أحداث النجف الأخيرة .. دروس وعبر - 1

أرض السواد - طاهر الخزاعي

ألقت بظلالها الحزينة على شعب ملبسه الحزن ومأكله التعب ومسكنه الموت والسجون والتشريد والعذابات التي رافقته هذه الأرض التي سُنَّ أول قانون من رحمها في دنيا الانسان ! .. أحداث النجف لم تكن اول الامتحانات العسيرة ولا آخرها ولكنها قد تختلف من جهة الظروف المحيطة من حيث الزمان ليس إلا .. هذا الزمان باعتقادي هو العامل الأهم في الاحداث وتداعياتها حاضراً ومستقبلاً . الزمن هو زمن الاحتلال الامريكي , ونفسه زمن الحكومة المؤقتة ونفسه زمن تأسيس مجلس منتخب من قبل مؤتمر ليكون خطوة نحو تأسيس حكومة عراقية , هو ذات الزمن الذي تتطلع فيه معظم القوى السياسية العراقية للحصول على موطأ قدم في الحكومة ! .. هو ذات الزمن الذي صادف أن اُصيب قلب المرجع بوعكة قلبية سافر على أثرها الى لندن ! .. هو ذات الزمن الذي خلت فيه النجف من بقية المراجع , هو زمن مواجهة الحكومة المؤقتة لتحديات الاستقرار والأمن في العراق وهو ذاته زمن ما قبل انتخابات بوش .
سأحاول تناول شيء من تداعيات هذه الأزمة , ما لها وما عليها , وما للآخرين وما عليهم من حيث التعاطي معها سلباً أو ايجاباً من أجل ملامسة طائف من الحقيقة التي نبحث عنها لنستفيد ما أمكن من دروسها وعبرها , كل ذلك بشيء من الشفافية التي ستغيض من لا تعجبه ولكن العزاء أن نؤسس لأن نكون أمة تستفيد من تجاربها وأن تخرج أصلب عوداً بعد ألم وجراح المخاضات العسيرة ! .

سأتناول ذلك على الطريقة التفكيكية فيكون :

أولاً : أزمة النجف بين تيار الصدر وقوات الاحتلال
ثانيا : أزمة النجف والحكومة العراقية
ثالثا : أزمة النجف والمرجعية
رابعا : أزمة النجف والقوى السياسية العراقية


أزمة النجف بين تيار الصدر وقوات الاحتلال

أتصور أن أزمة النجف بالنسبة للاحتلال لم تبدأ هذا الشهر ولا قبل أربعة شهور في نيسان الماضي يوم اعتقل بريمر مساعد مقتدى الصدر "اليعقوبي" وأغلق صحيفة تيار الصدر وضرب مظاهرات مدينة الثورة بالطائرات والدبابات وأصدر مذكرة اعتقال مقتدى الصدر .. بل بدأت أزمة النجف مع الاحتلال في اليوم الأول الذي أعقب سقوط النظام الصدامي وتحديدا في اليوم الذي قُتل فيه عبدالمجيد الخوئي موفد القوات الامريكية والبريطانية الى النجف . الجماهير التي قتلت عبدالمجيد الخوئي في النجف العام الماضي وتحت أي ذريعة وأي تخطيط داخلي أو خارجي وجهتها أمريكا بحق أو بباطل نحو تيار الصدر الأمر الذي جعل قوات الاحتلال أرَّخت لهذه الازمة من ذلك الوقت . ولكن أولويات القوات الامريكية في العراق لترتيب الوضع السياسي والاقتصادية وملاحقة صدام وأبنائه ورجاله الخمس والخمسين وحل وزرارات وتأسيس أخرى وغير ذلك من الأمور هي التي جعلت أمريكا تؤجل قرار التصفية لتيار الصدر لأنسب الأوقات لها . وما يؤكد هذا الطرح القرار الأمريكي الذي تم اتخاذه بتصفية تيار الصدر متمثلاً برأسه مقتدى الصدر وبعض ممثليه وهذا ما صرح به بريمر رسميا بمذكرة صدرت في ذلك وتحدث في هذا المضمار كل من بوش وباول ورامسفيلد أيضا . فالمراقب غير المنحاز يجد ذلك جليا ومن خلال التصعيد الامريكي ومحاولات جر أتباع الصدر لمواجهات وبشكل خاص في مدينتي الثورة والنجف . وما أدى الى نشوب الازمة الاخيرة هو محاولة القوات الامريكية مع الشرطة العراقية مداهمة بيت مقتدى الصدر فتصدى لهم أنصاره , فاستعرت النار بين الطرفين وامتدت الى كل من البصرة والناصرية والعمارة والديوانية والكوت والحلة فضلاً عن مدينة الثورة في بغداد .
لعل السؤال الأهم هنا هو كيف يبدأ التصعيد ؟ وبشكل تصعيد الازمة الاخيرة , اذ نعلم أن الازمة التي سبقتها كان سببه اعتقال اليعقوبي واغلاق صحيفة "الحوزة الناطقة" تلتها مذكرة اعتقال مقتدى الصدر . أما الازمة الاخيرة فكان أحد أسباب تصعيدها هو اختطاف خال محافظ النجف الذرفي وقتله وقيل التمثيل به من قبل عصابة أوحت أنها من جيش المهدي وأتباع مقتدى الصدر . وحسب معلومات من مصادر موثوقة على تماس بالأوضاع هناك أكدت أن هؤلاء من المندسين بين أتباع الصدر ! وهذه بحد ذاتها مشكلة تُحتم على مقتدى الصدر والقيمين على تيار الصدر أن يضعوا حداً لحالات الاندساس والاختراق لهذا التيار . مع الاعتراق بصعوبة ذلك لافتقاد هذا التيار للاسلوب التنظيمي المؤسساتي مما يسهل اختراق المندسين ويصعب تشخيصهم في نفس الوقت ومع هذا لابد من التفكير بطريقة ما لوضع علاج لهذه الحالة . فماهو الضمان أن لا تتكرر هذه الحالة وبأي اسلوب آخر ؟ .

لهذا السبب سمعنا محافظ النجف في اليوم الاول للأزمة قال انه شخصيا استدعى القوات الامريكية ! . ولا يبعد أن يكون ذلك منه انتقاما وثأرا لدم خاله ! مما يضعنا أمام وقفة أخرى وهو استدعاء القوات الامريكية من أجل الثأر الشخصي واستغلال صلاحيات المنصب لاراقة الدماء وزج المجتمع العراقي في معارك من نمط المعارك الاخيرة ! ..

اذاً واحدة من أمراض تيار الصدر هو حالات الاختراق التي يجب علاجها وأن يكون التيار حاضرا في أي حادثة لنفيها والتنصل والبراءة منها .. وقضية الاختراق هذه بحاجة الى شيء من القاء الضوء عليها ولم اجد حتى اللحظة تفسيرا مقنعا لها . فأكثر الآراء تذهب الى أن المخترقين هم من البعثيين وأزلام النظام البائد , وهذه لا تقف أمام التدقيق والتمحيص لأن البعثيين عادوا جميعا الى وظائفهم وانتهى عمليا والغي قرار اجتثاثهم هذا من جانب ومن جانب آخر ليس من صفات البعثي أن يضع نفسه في موقف مواجهة مع قوات الاحتلال وهم من هربوا ونام قدوتهم في حفرته لاكثر من ثمانية أشهر ! .. هناك تفسيران لامكانية اختراق البعثيين لتيار الصدر , التفسير الأول أن بعض البعثيين مطلوبين ومتورطين بجرائم قتل بحيث لا يوجد خط رجعة لهم فوجدوا في هذا التيار غطاء حماية لهم , وهو تفسير فيه من الضعف ما لا يخفى لأن البعثي القاتل أمامه فرصة الخروج والهروب من العراق أو التواري عن الانظار أفضل من أن يلتحق بتيار الصدر لإمكانية اكتشافه . والتفسير الثاني وهو الأقرب ذلك ان هؤلاء يتقمصون الانتساب لتيار الصدر وجيش المهدي لزرع بذور الفتنة والتصرف وفق منهج يُتيح لهم التحرك بعد خلق جو من الفوضى والاضطراب لتحقيق أهداف معينة وهذه تنطبق على البعثيين وغيرهم . على كل حال وسواء كانت مسألة الاختراق مبالغ فيها أم لا , يبقى على القيمين على تيار الصدر أن يغلقوا كل المنافذ على أمثال هؤلاء .

المسألة الاخرى الذي تحتاج الى وقفة تتعلق بتيار الصدر والسيد مقتدى الصدر بشكل خاص , تلك هي المحكمة الشرعية الموجودة في النجف الأشرف .. ونعلم أن هذه المحكمة أسسها الشهيد الصدر الثاني رحمه الله , وبكل المقاييس كانت صحيحة فهي رسالة للنظام الصدامي وقتها والشعب معاً مفادها عدم الاعتراف بمحاكم صدام غير الشرعية فهي نوع من سلب الشرعية من محاكم النظام , واهم مافي ذلك أن القيم عليها كان هو الشهيد الصدر الثاني وهو مجتهد ومرجع والمحكمة كانت تستمد شرعيتها من ذلك . أما الآن وقد زال النظام الصدامي وزالت محاكمه ومع فقدان المرجع الصدر الثاني أو أي مرجع آخر يمضي هذه المحكمة ويعين قضاتها أصبحت تفتقد للشرعية ولا يكفي في ذلك تأسيسها على يد الصدر الثاني وتطبيق الاستصحاب لا يصح هنا . نعم قد يقول السيد مقتدى الصدر ان المحاكم العراقية اليوم لا تختلف عن محاكم صدام من حيث عدم الشرعية وهنا جانب كبير من الصحة الا عدم شرعية المحاكم الحالية لا يعطي المحكمة الصدرية حاليا أي شرعية خاصة اذا ما نظرنا الى امكانية حالات الاختراق وعدم وجود مجتهدين فيها للقضاء . هذه المحكمة انتهى دورها وانتهت مرحلتها ويمكن استبدالها بمؤسسة علمية ثقافية أخرى تنسجم والمرحلة .

ويؤخذ أيضا على ممثلي الصدر ومن في الواجهة منهم - على كثرتهم - هذه اللامركزية الظاهرة في التصريحات التي غالبا ما تقع متناقضة مما يعطي الطرف الآخر فرصة أكبر للتحجج في ضرب هذا التيار .. إن تداعيات هذه الأزمة في من الدروس الجمة التي يجب على القيمين على تيار الصدر دراستها والاستفادة منها وتصحيح الاخطاء فكل المؤشرات تقول ان الأحداث ستتكرر سيناريوهاتها . وليعلم السيد مقتدى الصدر والقيمين على هذا التيار انه ليس ملكاً لهم بل هو ملك العراق والعراقيين وهو تيار جاء ثمرة الدماء والتضحيات الكثيرة التي أرسى قواعدها الصدر الأول وتكللت في انتفاضة شعبان وعمل على ديمومتها بكل جد ومثابرة الصدر الثاني بكفنه ودمه .

إن من المهم الالتفات الى أن قوات الاحتلال لا يهمها محكمة مقتدى الصدر ولا حتى حالات الاختراق ووجود المندسين بين صفوف تيار الصدر بقدر ما يهمها أن هذا التيار رافض للاحتلال ويأبى السير في السفينة التي أعدها نجار الاحتلال .. قوات الاحتلال يهمها أن هذا شخص يقود تيار يصرح بالعداء للاحتلال ويطالب بجدولته وبالتالي نهايته وهذا مالا تقبل فيه قيادة الاحتلال ولا حتى تسكت عنه اذ لها أجندتها في العراق ولا تريد من - قد - يُفسد عليها هذه الاجندة إن عاجلا أم آجلاً . وهذا هو اُس قرار تصفية الصدر وتياره أو أن يلتحق بتلك الاجندة وإن مرغما كما هو غيره ! .

الحقيقة أن أزمة النجف الأخيرة وكما هو الواقع في الشارع العراقي أدت الى تجذير تيار الصدر أكثر وأكثر فرفعت من رصيده لأنه كان في موقع المدافع عن نفسه أولاً ولمرور سنة ونصف تقريبا من سقوط النظام ولم يحصد الشعب العراقي من الوعود الامريكية شيئا يُذكر فالبطالة كما هي , لا أمن ولا استقرار , لا خدمات ولا ديمقراطية ! .. هذا الكشف الذي حققته الأزمة يجعل من المعنيين في الشأن السياسي العراقي أن يقلبوا صفحة تهميش التيار الصدري وأن يعيدوا الحسابات ثانية , فالتيار الصدري خزين عراقي هائل مستعد للتضحية من أجل قضيته والاستعداد للتضحية عملة نادرة لا يجوز التفريط بها .

الحقيقة أعلاه تقودنا الى الحقيقة الأخرى التي يجب ايصالها الى قوات الاحتلال ومن سار في اسلوبها من الحكومة المؤقتة , ذلك أن العنف لا يولد الا العنف أولاً واستخدام السلاح والارهاب في اقصاء الآخر والقضاء عليه تجربة أثبتت فشلها بشكل صارخ لمدة ثلاثة عقود مضت ! . والحل الناجم عن استخدام الدبابة يوسع المشكلة ولا يحلها بل يؤسس لولادة حركات تتبنى الكفاح المسلح وبشكل سري للتعبير عن ممارسة معارضتها للاحتلال والحكومة الناتجة عنه ! , وهو ما لا ينسجم وادعاءات الديمقراطية وحرية التعبير والمجتمع المدني .
من الامور الاخرى التي لابد من الاشارة اليها هي :

1 - استماتة أتباع الصدر في الدفاع ! ولم تسجل أحداث الاسابيع الثلاثة الاخيرة ولا الازمة التي سبقتها حالة هروب واحدة من قبل أتباع الصدر ! . وهذه النقطة محسوبة لهذا التيار وهي بشكل خاص ستزيد من رصيد الاحترام له بين أبناء الشعب العراقي , اذ المعروف أنك تحترم عدوك اذا كان شجاعا مقداما .

2 - مقتدى الصدر كقائد لهذا التيار أثبت - على خلاف الكثير من التوقعات - نجاحا في اسلوب ادارة الازمة الدفاعية التي خاضها رغم جرحه ورغم حداثة سنه وقلة خبرته نلاحظه وجه دفة الأزمة لصالحه ورمى بالكرة في ملعب المرجعية وهذا ما سنتعرض له لاحقا .

3 - تمكن تيار الصدر ومن خلال الصمود في الأزمة الاخيرة من نسف الفكرة القائلة بتعاون الشيعة مع قوات الاحتلال وأثبت أيضا أن قوات الاحتلال لا تميز بين شيعيا وسنيا فهي لم تنته من الفلوجة حتى تحركت نحو مدن الشيعة .

4 - وهو أمر مهم تعرت حكاية استلام السلطة والسيادة في الثلاثين من حزيران الماضي وحتى تسمية قوات متعددة الجنسيات فقد أثبتت أزمة النجف أن القوات الامريكية مرابطة أصلا في بحر النجف وبين الكوفة والنجف ودخولها المعارك بشكل مباشر دون اشتراك أي جنسية أخرى ! .

5 - بعد أحداث النجف واستخدام القنابل العنقودية وشتى الاسلحة الثقيلة وهذا الدمار الذي خلفته حرب الاسابيع الثلاثة في النجف ألغى والى الأبد اضحوكة غزو العراق للحد من اسلحة الدمار الشامل جنبا الى جنب مع اضحوكة تحرير الشعب العراقي ! . وأمريكا في تعاطيها مع أزمة النجف الأخيرة قرأت رسالتها للعراقيين وبالخط العريض أن من يطالب بخروج الاحتلال ومن يلوح بمقاومة الاحتلال فمصيره هذا الدمار وهذا السحق ! .

6 - أثبتت الأزمة ان نفط العراقيين أهم من دمائهم عند أمريكا فقد كان احتراق أنابيب وحقول ومضخات النفط في الجنوب عاملاً كبيرا ودورا رئيسا في نهاية أزمة النجف ولو مؤقتاً ! .