حديث المرارة والالم

صلاح عمر العلي
من منا لا يعرف المئات، بل الالاف من تجار ورجال الاعمال العراقيين الجشعين الذين استغلوا فرصة قرار مجلس الامن الدولي القاضي بفرض الحصار الاقتصادي الجائر على الشعب العراقي ، الذي اجبر الدولة حينها على البحث عن اي وسيلة شرعية او غير شرعية لفك ذلك الحصار او لتخفيف وطآته وتاثيره على حياة المواطنين وذلك بتوفير ما يمكن توفيره من مختلف الاحتياجات الانسانية للمواطن العراقي وإن في حدها الادني، ولبلوغ ذلك الهدف فقد استعان النظام آنذاك برجال الاعمال العراقيين والتجار وغيرهم من المواطنين ممن كانت لغالبيتهم العظمى علاقات مميزة بالنظام او ممن يثق بهم ثقة عالية لتحقيق تلك الغاية وذلك الهدف .



ومن منا لا يعرف طرق الابتزاز اللامشروعة التي اتبعها هؤلاء لزيادة ثرواتهم على حساب المواطنين العراقيين الذين كانوا يعانون اشد انواع المعاناة بسبب ذلك الحصار الظالم الذي لم يسبق له مثيل في أي بلد من بلدان العالم من دون العراق، ومن منا لا يعرف اولئك التجار الجشعين الانانيين ممن ماتت ضمائرهم واتخمتهم تلك المرحلة بالمزيد من الملايين من العملات الصعبة، باسمائهم وعناوينهم وحتى بارقام حساباتهم وفي اي من البنوك أُودعت .




أولئك التجار الفجار الذين كنا نعتقد بان يد القصاص ستنالهم مهما طال الزمن على ما جنوا من اموال السحت باستغلال الاوضاع الشاذة والاستثنائية التي واجهت العراق ما يزيد عن اثني عشر عاما، واذا بهم مَثَلُهم مثل الحرباوات سرعان ما غيروا مواقفهم وولائاتهم من نظام الى آخر ومن قائد الى ثاني ولسان حالهم يقول ( كل من يتزوج أمي أسميه عمي) ففي ساعات وليس ايام هرب جميعهم تاركين العراق وشعبه يواجه قدره ومستقبله بمجرد شن الحرب ودخول قوات الاحتلال الغازية المعتدية على الوطن والشعب. نعم، انهم هربوا من العراق متجهين الى البلدان التي اودعوا ملايينهم في بنوكها او اشتروا المزيد من العقارات فيها، وأسسوا شركاتهم التجارية بمجرد بدء الحرب العدوانية الانكلو - امريكية عام 2003، فهذا هرب الى عمان وذاك الى الامارات العربية وثالث الى القاهرة ورابع الى لندن وآخرين الى دول أوربية مختلفة، وهكذا...... وسرعان ما استأنفوا نشاطاتهم التجارية مع القيادة السياسية الجديدة التي نصبها العدو الامريكي الغازي قسرا وبقوة السلاح في العراق، دون مراعاة لابسط مشاعر ابناء العراق



وبدأ أولئك المحتكرين من التجار ورجال الاعمال العراقيين ممارسة عمليات الابتزاز واقتناص الفرص من جديد لمضاعفة ارصدتهم في البنوك على حساب معاناة هذا الشعب الذي لم يلمس منهم اي شعور بالتعاطف مع فقرائهم ومعوزيهم وايتامهم الذين اصبح عددهم يزيد عن خمسة ملايين يتيم كما اكدت مؤسسات اغاثية دولية، وكذلك ما يزيد عن مليون ارملة فقدت معيلها بسبب ارهاب المحتل وعملاءه وشركاته الامنية التي مارست ابشع واشنع عمليات الاجرام في جميع انحاء العراق على مدى الاعوام السبعة الماضية من وجودها داخل العراق .



ولم يتوقف الامر عند هذا الحد من الدنائة وفقدان الشرف والوطنية، فراح العديد منهم وبدوافع الشره الذي لا حدود له الى المال بالتعاون والتنسيق سرا وعلانية مع شركات تعود ملكياتها لاشخاص يعيشون داخل الكيان الصهيوني المحتل لاشرف واعظم بقعة على هذه الارض وما زال يمعن قتلا وتشريدا لاخوة احباء واعزاء لنا من ابناء شعبنا الفلسطيني الشجاع ، هؤلاء التجار يعرفهم العراقيون واحدا إثر الاخر، كما يعرف عناوين تواجدهم، وارصدتهم في البنوك العربية والاجنبية، كما يعرف عقاراتهم وعماراتهم وفنادقهم وشركاتهم المعلنة والخفية، وقد أوردت مواقع انترنيت يملكها عراقيون اسمائهم واحدا واحدا ومع من من الصهاينة يتعاملون.


ورب سائل يسال :


عن السبب الذي دفعني للكتابة عن هذا الموضوع الذي يجرح مشاعر ملايين العراقيين الشرفاء، كما يدمي قلب كل انسان حر وشريف، سؤال له اكثر من مبرر، فأقول بان شهر رمضان المبارك، هذا الشهر العظيم الذي انزل فيه اشرف واعظم الكلام، كلام الله جل في علاه على نبينا وقائدنا وقدوتنا في الحياة وفي الممات سيد الخلق وسيد الاولين والاخرين، رسولنا الاعظم محمد (ص) ، هذا الشهر الذي تفتح فيه ابواب السماء لكل المؤمنين اللاهجين بالدعاء متضرعين الى الله العزيز الكريم طلبا لرضوانه ومغفرته، الشهر الذي تلين فيه القلوب وتصفى فيه المشاعر والنفوس وتكثر فيه العطايا والصدقات لمن يستحقها من الارامل والايتام والمحتاجين.



كان يساورني شعور في تلك الايام التي لا تعود علينا الا مرة واحدة في العام، بأن الغني والتاجر العراقي الذي يتمتع بثروة طائلة من خيرات بلاده هو من سيتقدم الصفوف في كرمه وصدقاته وخيراته ومساعداته خلال تلك الايام التي جعلها الله سبحانه وتعالى ايام يسر على العباد وميزها عن غيرها من باقي ايام السنة حيث خص فيها ليلة القدر التي جعلها خير من الف شهر تزكية لثروته وتعبيرا اخلاقيا وانسانيا عن الشكر لله على ما أنعم عليه من المال، الا أنني سرعان ما اكتشفت بان هذا الشعور الذي كان يملأ راسي - ويا للخيبة - كان مجرد سراب خادع لا وجود له على ارض الواقع، فقد توفر لي في هذا الشهر المبارك بعض الوقت لمشاهدة ة برامج بعض الفضائيات العراقية وفي مقدمتها قناة الشرقية التي كان لديها برنامج يومي عنوانه (خيرات رمضان.) الذي كان يعرض علينا مساء كل يوم من أيام الشهر الفضيل صورا محزنة حد البكاء والعويل لانها تجرح القلب وتوخز ضمير الحيوان قبل الانسان عن إخوة لنا هم مواطنون عراقيون شرفاء غدر بهم الزمن وتراكمت عليهم المحن من كل حدب وصوب.


فهذا شاب في مقتبل العمر اصيب بمرض عضال اقعده عن العمل أو الدراسة وهو يلازم فراشه في داخل خربة سميت تجاوزا بالبيت، وذاك الكهل الذي فقد اطرافه بسبب اصابته بشظية عمياء لتحوله في لحظات الى انسان معوق عاجز عن العمل ولديه عدد من الاطفال ما زالوا في عمر الورود ليس لهم من معيل الا رب العباد ولا يعلم احد عن حالهم وكيف وباي مستوي يعيشون وثالث ُقتل وزوجَتَه ُبمتفجرة وترك اربعة اطفال ايتام لا معيل لهم ورابع وخامس من صور ذلك الالبوم المحزن الذي كثيرا ما وضعنا اكفنا فوق اعيننا لعدم تحملنا على مشاهدتها، أو صَمَمّنا اذاننا كي لا نسمع ما يقوله أُولئك المعذبون فوق ارضهم الذين نافسوا معذبوا المناضل الزنجي الشهير فرانس فانون من كلام مؤلم لا يتحمله ضمير انساني حر، فقد تخلت عنهم السلطة لانشغال اعضاءها بسرقة مليارات الدولارات من اموال هذا الشعب سيء الحظ، أو بالصراع على سلطة وهمية ما زالت قوات الاحتلال ماسكة بها من جهاتها الاربع، لا من أجل شيء بل طمعا وتنافسا ماراثونيا فيما بينهم على من يسرق اكثر من غيره من اموال الدولة والشعب



وطوال شهر رمضان المبارك ومساء كل يوم كانت قناة الشرقية وقليل من القنوات الاخرى تعرض لنا صورا ونماذج لحياة ابناء واخوة لنا تزيدنا هماعلى هم وترهق مشاعرنا بالمزيد من الالم واللوعة فالعين بصيرة واليد قصيرة كما يقولون، ولم اشاهد طوال تلك الايام ايا من هؤلاء الاغنياء الذين يعانون الحيرة في كيفية استثمار اموالهم الطائلة وثرواتهم الكبيرة وهي اموال وثروات سحت حرام لانهم لم يحصلوا عليها بتعب اليمين أو عرق الجبين وبالعمل والجهد الذي تقره القوانين ويباركه الرب.


اقول :


بانني لم اشاهد أو اسمع لا مباشرة ولا عن طريق المشرفين على هذه البرامج ان تاجرا واحدا فقط ليس اكثر، من بين تلك الالاف قد استيقظ ضميره وتحركت في دمه بقية شهامة او نخوة عراقية بعد ان هزه منظر أُولئك البؤساء من العراقيين الذين نافسوا بؤساء فكتور هوغو في روايته الشهيرة التي حصل بعد نشرها على شهرة عالمية وتربع على عرش ريادة الادب الانساني العالمي فترة طويلة من الزمن. ان الحالة الكارثية التي يواجهها ابناء العراق، لو حظيت باهتمام كاتب قصصي متميز لتمكن من هز ضمير العالم من اقصاه الى اقصاه ولتمكن من اثارة ضجة كبرى حول ما يجري في هذا البلد الذي يطفو على اكبر خزان من النفط في العالم، من الظلم والحيف والامعان في اذلاله وكسر كبريائه ليعيش في ظل الخوف والحرمان والجوع والتقتيل المتواصل منذ عام ١٩٩١ لغاية الان دون ذنب او اثم ارتكبه. ان ما يحز في النفس ان نرى الجميع وقد تخلوا عن نجدة ومساعدة ابناء هذا البلد المبتلى باشرس واسوأ وافسد سلطة جاء بها المحتل الغازي باسم الحرية والديمقراطية، فلا ابناءهم من الاثرياء ولا اشقاءهم العرب ولا الاصدقاء على امتداد مساحة هذا العالم الواسع فكر يوما بمد يد العون والمساعدة لهم ولكن ما يخفف علينا وطأة الشعور بهذا الالم



ان بابا الفاتيكان قد صفع كل تجار واغنياء العراق واشقاءهم واصدقائهم وشركائهم من العرب والمسلمين وفي مقدمتهم مراجع الدين الكبار من الذين شاركوا في ذلك السباق الدنيء لجني المغانم المادية والمكاسب الدنيوية دون وجه حق وهم قبل غيرهم يعرفون تمام المعرفة بانه يتقاطع كليا مع ابسط المفاهيم والقيم الاسلامية، صفعهم البابا بيندكس بحذائه فوق هاماتهم عندما اعلن عن تبرعه بمبلغ ٤٠٠ مليون دولار لبناء ٥٠٠٠ وحدة سكنية في ثلاث محافظات جنوب العراق هي البصرة والناصرية والعمارة، بينما لم نسمع او نقرأ خلال العقدين الماضيين ان احد اصحاب العمائم على مختلف الوانها واحجامها واشكالها أن واحدا من أولئك التجار والاغنياء الفسقة قد تبرع ببناء دار سكن واحدة لاي مواطن عراقي تسعفه على ايواء عائلته التي تعيش في العراء في وقت يعرف فيه القاصي والداني بان الغالبية من أُولئك الذين يطلقون على انفسهم تسمية علماء او رجال الدين وغيرهم من تجار العراق يملكون قدرات تفوق في امكانياتها دول كاملة وبامكانهم بناء مدن حديثة بكل ما تحتاجه من مستلزمات الحياة العصرية الحديثة دون ان تؤثر على ميزانياتهم الفاحشة التي اغنوها بالمزيد من المال الحرام بجشعهم ودنائاتهم وعمالتهم للاجنبي وتواطئهم معه على حساب كرامة شعبنا العراقي الابي وحريته وسيادته في وطنه.



أما اشقاؤنا العرب، فالحديث عن مواقفهم ومشاعرهم تجاه المحنة الدامية التي لو عرفتها شعوب العالم على حقيقتها لهزت الارض والسماء احتجاجا ورفضا لما يعانيه هذا الشعب العظيم الذي احتل موقعا متقدما منذ آلاف السنين في موكب الحضارة الانسانية تعليما وعطاءا وتضحية وفروسية وشجاعة ودفاعا عن كرامة أمة العرب والمسلمين قديما وحديثا، الا ان اخوتنا مع كل ذلك قابلونا بالعقوق والازدراء وبالتفرج الشامت لمحنتنا واحتلال ارضنا وتدمير دولتنا وقتل ابنائنا ونهب ثرواتنا ولم يفكر اي من زعماء هذه الامة بمد يد العون وان بصورة رمزية ليمسح عنا شعور الخيبة والصدمة وما علموا بان الايام دول. ويوم لك ويوم عليك


٢٠١٠/٩/١٣