مرجعية السيد فضل الله لأنهم وجدوا فيه المكمل لخط الشهيد الصدر.

والذي يؤكد هذه النظرة أن الحملة المغرضة ضد السيد فضل الله إنطلقت بشكل مكثف بعد وفاة السيد الكلبايكاني (قدس سره)، وخلو الساحة تقريباً من المرجعيات الكبيرة المعروفة، فقد برز السيد فضل الله في تلك الظروف كمرجع له بريقه لما يتمتع به من قدرات وإمكانات ووعي وثقافة عصرية، يفتقر إليها بقية المراجع. وهذا يعني أن خط السيد الشهيد الصدر في المرجعية، سيتجدد في مرجعية آية الله السيد فضل الله.

يضاف الى هذا عامل آخر، ذاك هو بروز آية الله السيد الخامنئي قائد الثورة الاسلامية وولي أمر المسلمين كشخصية قائدة لها وزنها في عالم التشيع، لما يحظى به من إمكانات كبيرة على مستوى العالم الاسلامي، وبإعتباره المكمل لخط الامام الخميني (قدس سره).

وبذلك وجد المغرضون أن المرجعيـة الحركية الواعية ستمتلك هذه المرة قـوة هائلة، فالتقارب واضح بين السيدين الخامنئي وفضـل الله، وهما متحدان في التوجهات الاستراتيجية والوعي الحركي، والنظرة الشمولية لمشاكل الأمة، والفهم الدقيق لموقع الاسلام في معركته الحضارية ضد قوى الاستكبار.. كل هذا يعني أن الاتجاه الحركي في المرجعية سيكون هو الغالب في عالم الشيعة، وهذا يعني في المقابل أن الاتجاه التقليدي سينحسر في القريب.

في ضوء هذه المعطيات قرر المغرضون أن ينالوا من المرجعية الحركية بشكل سريع ومكثف قبل أن يحدث التلاحم العملي بين مرجعيتي السيد الخامنئي والسيد فضل الله. ولأن إستهداف مرجعية السيد الخامنئي عملية صعبة، قرر هؤلاء النيل من مرجعية السيد فضل الله. وكانت أمنيتهم لو أن شرخاً يحدث بين

[472]

السيد الخامنئي والسيد فضل الله، فهذا هو المطلوب في مخططهم الاستراتيجي. وقد حاولوا ذلك في عدة مناسبات، حتى أن أحدهم ألقى قصيدة شعرية ينال فيها من السيد فضل الله، خلال اللقاء الاسبوعي العام الذي يعقده سماحة ولي أمر المسلمين كل يوم أثنين، لكن السيد الخامنئي ردّ بشدة على صاحب القصيدة، وإعتبر ذلك عملاً غير لائق، وأصدر تعليماته بسرعة الاتصال بالسيد فضل الله وإحاطته علماً بما حدث وموقف السيد القائد مما حدث.

في تصوري إن هذه الحادثة كانت محاولة لجس النبض من قبل المغرضين، وخطوة تتبعها خطوات أكبر، لكن السيد الخامنئي أحبط اللعبة منذ البداية. إلا ان المحاولات ظلت متواصلة حتى كتابة هذه السطور.

بعد ذلك إتجه المغرضون والمشبوهون والتقليديون الى إثارة الأزمة على مستوى أكبر فقد قرروا جر المرجعيات الى صراع داخلي، وذلك بأن يكون المراجع ضد السيد فضل الله، وفجأة صدر بيان يحمل اسماء عدد من مراجع النجف الأشرف يتهجم على آراء السيد فضل الله، والبيان في حقيقته كان ورقة مزورة إفتراها هؤلاء المتصيدون في الماء العكر. وقد إنكشفت المؤامرة عندما أصدر سماحة السيد السيستاني حفظه الله، بياناً كذّب فيه ما نسب اليه.

كانت ذكرى وفاة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، مناسبة

[473]

سنوية لإشعال الأزمة وتجديدها، وهكذا حوّل هؤلاء مناسبات المعصومين توقيتاً لبث الفتن والإختلاف بالباطل، بدل أن يعمقوا خط أهل البيت عليهم السلام في نشر فضائلهم وجمع الأمة على نهجهم الحق الأصيل. وبذلك فقدت مناسبة وفاة الزهراء عطاءاتها الروحية والمعنوية، وحولوها الى معترك ساخن، إستخدموا فيه التزوير وقلب الحقائق، مدعين أنهم ينتصرون للزهراء، في حين أن الزهراء قامت ضد الذين زوروا وكتموا الحق وغصبوه عن اهله.. والعبرة واضحة هنا لا تحتاج الى إيضاح.

وحدث في إحدى المناسبات أن صدر بيان موقع من قبل ثمانية علماء في قم المقدسة ينالون من شخص السيد فضل الله، ويعتبرون أن آراءه منحرفة. لكن صدر في أعقابه مباشرة بيان من قبل جمع من طلبة الحوزة العلمية في قم المقدسة تضمن حواراً أجروه مع أحد الموقعين الثمانية، حول الأسس التي إستند اليها في إدانة السيد فضل الله، ولم يستطع هذا العالم أن يدافع عن وجهة نظره، ووقع في مغالطات متتالية حتى إضطر أن ينهي الحوار بخشونة، بعد أن أعياه الحوار العلمي السليم.

وتوالت بعد ذلك هذه المحاولات وكان أهمها هو جر مراجع الدين في قم المقدسة الى هذه الأزمة، وقد نجحت المحاولات في جر أثنين منهم الى حلبة الصراع هما آية الله الشيخ جواد التبريزي وآية الله الشيخ الوحيد الخراساني.

[474]

وقد أدرجنا في الملحق الوثائقي نصوص المراسلات والبيانات الصادرة في هذا الخصوص.

برز في تلك الأجواء الساخنة آية الله الشيخ حسين النوري الهمداني، ليمثل ظاهرة في هذه الأزمة. فقد بدأ معارضاً الاتجاه المغرض، وأصدر عدة بيانات وتصريحات تؤيد السيد فضل الله، وتدافع عنه بقوة. لكنه في شهر آب 1998م، تحول الى الاتجاه الآخر، دون سابق إنذار. ولم يكن يملك مبرراً منطقياً لهذا التحول في الموقف.

في البداية وقف الشيخ النـوري مـوقف الباحث عن الحق والحقيقة، فقد وقف عند الشبهات المثارة على السيد فضل الله، واراد أن يعـرف الحقيقة كما هي، فبعث برسالة الى السيـد فضل الله يستفسر فيها عن آرائه في الموارد التي أثاروها. وأجابه السيد فضل الله برسالة واضحـة بيّن فيها رأيه في كل مـورد من الموارد.

كما قام الشيخ النوري الهمداني بزيارة الى بيروت عام 1997م، حيث إلتقى بالسيد وتحدث معه مباشرة عن آرائه والشبهات التي يثيرها المغرضون حوله، وعاد الى قم وهو يحمل صورة واضحة عن الموقف، فقد أعلن رأيه صراحة بأن آراء السيد فضل الله لا غبار عليها، وأنه يحمل فكر أهل البيت عليهم السلام

[475]

الأصيل، وعارض الاتجاه الذي يحاربه ويحاول إثارة الشبهات حوله.

وقد تعرض الشيخ النوري نتيجة مواقفه هذه لحملة تشويه قادها ضده المغرضون. وكانت هناك محاولات خفية للضغط عليه، من أجل دفعه الى التخلي عن موقفه المؤيد للسيد فضل الله.

وقد فوجىء الجميع بصدور بيان من الشيخ النوري، يتراجع فيه عن مواقفه السابقة، ويعلن عدم تأييده للسيد فضل الله، وقد برر ذلك بأنه كان يؤيده على مواقفه السياسية وليس الفكرية، وقد شكك في هذا البيان بإجتهاد السيد فضل الله.

وقد كان البيان ضعيفاً لأنه كان يناقض البيانات السابقة للشيخ النوري، فقد ذكر الشيخ سابقاً ان السيد فضل الله عالم مجتهد بارع، وأعلن أن آراءه العقائدية هي أفكار صحيحة لا غبار عليها، وان الذي يتعرضون له، إنما يهاجمونه بدافع الصراع على المرجعية، وأنهم متأثرون (بالدينار الكويتي).

وعندما كان يستفسر طلبة الحوزة العلمية منه عن سبب هذا التحول، كان يجيب بأنه تعرض لضغوط كبيرة، وهذا الجواب يمثل إدانة له، لأن المفروض من عالم الدين أن يقول الحق، لا أن يخضع للضغط.

كان يرافق كل هذه التطورات والأحداث صدور العديد من الكراسات والمنشورات التي كانت تلقى في شوارع قم المقدسة وهي خالية من التوقيع والأسماء الصريحة. في حين كانت هناك الكثير من المنشورات والبيانات التي تصدر في مختلف البقاع، وهي تقف الى جانب سماحة آية الله السيد فضل الله، وتدين الحملة المغرضة التي يثيرها المنتفعون المتصيدون في الماء العكر. وقد أدرجنا بعض تلك المنشورات في الملحق الوثائقي من هذا الكتاب.

وهناك ملاحظة جديرة بالتأمل وهي أن الحملة كانت تستعر في بعض

[476]

المواقف والظروف التي تهم المسلمين عموماً والتي يسجل فيها السيد فضل الله موقفه الصريح، مثل إنعقاد مؤتمر شرم الشيخ، حيث شجب السيد فضل الله هذا المؤتمر بعنف وكشف خفاياه وما يراد منه، فسارع المغرضون الى تصعيد حملتهم ضده، وكأنهم يريدون التعمية على القضية الأهم التي تمس واقع المسلمين.

كان الغرض كما أشرنا هو النيل من شخصية السيد فضل الله كمرجع، ولو أنه لم يصبح مرجعاً لما تعرض الى سهام هؤلاء وحرابهم. لكن هؤلاء لم يستوعبوا حقيقة إجتماعية مهمة، وهي أن بعض المراجع لا يتصدون الى المرجعية بمعنى السعي إليها، إنما المرجعية تأتي اليهم طوعاً نتيجة موقف الأمة، فالامام الخميني والسيد الشهيد وغيرهما لم يطرحوا أنفسهم للأمة كمراجع إلا بعد ان نادت بهم الأمة بمرجعيتهم. والسيد فضل الله من هذا الطراز من الشخصيات الاسلامية، فهو لم يرد المرجعية هدفاً، إنما الجماهير التي عرفت تاريخه وثقافته وفكره الحركي المؤثر أرادته أن يكون مرجعها. وهذه الجماهير لن تغير موقفها ببيان مكذوب أو بأوراق صفراء أو بخطبة رجل إنفعالي. إن الجماهير بلغت من الوعي ما يمكنها من فرز الخطأ والصواب بلمحة عين، وهذا هو الذي حصل وسيبقى هو القانون في نظرة الجماهير الى قادتها ومراجعها وعلمائها.

ثالثاً: الموقف العدائي من الثورة الاسلامية في ايران:

منذ بداية إنتصار الثورة الاسلامية في ايران، وقف آية الله السيد فضل الله، مدافعاً عنها وعن قائدها الكبير الامام الخميني قدس سره، وكان يمثل القوة المتصدية لكل محاولات التشويه للثورة، وذلك عبر خطبه ومحاضراته ومقابلاته الصحفية وكتاباته، وقد أثارت مواقفه هذه أجهزة الاستكبار العالمي كما أثارت أعداء الثورة ضده.

لقد كان السيد فضل الله ـ ولايزال ـ الشخصية الاسلامية الوحيدة التي وقفت

[477]

بكل قوة وإخلاص للدفاع عن الثورة الاسلامية، فكان يتعامل معها على أنها قضيته ومسؤوليته، رغم أن هذا الموقف جعله يواجه تحديات حقيقية، كان منها المحاولات العديدة التي حاولت تصفيته جسديا لكن العناية الألهية أنقذته منها، ليواصل مشروعه الكبير في التوعية والاصلاح.

لم يكن أعداء الثورة بحاجة الى التحليل والاستقصاء لمعرفة موقف السيد فضل الله، من الثورة الاسلامية، فلقد كان واضحاً ما ذا تعني الثورة بالنسبة له، وقد أدرك المغرضون أنه يقوم بدور كبير في نصرة الثورة.. دور مؤثر لا يمكن تغافله لا سيما في خطبه المؤثرة ومقابلاته الصحفية المتكررة. فشعر هؤلاء أنهم أمام قوة ضخمة تمتلك كل عناصر القوة المتمثلة في القدرة البيانية والخطابية، والفكر الحيّ الذي يحلل ويفسر ويكشف النقاب عن كل محاولات التشويه المبذولة ضد الثورة.

ولأن المغرضين لم يكن بمقدورهم مواجهة الثورة من الداخل، والنيل من قيادتها، لذلك بدأوا بآية الله السيد فضل الله، وهم في الحقيقة إنما يستهدفون آية الله السيد الخامنئي وكل رمز ثوري إسلامي.

وعلى هذا كانت حربهم المعلنة على السيد فضل الله، تمثل في معناها العميق، الحرب على الوجود الحركي والثوري بأسره. وقد فكر المغرضون أنهم لو أسقطوا السيد وأعاقوا حركته، فإنهم سيحققون إنجازاً كبيراً يتمثل في سلب

[478]

الثورة الاسلامية من نصيرها القوي وسندها الواعي الواقف بصمود أمام أجهزة الاستكبار العالمي.

ومن هنا وجدنا أن أعداء الثورة يتحدون مع بعضهم البعض لشن الحرب الظالمة على السيد فضل الله، بعد أن أدركوا صعوبة شنها ضد ولي أمر المسلمين صراحة.

وقد ادرك المغرضون أن التلاحم بين ولي أمر المسلمين السيد الخامنئي وبين السيد فضل الله، يشكل جبهة إسلامية قوية لنصرة الاسلام وإنطلاقته في الآفاق إنطلاقة حركية واعية، الأمر الذي يضعف وجودهم بدون شك، ويحولوهم الى وجودات هامشية في الساحات الاسلامية، وهو مما لا ينسجم مع تطلعاتهم وأهوائهم. لذلك ركزوا على اهمية فصل الشخصيتين عن بعضهما، وإضعاف السيد فضل الله، كمقدمة لإضعاف السيد الخامنئي، وبذلك ينتهي التلاحم التاريخي بين الشخصيتين. وللأسف فقد مرت هذه المؤامرة على بعض الأوساط، وتعاملت مع القضية ببساطة ما من المتوقع أن تسقط فيها.

وبشكل عام فإن الحملة المغرضة إستطاعت أن تثير جواً من اللغط والضبابية في بعض الأوساط، لكنها لم تستطع أن تمتد الى خارج ايران، وقد ظلت تعيش حالة من التحفز المؤقت، حيث تطفو على السطح في مناسبات عاشوراء وذكرى وفاة الصديقة الزهراء(عليها السلام)، ثم تنزوي في غرفها المغلقة بعد ذلك.

وفي تقديرنا حتى ساعة كتابة هذه السطور، أن الأزمة المفتعلة هذه لا يمكن أن تستمر طويلاً، لأن الحراب التي تمَّ رفعها باتت واهية تتكسر تدريجياً، كما أن الأمة سأمت هذه الممارسات التي لا تستند الى المنطق العلمي والروح الاسلامية المسؤولة، كما أن أبناءها يعرفون جيداً من هو آية الله السيد محمد حسين فضل الله، ومن هم خصومه.

[479]

فالسيد فضل الله صاحب المدرسة الحركية البارزة، أما خصومه فهم الذين آثروا الجلوس في غرفهم بعيداً عن هموم المسلمين وقضاياهم المصيرية.

لقد قدم السيد فضل الله مشروعاً ضخماً سار عليه طوال سنوات حياته، كان يهدف الى تقديم الاسلام وفق رؤى حركية منهجية، وقد أعطى هذا المشروع ثماره طرية نظرة، من خلال الجو الثقافي والحركي الذي عاشته الساحات الاسلامية. وإستطاع أن يحرك المضامين الفكرية الاسلامية الأصيلة في الاتجاه العملي بشكل واضح، ولا يتعامل معها بشكل نظري تجريدي، باعتبار أن الاسلام هو فكر الحياة في كل عصر ومكان، ولا بد أن يكون فكره متجهاً الى الحياة في كل أبعادها واتجاهاتها.. ليقدم الحلول للمشاكل التي تواجه الانسانية، ويصنع الانسان الذي يحمل رايته للعالم بأسره، وليبني المجتمع الاسلامي الأصيل.

هذه هي الملامح الاساسية في فكر السيد فضل الله، وهي نفسها ملامح الامام الشهيد الصدر وغيره من كبار العلماء والقادة الذين ظهروا في فترات مختلفة من التاريخ الشيعي، وأرادوا التغيير والاصلاح، وكانت لجهودهم المباركة المعطاءة أثرها البالغ في مسيرة التحرك الاسلامي، وفي نشوء الاجيال الاسلامية الهادفة في مسيرتها وحركتها وتوجهاتها.


من كتاب المرجعية الدينية من الذات إلى المؤسسة

تأليف:سماحة السيد حسين بركة الشامي

http://www.darislam.com/home/esdarat...yia/data/1.htm