الراوية الحسن بن علي الوشّأء

جاء في هامش التنقيح في شرح العروة الوثقى تقرير العلامة علي التبريزي الغروي في تعليقه على الرواية المذكورة ( وإنّما عبرّنا عنها ـ أي الرواية ـ بالحسنة نظراً لعدم توثيق حسن بن علي الوشّاء في كتب الرجال، وإنّما ذكروه أنّه خير ومن وجوه هذه الطائفة فلا تذهل ) ــ ص 235 ــ

وفي الحقيقة إنَّ الوصف بالخيريّة والوجاهة لا يعني بالضرورة الضبط، قد يعني أنّه أمين بالنقل من حيث المبدأ، وقد يشير الى أنّه حريص على النقل الدقيق، مخلص في إيصال المنقول، ولكنّه ليس بالضرورة يفيد بانّ الرجل يحمل مواصفات الحفظ المتمكّن، كما نستفيده من وصف الثقة على بعض الأراء، ولا يفيد هذا الوصف بالضرورة أنّ الموصوف به ناقد حصيف يستطيع أن يخرج من محنة التشخيص ظافرأ، أنّه متدين، خيّر، وجه في قومه لسبب من الاسباب، ولكن ليس بالضرورة حافظاً ضابطاً قادراً على التمييز بين الرواة بدقة وحنكة.
على أن الرجل كان واقفيِّا ثم رجع وقطع في زمن الأمام الرضا عليه السلام، ولم نعرف سبب وقفه، وتلك مشكلة كبيرة، لا يمكن المرور عليها مرورو الكرام، فهل وقف متأثّراً بالفكر الواقفي عن قناعة وإيمان؟ أم إنّه وقف لغرض آخر؟ فلكل حالة حساب، ولكن قضية قطعه هي الأخرى تحتاج الى نظر، فالمنقول أنّه رجع لما رأى من معجزات على يد الإمام الرضا عليه السلام... وفي ذلك الرويات التالية: ـ


الرواية الأولى

(... وكذلك كان الحسن بن علي بن الوشا، وكان يقول بالوقف فرجع، وكان سببه أنّه قال: خرجت الى خراسان في تجارة لي، فلمّا وردته بعث إليّ أبو الحسن الرضا يطلب منّي حبرة، وكانت في ثيابي قد خفي عليّ أمرها، فقلت: ما معي منها شيئ، فردّ الرسول وذكر علامتها، وإنّها في سفط كذا، فطلبتها فكان كما قال، فبعثت بها إليه، ثم كتبت مسائل أسأله عنها، فلمّا وردت بابه خرج اليّ جواب تلك المسائل التي اردت أن اسأله عنها... فرجعت عن القول بالوقف إلى القطع على أماته ) ـ الغيبة ص 47 ــ


الرواية الثانية

(... عن صالح بن أبي حماد، عن الحسن بن علي الوشاء قال: كنت قبل أن أقطع على الرضا جمعت ممّا روى عن آبائه وغير ذلك مسائل في كتاب، وأحببت أن أثبت في أمره وأختبره، وحملت الكتاب في كمّي وصرت ألى منزله أريد به الخلوة أنأوله الكتاب، فجلست ناحية متفكّراً في الاحتيال للدخول، فإذا بغلام قد خرج من الدار في يده كتاب، فنادى أيّكم الحسن بن علي الوشاء؟ فقمت إليه وقلتً: أنا، قا ل: فهاك خذ الكتاب، فاخذته وتنحيّت ناحية فقرأته، فإذا والله جواب مسألة مسألة، فعند ذلك قعطت عليه وتركت الوقف ) ـ عيون المفيد 2 / 228 ــ


الرواية الثاثة

(... عن معلّى بن محمّد، عن الوشا قال: أتيت خراسان وأنا واقف، فحملت معي متاعاً، وكان معي ثوب وشي في بعض الرزم، ولم أشعر به، ولم أعرف مكانه، فلمّا قدمت مرو، ونزلت في بعض منازلها ولم أشعر إلاّ ورجل مدني من بعض مولّديها فقال لي: أن أبا الحسن الرضا يقول لك: إبعث اليّ الثوب الوشي الذي عندك، قال: فقلت: من أخبر أبا الحسن بقددومي وأنا قدمت آنفاً، وما عندي ثوب وشي، فرجع إليه وعاد إليّ فقال: يقول لك بلى، هو في موضع كذا وكذا، ورزمته كذا وكذا، فطلبته حيث قال فوجدته أسفل الرزمة فبعثت به إليه ) ـ اصول الكافي 2 / 167 ــ

وليس من شك من الصعوبة قبول هذه الروايات لسبب بسيط أنّها مروية عنه بالذات، وبالتالي يبقى سر عودته عن الوقف مشوب بالغموض، والحقيقة ان الروايات السابقة لا تعدم مفارقات، بل ومفارقات كبيرة كما هو واضح. ومّما يترتب على كونه هو الرواية لهذه المعجزات عدم شفاعتها له بالوثاقة أو غيرها من تقييمات علم الرجال، لانّه هو الراوي، وهذا مبدأ معروف. ويروي صاحب الخرائج والجرائح في هذا السياق شبيه بالكرامة وهو كتاب متأخر فضلاً عن كونه محشو بالمراسيل.

لم نقرا تقييماً صريحاً بحق الرجل إلاّ عند النجاشي فقد وصفه بالخيريّة والوجاهة، والعودة عن الوقف ليس دليل توثيق بأي حال من الا حوال، خاصّة وان سبب الرجوع مشوب بالغموض، بل في تصوري يثير الشك لانّه هو الذي يروي السبب الغيبي. ثمّ ما قيمة عودة بالمعجز؟ هذه قضية لابد أن تُثار، ويبدو لي لان المعجزة آلية تفكير وسطوة على العقل العربي الشرقي لم ينتبهوا الى هذه المفارقة.

هل لي الحق أن أشكك في الرجل؟

الشيئ الذي أريد أن أخلص له هو كيف نطمئن إلى مثل هذه التقييمات السريعة في سياق كل هذه الفوضى الخبرية والمفارقات الكبيرة بالمعلومات والأحوال؟
ولكن لماذا لا نجرؤ ونسأل عن سبب الوثوق بتوثيقات النجاشي، هل كل توثيقاته حسيّة؟ ثمّ ما هي قدرته على تشخيص الثقة من غير الثقة؟ نحن لم نعايش الرجل، ولم نعرف طاقاته الذهنية، ولم يعرض علينا منهجه.

حاول بعضهم حلّ هذه الشبهة بالقول انّ كتب الرجال كانت سائدة آنذاك، وقد أستفاد منها فطاحل الجرح والتعديل، فالمشكل محلول إذن!

ولست ادري من أين عرفنا أن فطاحل الجرح والتعديل قد قرأوا ذلك الوافر الكثير من كتب الرجال آنذاك، ولست أدري كيف أستفادوا منها، ولستُ أدري ما هي مناهجهم بالنقد والاستفادة.

فهل حقاً هو حلُّ مرضي لذوي الضمائر الحرّة؟

لماذا المغالطة؟

هي عويصة غير قابلة للحل، ولابد من العودة الى قرائن وطرق ومناهج أخرى، وليس لدينا من حيث المبدأ إلاّ أنتهاج مبدأ الوثوقية وليس التوثيقية.

وبعد...

ما هو الموقف من ا لوشاء هذا؟

حرث المضمون

ناقش العلماء مضمون الرواية المذكورة وخرج قسم منهم بعدم أهليِّتها للدلالة على المنع، ذلك أن عنوان ( (الرجوليّة ) في الرواية مأخذوذ على نحو الغلبة، ونظيره كثير على صعيد الخطاب الشرعي في القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما في قولهم مثلا ( أذا شك الرجل بعد التجاوز... )، فان الأنصراف هنا لا ينحصر في الذكر كما هو بدهي، ويمكن أن نجد بعض النماذج تصبّ لصالح هذا الإستعمال في نطاق ( القضاء ) بالذات، وفيما يلي بعض الشواهد السريعة: ــ

1: في الوسائل (... سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث... ) ـ 27 باب واحد ح 4 ــ

2: في الوسائل (... قال في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من أخوانه ليحكم بينه وبينه... ) 27 باب واحد ح 2 ــ
3: في الوسائل (... يا أبا محمّد أنه لو كان لك على رجل حق، فدعوته إلى حكام العدل، فأبى عليك إلاّ أن يرافعك... ) ــ 27 باب واحج ح 3 ــ

4: في الوسائل (... أن يعلم الرّجل أنّه ظالم، فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذه ذلك الّذي قد حكم له، إذا كان قد علم أنّه ظالم... ) ـ 27 باب واحد ح 9 ــ

تُرى ما هي مديات هذ الأستعمال في هذه الروايات ونحن نقرأ كلمة ( رجل )؟

لا شك أن المقصود الذكر والانثى على السواء، بلا فرق، وقد جيئ بكلمة ( رجل ) هنا لتكون عنواناً للمكلّف أو المعْني بالخطاب بصرف النظر عن الهوية الجنسية ( رجل، أنثى، خنثى )، وهنا يجب أن نتوقف قليلاً لنتساءل عن سبب هذا الطغيان اللغوي لهذه المفردة، لتتحوَّل إلى عنوان شمولي يتعدى مصاديقه الخاصّة به؟ في الواقع ذلك يرجع إلى تسيِّد قيم المجتمع الذكوري في ذلك ا لزمن، والأمام كغيره من البشر يتأثر بهذه الفضاء، ولو قيِّض له أن يعيش في زمننا، و في مجتمع أوربي معاصر، ربما لتغيَّرت صيغة الخطاب، ولنا عودة الى هذه النقطة المهمة.

فإذن لا دلالة تعبدّية لكلمة ( رجل ) في الرواية، بذلك قال السيِّد الخوئي رحمه الله وأن كان لم يتطرَّق الى سبب هذه التسيُّد للكلمة في الإستعمال، وفي ذلك يقول فقيه ( أنّ ذكر الرجل في رواية أبي خديجة منزَّل منزلة الغالب ... وقد ورد في الكتاب والسُنّة كثير من التكاليف الشرعية وردت في خطاب المذكر مع ثبوت كونها شاملة للنساء ) ـ شمس الدين ص 281 ــ

هذه الغلبة قد لا تتصل بنظام اللغة بقدر ما تتصل بنظام المجتمع وفضائه وتقاليده، فلم يعهد المجتمع الاسلامي أنذاك أن تتولى المرأة القضاء، ولذا يقترن أسم الرجل بهذه الممارسة سليقةً وليس تعبّداً، وقد رأيا أمثلة صارخة على ذلك، وهذه من مشاكل قراءة النصوص التي مرّت عليها حقب زمنية طويلة، بل هي من المشاكل التي تواجه حجيَّة الظهور.

إنّ قراءة دقيقة للرواية وظرفها تكشف لنا بوضوح ان الرواية ليست بصدد صلاحية المرأة للفتيا او عدم صلاحيتها، وإنّما هي تتكلم عن مواصفات القاضي على صعيد الجنبة الذاتية بلحاظ الإلتزام الديني وما يتعلّق بالعدل، فأن الأمام يحذر من اللجوء الى قضاة الجور، ويدعو إلى تحكيم قاض عادل، ولذا فأن كلمة ( رجل ) هنا سياقية ليست إلاّ ...

ولم تكن الرواية أيضاً بصدد بيان جنس القاضي، رجلاً أو أنثى أو خنثى، بل الرواية في صدد تشييد صرح إجتماعي نظيف، وفرز لأصناف من القيم في مجال خطير في تصميم الحياة الاجتماعية، مجال يُعتبر قوام المجتمع الأنساني، ذلك هو القضاء، حيث نستفيد بالدرجة الاولى أن القضاء يجب ان يكون بالعدل، وتولِّيه من قبل عدول جزء لا يتجزأ من هذه الإستراتيجية الرائعة.

أن قراءة حفريَّة للنص تكشف لنا أن الجوهر المطروح فيها هو ( العدل )، في مواجهة ( الظلم )، وموضوعة القضاء ساحة من سوح المواجهة، ودليلنا على ذلك أن أكثر الروايات التي جاءت على هذا الوزان يشخُص بها العدل كمبدأ أو كصفة محمولة في عمق النص، وهناك تأكيد على أهل الجور وضرورة إستبعادهم من هذه الساحة المقدسة، ولو كان الهدف أو القصد بيان صفات المفتي الجنسية لكان هناك تأكيد أو مزيد من البيان، ولا يكتفي صاحب النص بالإيراد الإستطرادي العادي.

ولكن هناك من يدَّعي أن المنع يأتي من الملازمة أو العلاقة بين الفتيا والقضاء، ولكن ما هو وجه العلاقة يا ترى؟ وكيف تقود إلى المنع؟

إنّ كثيراً من العلماء يذهب إلىعدم وجود علاقة بين الموضعين، فلكل منهما بابه وعنوانه وحيثياته، من هؤلاء السيد الخوئي والشيخ محمّد مهدي شمس الدين.


الدليل الروائي ( 2 )

ويستدل المانعون بمقبولة عمر إبن حنضلة (... عن عمر بن حنضلة قال: سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دَين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت... قلتُ: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران مَنْ كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فأنّي جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه، فإ نّما أستخف بحكم الله... ) ـ الوسائل ص136 ح رقم 33416 ــ

وهناك اكثر من ملاحظة على هذا الدليل، منها على سبيل المثال: ــ

الأولى: إنّ الرواية ضيعفة السند، كما يقول السيِّد الخوئي رحمه الله.

الثانية: إختصاصها بالقضاء.

الثالثة: أن ( منْ ) الموصولة لا تدل بالخصوص على الرجل، فهي مشتركة كما هو معلوم، وإذا كان أصحاب هذا الأستدلال مقتنعين به، فأنّه بالنهاية يثبت حق المرأة بالفتيا، والمرجعيّة الدينية.

فلم يبق في جعبة المانعين إلاّ تلك الحجة المستندة الى ذوق الشارع الحاكم بتحجّب المرآة وإعتزالها الرجال، والتستر، والإبتعاد عن النشاطات العامّة التي تجعلها عرضة للعيون! وقد تبيّن ان هذا الموقف يعبِّر عن صيغة من الحجاب ليست محل إتفاق بين العلماء، كما أنّه يمكن علاجه خاصّة في ظل ثورة الإتصالات، فضلاً عن كونها حجّة لا تمنع الاصل العام القاضي برجوع الجاهل الى العالم على رأي بعض العلماء الكبار، ثمّ هذه المرأة اليوم تخالط الرجال بالمظاهرات والدراسة والعمل والسياسة وهي في كامل عفافها وشرفها وزينتها الروحية التي تنبع من الداخل قبل كل شيء، فلا تقتلوا الجنس الناعم اللطيف، بالله عليكم لا تقتلوه.


http://www.elaph.com.:9090/elaph/arabic/index.html