ومن الطريف أن يتجاوز الباحث بشكل صارخ في هذا النص عن أحد القواعد الأربعة التي وضعها سابقاً بما يشكل توضيحاً لأسلوبه في التعامل مع التاريخ، فرغم تحذيره المتطرف في القاعدة الرابعة من اللجوء للافتراض والتخمين في طرح القضايا التاريخية، لجأ في هذا النص وبتناقض صارخ لاستخدام قدراً متطرفاً يتجاوز الافتراض والتخمين إلى درجة التخيل البحت، ولا يعني هذا التناقض سوى وقوع أحمد الكاتب في خطأ إخضاع المنهج – إذا اعتبرناه كذلك – للنتيجة المفترضة .
إن زمن هذا التلفيق حسب تصور الباحث هو القرن الثالث أو الرابع الهجري، وهذا التحديد الزمني من قبل الباحث يرتبط بغياب أئمة أهل البيت (ع) ووصول نظرية الإمامة إلى طريق مسدود – حسب تعبيره – في دلالة بارزة على غياب العقل الإسلامي وانحدار الحضارة الإسلامية .
إن الفترة الزمنية التي يعنيها الباحث هي بشكل أكثر دقة تبدأ من العام 260 هـ وتمتد لتشمل القرن الرابع الهجري، يقول الباحث : " وإذا ما عدنا إلى أواسط القرن الثالث الهجري، فانا سوف نواجه ما يسمى بـ : " الحيرة " التي ضربت الشيعة الإمامية بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (الإمام الحادي عشر) سنة 260 هـ دون خلف ظاهر معروف، وهو ما أدخل شيعته في أزمة حادة أدت إلى تفرقهم إلى أكثر من أربع عشرة فرقة، وافتراض بعضهم (وهم الأثنا عشرية) وجود ولد مستور له، قالوا انه غائب وسوف يظهر في المستقبل ... ومن ذلك الحين لم يظهر الإمام المفترض الغائب "محمد بن الحسن العسكري" مما أدى إلى أن تصبح النظرية الإمامية نظرية تاريخية وهمية غير قابلة للتطبيق . ومع ذلك فان أنصار النظرية ظلوا يتحمسون لتأييد نظريتهم ونقد نظرية الشورى والاختيار، ويحاولون قراءة التاريخ بشكل مغاير لسلوك أهل البيت والإمام علي، وكتابته من جديد. ومن أجل ذلك تشبثوا بحكاية تهديد عمر بحرق بيت فاطمة الزهراء، وحولوا التهديد المفترض إلى واقع تاريخي ثابت، وأضافوا على الحادث كثيرا من الرتوش الأخرى مثل ضرب الزهراء وعصرها وراء الباب وكسر ضلعها وإسقاط جنينها "محسن" ووفاتها على إثر ذلك " .
إن هذا التحديد الزمني للمرويات المتعرضة للاعتداء على أهل البيت (ع) قد يكون موضع مناقشة بالنسبة للمدونات الشيعية، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة للمرويات الواردة عن طريق الرواة السُنة في المدونات السنية، والتي ذكرت هذه الحوادث نقلاً عن مدونات لمؤلفين سُنة عاشوا قبل القرن الثالث، أو كانت وفاتهم في أوائل القرن الثالث مما يعني أن نشاطهم العلمي كان في القرن الثاني كالمدائني (ت / 224 هـ) وسعيد بن كثير بن عفير (ت / 226 هـ)، وابن أبي مريم (ت/ 253 هـ) وقد وجدت في مؤلفات كتاب سُنة عاصروا الأئمة (ع) كابن قتيبة (ت / 270 هـ)، والبلاذري (ت / 277 هـ)، والطبري (ت/310 هـ) ولم يصدر نقد لآرائهم من قبل الأئمة (ع)، وهؤلاء العلماء كتبوا مصنفاتهم تحت رقابة الدولة العباسية المعادية للشيعة تقليداً من منطلق ارتباطهم بجهاز الحكم العباسي بشكل أو بآخر، وبالتالي فلم تكن لهم مؤثرات أو عواطف شيعية، بل أن المؤلفين ذوي الاتجاهات الشيعية كاليعقوبي (ت / 284 هـ) والذي كان يعمل في الإدارة العباسية ومع خضوعه – حسب وضع وظيفته – لرقابة العباسيين إلا أنه ذكر هذه الحادثة، مما يعطي تصور عن أن هذه الأحداث كانت متفق عليها بين المؤرخين وإن وجدت اختلافات حول المدى الذي وصل إليه الخلاف والصراع بين أهل البيت (ع) والسلطة، وتأخر تدوين هذه المرويات مرتبط بالأساس بتأخر عملية تدوين العلوم في العالم الإسلامي عموما حتى سنة 143 هـ عندما سمح بها أبو جعفر المنصور بعد أن كانت ممنوعة في العهد الأموي(125).
وفي كل الأحوال لا يمكن للباحث إطلاق مثل هذا الحكم بكل بساطة كعادته في هذه الدراسة خاصة أن أقصى دلائله هو احتياج الشيعة لمثل هذه الحوادث التاريخية لتماسك نظرية الإمامة عقب اختفاء الإمام المهدي(عج)، وهذا الدليل رغم معقوليته الظاهرية إلا أنه لا يعني كون الحادثة ملفقة خاصة مع وجودها بكثافة في المدونات السُنية وإن كانت بعض المرويات لجأت لتحريف نهايات الصراع بما لا يتناسب مع بداياته، إلا أنه قد يعد تبرير لسبب تطرف بعض الشيعة في ربط هذه الحادثة بالإمامة، وهذا الاتجاه في تحميل القضايا التاريخية بُعداً عقائدياً ليس خاصاً بالشيعة فقط، بل هو أسلوب تستخدمه كل التيارات الدينية المتصارعة عموماً، وقضية عبد الله بن سبأ نموذج واضح عند السُنة .
وبغض النظر عن رأي الباحث في عقيدة الإمامة ووجود الإمام المهدي(عج) والتي يجب نقاشها في إطار نقد مؤلفه الأساسي (تطور الفكر السياسي الشيعي)، فإنه قد وضع عقيدة الإمامة في مواجهة عقيدة الاختيار والشورى كما لو أنهما كانا عقيدتين مطروحتين في القرن الثالث الهجري وكان يجب على الشيعة الاختيار بينهما، إن هذه الافتراضات الخيالية للباحث لم يكن لها وجود في العصور الوسطى والتي لا يعد التاريخ الإسلامي شاذاً عنها، فكيف يمكن للباحث التحدث عن الشورى والاختيار في إطار سيطرة أسرة استبدادية تعتمد الإقطاع كنمط إنتاج كالأسرة العباسية ؟ وما هي الطائفة أو المذهب الذي طرح هذا المبدأ في مقابل عقيدة الإمامة والنص ؟
لقد اشتهر الخوارج عموماً بتبني مبادئ شبيهة بالتي يدعو إليها أحمد الكاتب، إلا أن تجربتهم في الحكم في القرن الثالث الهجري لم تختلف كثيراً عن الدول الأخرى سواء من خلال الدولة الرستمية الإباضية في تاهرت، أو الدولة المدرارية الصُفرية في سجلماسة(126)، أما السُنة فقد تحالفوا مع الدولة العباسية بداية من حكم المتوكل العباسي الذي أطلقوا عليه لقب مُحيي السُنة، بعد أن استقدم المحدثين إلى سامراء، ومنحهم الأموال بسخاء(127) ومن غير المتوقع إطلاقاً أن يكون هذا الرأي مطروحاً لديهم خاصة بعد ظهور مرويات منسوبة للنبي (ص) ووصفت بالصحة في مدوناتهم تتنبأ بأن الخلافة لن تخرج من بني العباس حتى ظهور المهدي، وكان هذا الحديث أحد أسباب التي استدل بها السيوطي على عدم شرعية الخلافة الفاطمية في مقدمة كتابه تاريخ الخلفاء(128) .
إن وصف الباحث لعقيدة الإمامة الشيعية بكونها عقيدة وهمية غير قابلة للتصديق بسبب غيبة الإمام المهدي(عج) يمثل تجاوز حانق للغاية، فانقسام الشيعة إلى 14 فرقة حول الإمام المهدي(عج) هو تصور نقله الباحث من مؤلف النوبختي فرق الشيعة(129)، وهذا العدد مبالغ فيه للغاية حيث أن مراجعة الآراء التي نادت بها هذه الفرق حول الإمام المهدي(عج) سوف يختصرها إلى 5 فرق تقريباً، فقد رأت الفرق الأولى والثانية والتاسعة والحادية عشرة أن الإمامة انتهت عند الإمام الحسن بن علي(ع)(130)، في حين رأت الفرق الثالثة والرابعة والثالثة عشرة إمامة جعفر بن علي(131)، واعتقدت الفرق الخامسة والعاشرة إمامة الأخ الثاني للإمام الحسن(ع) محمد بن علي رغم وفاته إلا أنها رأت أن الإمامة في نسله(132)، أما الفرق السادسة والسابعة والثانية عشرة والرابعة عشرة فقد اعتقدت بوجود ابن للإمام الحسن بن علي هو الإمام بعده واسمه محمد بن الحسن (عجل الله فرجه) وإن اختلفت في توقيت ولادته وكيفية ظهوره(133)، وأخيراً الفرقة الثامنة انفردت برأي غريب وشاذ عن أن " هناك حبل قائم قد صح في سرية له – الإمام الحسن بن علي(ع) – وستلد ذكراً إماماً متى ما ولدت "(134) .
على أن من الواضح تماماً أن بعض هذه الفرق وهمية، فالفرق كالخامسة والعاشرة على سبيل المثال لا يذكر التاريخ لهما أي وجود حقيقي ولم يعرف أن أحد أبناء محمد بن علي الهادي قد ادعى الإمامة بعد الغيبة، بل اقتصر هذا الادعاء على جعفر بن الإمام الهادي(ع)، أما الفرقة الثامنة فإن رأيها الغريب يدل بشكل واضح على عدم وجودها على الإطلاق من حيث كونه غير منطقي أو مقبول في الوسط الشيعي، أما الفرق التي ذكر النوبختي أنها أيدت ادعاء جعفر للإمامة فهناك بعض الشكوك حولها خاصة أن النوبختي ذكر أن إحداها أنكرت صحة إمامة الإمام الحسن بن علي(ع) وهو رأي غير مقبول خاصة مع الأخلاقيات المعلنة والمشهورة لجعفر بن علي بما لا تمكن أي موالي لتراث أئمة أهل البيت من الاعتقاد بإمامته .
والسمة الواضحة لهذه الفرق أن النوبختي لم يذكر أي أسماء لعلمائها أو مدونات لها، مما قد يشير إلى أنها على فرض صحة وجود بعضها لم تستمر لفترة طويلة كما لم تحز الكثير من الأتباع بين الشيعة .
إن الملاحظ على كتب الفرق بصفة عامة هي أنها قد تُطلق لقب فرقة على أي رأي مطروح في نطاق مذهب معين حتى لو كان يفتقد إلى مؤيدين، وليس من المُستبعد أن تكون هذه الآراء قد طُرحت وعلى الأخص الدعوة لإمامة جعفر بن الإمام علي الهادي(ع)، إلا أن عدد مؤيدي هذا الاتجاه بالتأكيد لم يكن يمثل قيمة سواء من ناحية مكانتهم العلمية أو عددهم مقارنة بالشيعة الذين التزموا بولاية الإمام المهدي(عج) .
إن حالة الحيرة التي يتحدث عنها الباحث لم تؤد بالشيعة إلى إتباع مذهب السُنة وإنما أدت بالقليل منهم إلى التوجه لفرق واتجاهات شيعية أخرى استغلت هذه الفرصة للإعلان عن وجودها كالزيدية في اليمن والاتجاه الإسماعيلي، وربما كان هذا الرفض للتخلي عن الإمامة ناتج عن وعي الشيعة عموماً بأن انتهاء الإمامة – على فرض صحته – لا يعني انتهاء المذهب الذي يقوم على أفكار وآراء عقائدية وفقهية وسلوكيات تعلموها من أهل البيت (ع) لم تتوقف كما توقفت الإمامة، وإلا فقد كان من المفروض على السُنة التخلي عن مذهبهم عقب انتهاء الخلافة العباسية قبل ظهور السيد المسيح أو المهدي حسب الحديث الصحيح لديهم، وربما من المفيد بالنسبة للباحث الإشارة إلى أن الإمامة الوحيدة المستمرة حتى الآن هي الإمامة الإباضية في سلطنة عمان، ومن غير الممكن اعتبار ذلك دليلاً على صحة المذهب الإباضي بشكل عام .
125 – السيوطي . م . س . ص 243 .
126 – محمود إسماعيل عبد الرازق . الخوراج في بلاد المغرب . الدار البيضاء 1985 . طبعة دار الثقافة . ص 112 – 127، 144 – 182 .
127 – السيوطي . م . س . ص 320 .
128 – م . س . ص 8، 16، 17 .
129 – النوبختي . م . س . ص 96 .
130 – م . س . ص 96 – 98 ، 105، 108 .
131 – م . س . ص 98 – 100، 112 .
132 – م . س . ص 100 – 102، 106 – 108 .
133 – م . س . ص 102، 103، 108، هامش ص 96 . أورد النوبختي آراء ثلاثة عشرة فرقة فقط وقد نقل محقق الكتاب السيد الشهرستاني رأي الفرقة الرابعة عشرة من كتاب الفصول المختارة للسيد المرتضى .
134 – م . س . ص 103 – 105 .
المفضلات