامي بشتى الوسائل
وأجهد نفسي أن أعيش معززاً***** وليس لطلاب العز سهل التنازل

وفي تلك الفترة كنت أعيش هاجس أن اصبح صحفياً فتعاونت مع اقربائي وأصدقائي ومنهم المرحوم الشهيد إبن خالتي السيد مهدي الحكيم، إبن السيد محسن الحكيم الذي إغتاله النظام العراقي في السودان لأنه من المعارضة العراقية، وكان على قدر كبير من الذكاء والتطلعات التي تكاد تنسجم مع الجو الذي نعيش. في ذلك الوقت أصدرنا مجلة مكتوبة، إسمها (الأدب) وكتبت فيها موضوعين، وإستكتبنا بعض الأشخاص، وكنا نحاول لدى كل مشترك جديد أن نكتب ونصدر نسخة جديدة، وكان المرحوم السيد مهدي يحسن الكتابة جيداً. أصدرنا خمسة أعداد من هذه المجلة، ما بين أعوام 1949 و 1950. وفي ذلك الوقت بدأ الجانب الأدبي يواكب الجانب العلمي الديني، وبدأت أعيش نوعاً من الإنفتاح الضبابي على الأجواء التي تتجاوز، جو النجف الديني المتزمت آنذاك.

طفولة حائرة على بؤس

لم أعش في قرية بل عشت في مدينة النجف على أنها مدينة تحمل في بعض جوانبها أجواء القرية، وتحمل أيضاً، أجواء المجتمع المنغلق الذي كان يرافقه نشوء مجتمع منفتح خلال الجيل الجديد الذي بدأ يتمرد على القيود. كنا في ذلك الوقت، ونحن في النجف نقرأ. الشاعر محمد مهدي الجواهري وعلي الشرقي ومحمود الحبوبي. كانت هناك جمعية(الرابطة الأدبية) إلى جانب (منتدى النشر) وكنا ننفتح فيها على بعض الأجواء الجديدة التي ربما، كان يرضى عنها بعض المجتمع العلمي الحوزي في النجف، وربما كان البعض يتهمها بالإنحراف.. وعندما عشنا ذلك الجو كنا نكابد حيرة، بين ما نعيش فيه من واقع ومجتمع وقيود وإلتزامات، وبين أجواء الإنفتاح التي كنا لا نستطيع أن نطل عليها بقوة، لأننا لم نكن نملك الإمكانيات التي تجعلنا نندفع إلى هذا المجتمع. لذلك أستطيع أن أعتبر أنها كانت طفولة حائرة، إلى جانب أنها كانت طفولة بائسة من الناحية المادية.

وهناك نقطة لا أزال أعاني مشكلة فراغها في نفسي، وهي أنني لم استطع أن أنفتح على لهو الأطفال وعبثهم. قد حدث ذلك لأن طبيعة التربية التي نخضع لها، كان تتحدث عن ضرورة تهذيب الطفل، وجعله عاقلاً، بمعنى أن يجلس كما تجلس الملائكة، هادئاً. ربما كنا نشعر بأن اللعب قد يثقل أخلاقية الإنسان، لذلك لم أستطع أن أستمتع بعبث الطفولة ولهوها ولعبها. أستطيع أن أقول أن طفولتي كانت طفولة ثقافية مبكرة، حيث كنت أقرأ ترجمات كثيرة، ومنها ترجمة أحمد حسن الزيات لأشعار(لامارتين) كنت أقرأ(أناتول فرانس) وطبعاً مترجمة. كما إلتقيت في ذلك القوت طه حسين، والمقصود أدبه الذي إستطاع أن يؤثر تأثيراً كبيراً في إسلوبي، ولا يزال يفرض نفسه علي حتى الآن.

لم تكن طفولة منفتحة، بالمعنى النفسي، الوجداني، بل كانت طفولة مختنقة على عكس ما هي إنكلاقة الأطفال.

في داخل هذه المرحلة . كانت هناك تأثيرات تركت علي ملامحها الشخصية منها أننا عشنا في هذا الجو الديني الذي يتميز بالحالة البكائية. فأنت عندما تعيش عاشوراء. تعيش في جو الصراخ والبكاء والحزن، كما تعيش أيضاً، جو من الصخب بحيث أنه كانت إحتفالات عاشوراء تتميز في ذلك الوقت بحملة المشاعل، الذين يحملون المشعل الذي يحتوي على عدة مشاعل ويمتد طولة إلى سبعة أمتار. يحمله شخص ويطوف ويدور إلى جانب الذين يضربون ظهورهم بالسلاسل، ومع الذين كانوا يضربون رؤوسهم بالسيوف أو يلطمون. وهكذا كنا نلتقي بذلك حتى في مناسبات ذكرى وفيات النبي والأئمة. كانت المواكب التي تأتي من أنحاء العراق إلى النجف في مواكب لطم ولكنها، في الوقت نفسه تثير كل القضايا الإجتماعية لتتحول إلى مظاهرات، تثير القضايا، ربما كانت الدولة توحي ببعضها، والمعارضة توحي ببعضها الآخر. عشنا في جو البكاء والحزن وجو الصراخ الذي يختزن كثيراً من حالات المأساة في داخل الناس الذي يعيشون هناك، بحيث قد يترك داخلهم إحساساً بالمأساة في كل شيء يواجهونه.



المشاركة في المناسبات الدينية

• هل شاركت في هذه الأثناء بهذه اللطميات؟

كنت أشارك في بعضها، ولكن ليس بشكل كبير، لكني كنت أشعر في ذلك الوقت بعد الإنسجام مع كثير من هذه الأجواء، لأنني لم استطع أن أفهم معناها أو جدواها، وربما كنا ندخل في نقاش حذر مع بعض الناس في مناقشة التقاليد، وكنا نخشى إذا إمتددنا بعيداً بهذا النقاش أن نتهم بممارسة خروقات للدين، وما أشبه بذلك.

لقد تركت هذه الأجواء تأثيراتها على ملامح شخصيتي، كما أننا في تلك المرحلة بدأنا نلتقي بالجانب السياسي، حيث كانت الدولة متمثلة بالحكم الملكي الذي كان يسيطر عليه نوري السعيد. كنا في طفولتنا نواجه المسألة من خلال المظاهرات التي كانت تخرج من قبل بعض الوطنيين، والشيوعيين والقوميين آنذاك، وكانت الحكومة في بعض الحالات تواجه هؤلاء بالرصاص، وكان الناس يأتون للعلماء الكبار ليتدخلوا مع الحكومة، وكانت الشخصية التي تعتبر منفتحة على الدولة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وهو من العلماء الأدباء الكبار، حيث أن الناس كانت تأتي إليه مطالبة تدخله مع الدولة لكي تخفف الضغط. كنا نعيش أجواء غامضة، ضبابية في هذا الجو.


العلامة، والعائلة، والعمامة

• أأنت كبير العائلة؟

نعم، أنا كبير العائلة من الذكور.


• كم يبلغ عدد أفراد العائلة، الأخوة؟

عشرة أشخاص.


نريد أن نعرف القارئ، إلى أي شيء إنجذبت أولاً، وهل كان الدين بمعناه الإحترافي من بين إنجذاباتكم الطفولية الأولى؟

لا أدري إذا كانت هناك إنجذابات عميقة في داخل نفسي، ولكني كنت أعيش الأجواء الدينية بشكل تقليدي، بشكل طبيعي في البيت والعائلة والمجتمع كنت أشعر بالإنسجام مع هذا الإتجاه، ولا أستطيع أن اقول إنه إنسجام وعي، ولكنه إنسجام أجواء، وأذكر إنني لبست العمامة مبكراً. فقد كان عمري في الثالثة عشر. ولم أشعر بالقيود الكثير التي، ربما يخص بها من يلبس الزي الديني، لأن المجتمع يتحدى بعض جوانب الحرية في مشاعرنا وأحساساتنا.
ربما لم أكن أشعر بوجود مشكلة آنذاك. وإستطعت أن أنسجم مع هذا الجو. فقد كنت ناجحاً في دراساتي الدينية، كما إنفتحت على الجو الأدبي مبكراً- كما أسلفت- فأنا دخلت حفلات النجف وألقيت قصائد في مناسباتها التي كانت تضج بالأدب والشعر وكنت في الرابعة عشر.


العلامة والمطالعات المبكرة

متى بدأت مطالعاتكم الجدية، ماذا بدأت تقرأ من الكتب الدينية، السياسية، التاريخية،الإيديولوجية، منافية للدين....؟

من الطبيعي، كنت اقرأ من الكتب العلمية التي تفرضها دراسيتي، وكان أسلوب الدراسة في النجف أسلوباً معقداً يفرض على الطالب الكثير من الجهد. فقد كان المطلوب من الطالب أن يحضر للدرس الذي يريد أن يدرسه، قبل أن يدرسه. عندما كنا ندرس شرح(ألفية إبن مالك) كنا نتصور أنه لابد لنا من قراءة الدرس قبل أن يتلوه علينا الأستاذ.

ولابد من محاولة فهمه والإطلاع على شروح هذه الكتاب لنفاجئ الأستاذ بالمناقشة، وبالإشكالات التي يمكن أن نستطيع أن نشهرها بوجه إسلوبه، وفكرته أو على صاحب الكتاب، وبذلك بدأنا نتعلم الحوار أو الجدل منذ دراستنا الأولى. كنا نناقش الأستاذ وهو يلقي الدرس،ولا ننتظر حتى ينتهي من الدرس، بل كان الطالب يستطيع أن يسجل نقطة على الأستاذ. وقد يحدث أن الطالب يرفع صوته على الأستاذ، مثلاً، ويتقبل الأستاذ ذلك بطريقة طبيعية جداً. وبهذا كانت طريقتنا في الدراسة تفرض علينا أن نتعمق بالمادة التي ندرسها، وبذلك إلتقين العمق، منذ بداية دراستنا، لأن الدراسة النجفية ليست إستظهاراً، ولكنها دراسة فيها الكثير من الفكر. وبالإضافة إلى مسألة الدراسة يفرض على الطالب أن يكتب درسه، وربما يطلب منه الأستاذ أن يرى كتابته، ويفرض على الطالب أن يذاكر درسه مع زميله، عندما ينتهي الدرس يذهب الطالب إلى من يتفق معه من زملائه فيقرر الطالب الدرس ويناقشه وزميله، وزميله يقرر الدرس في اليوم الثاني وهكذا يستطيع أن يكون طالباً ومدرساً في آن واحد فيتعلم إسلوب التربية وهو طالب. وإلى جانب ذلك كنا نقرأ الكتب التاريخية، ونطلع على الكتب الدينية، وكما ذكرت كنت أقرأ الكتب الأدبية.

الهويات الأدبية

• أي نوع من الكتب إستهويت قراءتها أكثر؟

غالباً، الكتابة الأدبية الشعرية، وتطورت قراءاتي في ذلك الوقت في سن الخامسة عشر، بحيث كنت أقرأ مجلة(أدب الكاتب) التي كان يصدرها طه حسين، وكنت أقرأ مجلة(الكتاب) التي كان يصدرها عادل الغضبان في مصر، وكنا نقرأ مجلة(الأديب) التي كان ينشرها ألبير أديب. وفي بداية الخمسينات إنفتحنا على مجلة(الآداب).

وكما قلت، كنت منجذباً إلى قراءة القصص الطويلة، سواء كانت عربية أو غير عربية، كنت أقرأ كتب جرجي زيدان، والقصص المصرية. كنا نقرأ أيضاً ترجمات جان جاك روسو، ولم تكن القارءات منظمة. لإفتقارها إلى أية ثقافة منهجية تتيح لنا أن ننظم قناعاتنا، ولكن التذوق إستطاع أن يحقق لي نوعاً من أنواع الإنفتاح الثقافي.
بخيث لم أستغرق في جانب معين، وأظن هذا الإنفتاح الثقافي أفادني في المستقبل بإنفتاحي الإنساني.لم أشعر بالضيق من الرأي الآخر، لأني كنت أقرأ الرأي الآخر. لم أشعر بتعقيد من الأفكار المضادة، أذكر عندما غلتقينا بالتيار الشيوعي في العراق، وكان الحزب الشيوعي العراقي أكثر الأحزاب نشاطاً وحيوية، وحركية في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، في ذلك الوقت كنا نشعر أن علينا أن نقرأ المادية الديالكتيكية من مثل مطالعتنا، وقتها، ما كتب هنري لوفافر عن كارل ماركس في ذلك السن المبكر، حتى أنني عندما جئت إلى لبنان-وكانت ولادتي في النجف- في سنو 1952، وجئت إلى بنت جبيل بإعتبارها بلد والدتي وعيناتا بلد والدي، كنا نلتقي بالمثقفين، من الشيوعيين والقوميين، وكنت أشعر إني قادر على أن أناقشهم، ولم تكن ثقافتي واسعة في ذلك الوقت، وكنت في السادسة عشر والنصف من عمري، لكن كنت أشعر بالقدرة على المناقشة، وعلى الجدل. في ذلك الوقت أذكر إنني عندما جئت إلى هنا كنت ألتقي بالدكتور حسين مروة بسبب وجود قرابة بيننا وبينه، أذكر أنني في إحدى المرات ناقشته، في قول الإنسان،(لا سمح الله) أو (ما شاء الله)- ومن هو هذا الله – لا يسمح ولا يشاء، فقالهذه كلمات أصبحت جزء من اللغة العربية التي لا يراد منها معناه الحرفي).

هذا أفادني إنفتاحاً بحيث لم اشعر بتعقيد من أية علاقة بأي شخص. وفي العراق كانت عندي علاقة بالشيوعيين والقوميين والوطنيين والديمقراطيين، كما كان لي علاقة مع المتدينين، وهناك نقطة أتذكرها، في طفولتي الأولى، كان لدي ولع بالجلوس إلى كبار السن من العلماء الذين لا يملكون حركية إجتماعية، أو موقعاً رسمياً. هناك علماء يعتبرون من الروحانيين، وكنت أنا إبن الخامسة عشر أجلس إلى عالم كبير في التسعين من العمر، فكنت أستمتع بالجلوس إليه، بإعتبار أنني كنت أستمتع بالجانب الروحي، وأستمتع بأحاديثه عن التاريخ. وإذا كان هناك فائدة لعلي إستفدت فائدة روحية، عميقة في تطلعاتي الروحية، التي استمددتها من هذه العلاقات. ربما الآن أستغرب نفسي كيف كنت أنسجم، في بداية الطفولة مع هذا الجو، وأشعر الآن عندما أرجع للماضي عناصر شخصيتي في ذلك الوقت كانت منفتحة على كل الأجيال، بحيث لا تحس بعقدة من الجلوس إلى جيل بهذا الحجم. ربما كانت تأثيراتي الأولى، بسبب عدم معايشتي طفولة عبثية، لاهية، قد عرفتها من تطلعاتي التي كانت تمتلك الكثير من الجدية.

العلاقة مع الوالدين

• كيف كانت علاقاتكم بالوالدين، هل شابها شيء بعدم التفاهم؟

عندما أتذكر والدي أشعر بإحترام كبير لشخصيته التربوية، فقد لاحظت أنه لم يفرض نفسه على حتى منذ البداية. وأذكر أنه لم يضربني مرة، بالرغم من أني كنت أخطئ. كانت طريقته بالتعبير عن رفضه لبعض ممارساتي هو تحديق بشكل غاضب ثم إهمالي يوماً أو يومين حتى أشعر بالخطأ وعند ذلك أجيء إليه معتذراً فيقبلني. وعندما بدأت أنفتح جعل مني صديقاً، كنت أناقشه في كل شيئ، وكان يتقبل ذلك. كنا نجلس على المائدة في فترة الغداء أو العشاء، وكنت أدخل معه في نقاشات ما أدرسه، تماماً كما هو الند للند، وكان ينفتح علي دون أن يتضايق. كنت أطرح عليه الكثير من تساؤلاتي التي لا يمكن أن نطرحها على مجتمعنا لئلا تثير كثيراً من التساؤلات حول مدى إلتزامك الديني أو الفكري.... إلخ.

وكنت أشعر بأني بحاجة إلى أن أناقش بعض الأشياء التي تدور حولها علامات إستفهام، في الوقت الذي لا يتقبل فيه المجتمع المناقشة بها، كان يملك رحابة الصدر التي تسمح له بالمناقشة بشكل أساسي. لقد إستطاع المرحوم الوالد أن يفسح المجال لأن تكون طفولتي، وشبابي بداية كهولية منفتحة بشكل مثير. وربما كان الناس الذين يذهبون إليه يريدون القداسة والوداعة.

كان يتمثل بروحانية صافية يخشع لها كل الناس الذين كانوا يلتقون به، كان يملك وداعة إنسانية رائعة، بحيث كان الصغار في السن يجلسون إليه ولا يشعرون بالوحشة والفارق بين جيله وجيلهم.

أعتقد أن كثيراً من إنفتاحي على الواقع كان الفضل فيه له، لم يغلق عني أي باب. لذلك لم اشعر بأني إختلفت معه يوماً، حتى عندما كنت أختلف معه، في بعض القضايا الفكرية، وحتى في أواخر أيامه كنت أتحدث معه في مختلف القضايا السياسية، وكنت قد بدأت نشاطي اإجتماعي والسياسي مما كان يثير الانتقاد في بعض مجتمعاتنا، كان يتفهمني جيداً. لذلك أعتقد أن له تأثيراً كبيراً على مسألة الإنفتاح التي أعيشها، لأنه كان منفتحاً.