أما كتاب أنساب الأشراف للبلاذري فقد عرض الباحث بعض مروياته والتي نقل معظمها عن أبي الحسن المدائني، وتتميز مرويات المدائني عموماً بالحرص على إخفاء حادث اقتحام منزل السيدة الزهراء(ع) كما في المرويات 1184، أو إظهار الشكل الودي لمبايعة الإمام علي(ع) لأبي بكر عقب وفاة الزهراء(ع) كما في المروية رقم 1186، والمروية 1190(98)، وذلك رغم ذكر المدائني للتهديد بالعنف الذي مارسه عمر تجاه الإمام، وهي الجزئية التي استفزت وأحرجت الباحث للغاية الأمر الذي دفعه إلى السعي لتوهين كل من البلاذري والمدائني في آن : " وبغض النظر عن انقطاع السند في كل روايات البلاذري الآنفة، توجد ملاحظة على شخصيته " الانتهازية " إذ ينقل عنه أنه كان يمدح المأمون ثم كان من ندماء المتوكل، كما يقول ابن عساكر وياقوت الحموي، ويقال أنه وسوس في آخر أيامه ومات في البيمارستان. وأما المؤرخ البصري علي بن محمد أبو الحسن المدائني (توفي سنة 224) الذي نقل البلاذري عنه الرواية الأخيرة، فانه ليس بالقوي في الحديث، كما يقول ابن عدي في (الكامل). ولم يذكره ابن حبان في الثقات، إضافة إلى أنه قلّما يذكر رواية مسندة ... ومن هنا فان رواية البلاذري في القرن الثالث الهجري، عن استعمال عمر للعنف مع علي، أو تهديده بقبس من نار، رواية ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها في مقابل الروايات الأخرى "، إن التساؤل الذي يفرض نفسه أمام طريقة الباحث الساذجة في إسقاط المرويات والمؤلفات المعارضة لما يرغب في إثباته هو : ما هي علاقة انتهازية البلاذري مع الخلفاء أو وسوسته في آخر أيامه بمصداقية هذه المرويات المنسوبة للمدائني بينما لا يتجاوز دور البلاذري مجرد النقل ؟ وفي حالة صدق تصور الباحث عن انتهازية البلاذري وعمالته للحكام العباسيين (المعادين للشيعة بالضرورة) فما هو الدور المتوقع منه ممارسته مع هكذا مرويات في رأي الباحث ؟ هل هو تحريف المرويات لصالح الشيعة ؟ أم تحريفها لصالح السلطة التي هو عميل لها ؟
لقد تجاهل البلاذري العديد من المرويات الأخرى التي نقلها الإخباريين عن هذا الحدث التي قد تشكل مصداقية للآراء الشيعية، والنموذج الأكثر وضوحاً هو المروية رقم 1188 : " حدثني بكر بن الهيثم، ثنا عبد الرازق، عن معمر، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعته وقال : ائتني به بأعنف العنف . فلما أتاه، جرى بينهما كلام . فقال : احلب حلباً لك شطره . والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً [ فقال علي ] وما ننفس على أبي بكر هذا الأمر ولكنا أنكرنا ترككم مشاورتنا، وقلنا أن لنا حقاً لا يجهلونه . ثم أتاه فبايعه "(99) وهي مروية ناقصة ومبتورة كما هو واضح، كما أن نهايتها لا تتفق مع الحوار العنيف والاتهام الذي وجهة الإمام علي(ع) لعمر بالانحياز لأبي بكر كي يورثه الخلافة فيما بعد وهو اتهام يشير إلى اعتقاد الإمام(ع) بوجود مؤامرة ما بين الشيخين، كما يؤكد إصرار الإمام على رفض بيعة أبي بكر كمبدأ، لكن النهاية تأتي متناقضة مع هذه المقدمة العنيفة حيث تصور الإمام علي يبايع الخليفة بكل سهولة ويتضح من المروية أن المشكلة تتلخص فقط في عدم مشاورة أبي بكر لآل البيت (ع) قبل توليه الخلافة .
إن العديد من المصنفين السُنين الذين لم يتمكنوا من تجاوز هذه الحادثة والقفز عليها اضطروا إلى إدخال هذه الأجزاء الواضحة الافتعال وربما الكذب لتخفيف حدة وقع تصرف عمر وأبي بكر مع آل البيت (ع) عقب بيعة السقيفة مما قد يمنح الشيعة مصداقية في الصراع المذهبي بين الطائفتين، فالمروية الحقيقية حول هذا الموضوع والتي تجاهلها البلاذري رواها ابن قتيبة في (الإمامة والسياسية) عن ابن أبي مريم، عن العرياني، عن أبي عون بن عمرو بن تيم الأنصاري، كما نقلها أيضاً عن سعيد بن كثير عن عفير بن عبد الرحمن(100)، كما رواها أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه (السقيفة وفدك) عن أحمد بن إسحاق، أحمد بن سيار، عن سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري(101) : " ... قال : ... وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، فقال لهم : انطلقوا فبايعوا . فأبوا عليه، وخرج الزبير بسيفه، فقال عمر : عليكم الكلب . فوثب عليه سلمة بن أسلم، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول : أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهوا به إلى أبي بكر فقيل له بايع فقال : أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوئوا بالظلم وأنتم تعلمون .
فقال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع . فقال علي : احلب يا عمر حلباً لك شطره !! اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً !! لا والله لا أقبل قولك ولا أبايعه . فقال له أبو بكر : إن لم تبايعني فلم أكرهك . فقال له أبو عبيدة : يا أبا الحسن إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالاً له، واضطلاعاً به، فسلم له هذا الأمر، وأرض به، فإنك إن تعش ويطل عمرك، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك . فقال علي : يا معشر المهاجرين، الله الله لا تخرجوا سلطان محمد من داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهَلهُ عن مقامه في الناس وأهلِهِ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن – أهل البيت – أحق بهذا الأمر منكم . أما كان منا القرئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية ! والله إنه فينا فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً .
فقال بشير بن سعد [ الخزرجي الأنصاري ] : لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم بايعوا . وانصرف علي [ عليه السلام ] إلى منزله ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع "(102) .
إن المقارنة بين المرويتين يلاحظ فيها أن المروية الأولى اختزلت أحداث الصدام، سواء كان هذا الاختزال نقله البلاذري من الراوي ذاته أو كان قام هو باختزاله بنفسه، فهو في كل الأحوال تبنى مروية ناقصة مع توفر المروية الأخرى الأكثر معقولية ومنطقية في أحداثها، كما أن تواجدها بنفس النص في مصدرين مختلفين يؤكد ثبوتها، ورغم ذلك لم يهتم البلاذري بإيرادها إطلاقاً، وهنا يمكن الاتفاق حول سعي البلاذري للتقارب مع القصر العباسي لكن هذا التقارب أدى بالعكس من تصور الباحث إلى إخفائه وتجاهله لمرويات تذكر ما حدث من اعتداء على بيت الزهراء(ع) بشكل أوضح ويمثل إدانة أكبر للخليفتين .
ومن الغريب أن الباحث لم يطعن إلا فيما نقله البلاذري من مرويات عن علي بن محمد المدائني في حين روى البلاذري هذا الحادث عن رواة آخرين تجاهلهم الباحث تماماً، وهو حتى في طعنة للمدائني لم يكن نزيهاً تماماً، فقد اكتفى بنقل الآراء التي تضعفه ولم يورد الآراء المغايرة وأهمها رأي الرجالي السني المشهور يحيى بن معين : قال أحمد بن أبي خيثمة كان أبي ويحيى بن معين ومصعب الزبيري يجلسون على باب مصعب فمر رجل على حمار فأره وبزة حسنة فسلم وخص بسلامه يحيى فقال له يا أبا الحسن إلى أين قال إلى دار هذا الكريم الذي يملأ كمي دنانير ودراهم إسحاق الموصلي فلما ولي قال يحيى ثقة ثقة ثقة فسألت أبي من هذا فقال هذا المدائني "(103)
أما المصدر الثالث فهو كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وقد وصف الباحث المرويات التي تشير فيه للحادثة بقوله : " وإذا ما انتقلنا إلى كتاب آخر صدر في نفس الفترة، وهو كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة الدينوري (213 – 276)، فإننا سوف نشاهد فيلما هنديا مليئا بالبكاء والدموع والخيال اللامحدود، بدل أن نقرأ رواية علمية يعتمد عليها. وفي الحقيقة ان ابن قتيبة يعفينا عن تجشم الرد على روايته الأسطورية بالاعتراف مسبقا في مقدمة الكتاب بأنه يعتمد طريقة الجمع والقص والتأليف دون ذكر دقيق للمصادر . وهي طريقة غير علمية وتثير كثيرا من الشكوك والريبة في ما يرويه " إن الباحث ينتقد هنا مروية واحدة من مرويات ابن قتيبة حول موضوع بيعة الإمام علي(ع)، وبغض النظر عن اتهامه لابن قتيبة باللاعلمية في حين يفتقد هو شخصياً في استخدامه التهكم كطريقة للنقد وتسفيه ورفض المروية لأي قيمة علمية، فإن هذه الاتهامات لم يذكرها الباحث عندما لجأ إلى نفس المصدر في عرض مرويات تؤيد اعتمد عليها كثيراً لتأييد وجهات نظره في العلاقة بين الإمام والخليفتين، وبدا أن هذا المصدر ذو قيمة كبيرة لدى الباحث إلى أن اصطدمت بعض مروياته بآرائه، وعموماً فإن الباحث لم يوجه النقض إلا لمروية واحدة في حين تجاهل المروية الثانية والتي سبق تناولها مع أسانيدها في هذا البحث ربما لأنها منطقية وذكرت بنفس نصها في مصادر أخرى، وبالتالي فحتى على فرض صحة الاتهام الذي وجهة الباحث لابن قتيبة بالتلفيق فإن هذه المروية لا تدخل في هذا السياق نظراً لوجودها في مدونات تاريخية أخرى .
ثمة تناقض آخر وقع فيه الباحث عندما وجه انتقاداً للشيعة بسبب اعتمادهم في النقل على كتاب ابن قتيبة على أساس كونه يمثل اعترافاً سنياً رغم الطعون الموجهة إلى كتابه، في حين استخدم هو نفس الطريقة في تعامله مع كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي، ففي حين لجأ الباحث إلى احدى مروياته باعتبارها اعترافاً شيعياً، فقد قام هو نفسه بتوجيه طعن لمصداقية الكتاب في نفس البحث : " فكيف يمكن أن نثق بأية رواية فيه يرويها رجال جاءوا بعده بسنين طويلة ؟ وكيف يمكن ان نصدق رواية الثقفي عن الإمام الصادق حول عدم بيعة الإمام علي لأبي بكر إلا بعد رؤيته للدخان في بيته؟ وهل يمكن اعتبار هذه الرواية مسندة وصحيحة ؟ وإذا كان يمكن للعامة أن يحرفوا الكتاب فلماذا لا يمكن للخاصة أن يفعلوا ذلك؟ ويضيفوا عليه ما يشاءون ؟ " .

إن اتهام الباحث لابن قتيبة باعترافه أنه يعتمد التلفيق في الرواية مثير للسخرية والغرابة، فلم يسبق أن طعن أحد المؤلفين في مصداقية مُؤَلَفَه بهذا الأسلوب، والواقع أن الباحث مارس شكلاً آخر من عدم الأمانة غير المعقول في هذا الاتهام، فنص ابن قتيبة هو : " عن ابن أبي مريم، قال : حدثنا العرياني، عن أبي عون بن عمرو بن تيم الأنصاري رضي الله عنه، وحدثنا سعيد بن كثير، عن عفير بن عبد الرحمن قال : حدثنا بقصة استخلاف رسول الله لأبي بكر، وشأن السقيفة، وما جرى فيها من القول، والتنازع بين المهاجرين والأنصار وبعضهم يزيد على بعض في الكلام، فجمعت ذلك وألفته على معنى حديثهم، ومجاز لغتهم "(104) وبالتأكيد فإن تصرف ابن قتيبة حتى لو كان غير مقبول إلا أنه لا يمكن وصفه بالاعتراف بالتلفيق أو بالتزوير خاصة أن أجزاء كبيرة من هذه المرويات وجدت بنفس نصوصها تقريباً في مصادر أخرى وبأسانيد مختلفة، فعملية التلخيص التي قام بها ابن قتيبة لم تشوه المعنى وهو ما اهتم به المؤلف أكثر من اهتمامه بالسند .
على أن اتهام الباحث ابن قتيبة بالتلفيق يفترض أن يقترن بتوضيحه عن أسبابه خاصة أن ابن قتيبة ليس شيعياً كي يسعى بتلفيقه مثل هذه الأخبار لإثبات أي من الآراء الشيعية وربما كان الأكثر إقناعاً هو قيامه بتلفيق أخبار أخرى يُنسب فيها مدح الشيخين للإمام علي(ع) على غرار المروية التي استدل بها الباحث سابقاً .
إن محاولة الباحث إسقاط مدونات تاريخية كاملة لمجرد توهين مصداقية بضعة مرويات لا تتوافق مع توجهاته بهذا الشكل الانفعالي لا يمكن اعتباره نقداً علمياً بقدر ما هو رفض ساخط نظراً لكم الحرج الذي تسببه هذه المرويات لما يروجه من أفكار، ولا يعدو الأمر حينئذ أن يكون سعياً جديداً للسيطرة على التاريخ تمهيداً لاستغلاله واستخدامه في مواجهة المخالفين، وهو يشبه تماماً الدعوات التي يطلقها الباحثين السلفيين لتنقية مصادر التاريخ الإسلامي من المرويات المعارضة للصحابة بغض النظر عن صحتها .
كما استخدم أحمد الكاتب نفس هذا الأسلوب أثناء نقده لمروية ابن عبد ربه في العقد الفريد، وما نسبه الشهرستاني في الملل والنحل للنظام المعتزلي من أقوال حول موضوع الإمامة، فقد اتهم ابن قتيبة بأن مرويته بلا سند أو دليل، على أن نفس هذه المروية ذكر البلاذري الجزء الأخير منها في كتابه أنساب الأشراف : " حدثنا سلمة بن صقر، وروح بن عبد المؤمن قالا، حدثنا ابن عبد الوهاب الثقفي، أنبأ أيوب، عن ابن سيرين قال : قال أبو بكر لعلي رضي الله تعالى عنهما : أكرهت إمارة ؟ قال : لا ولكني حلفت أن لا أرتدي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم برداء حتى أجمع القرآن كما أنزل "(105)، أما مروية ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد كما نقلها الباحث فهي : " أمر أبي بكر لعمر بمقاتلة علي والعباس والزبير الذين قعدوا في بيت فاطمة "حتى بَعث إليهم أبو بكر عمرَ ابن الخطاب ليُخرِجهم من بيت فاطمة، وقال له : إِن أبوا فقاتِلْهم. فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمةُ، فقالت: يا بن الخطاب، أجئت لتُحرق دارنا؟ قال : نعم، أو تدخلوا فيما دخلتْ فيه الأمة. فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهتَ إمارتي ؟ فقال: لا، ولكني آليتُ أن لا أرتدي بعد موت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى أحفظَ القرآن، فعليه حَبست نفسي " ويلاحظ أن الجزء الأخير من المروية يكاد يكون متشابه نصاً مع الجزء المروي في كتاب أنساب الأشراف والذي تشير صيغته أنه تم اقتطاعه ولم ينقل كاملاً، مما قد يشير إلى وحدة السند في المرويتين، أو على الأقل انتشارها من الناحية العلمية خاصة أن البلاذري روى مروية أخرى شبيهة لها : " المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن سليمان التيمي، وعن ابن عون : أن أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة، فلم يبايع . فجاء عمر، ومعه فتيلة . فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة : يا ابن الخطاب، أتراك محرقاً علي بابي ؟ قال : نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك . وجاء علي، فبايع وقال : كنت عزمت أن لا أخرج من منزلي حتى أجمع القرآن "(106) .
ورغم أن هذه المروية تواجه مشكلة حقيقية في نسبتها مبايعة الإمام علي(ع) للخليفة قبل وفاة فاطمة وعدم رفضه لخلافة أبي بكر، فإن القدر القليل الذي روته من عنف عمر تجاه الزهراء(ع) مثل استفزازاً للباحث دفعه إلى اللجوء لأسلوبه المعتاد في تبسيط أي حدث يمثل حرجاً له : " وإذا صحت هذه الرواية، فإنها لا تحمل في طياتها أكثر من كشف البيت أو تفتيشه، دون اعتراف باستعمال العنف أو تهديد بإحراق البيت على فاطمة الزهراء عليها السلام. ولكن الأمور تتطور عادة عبر التاريخ، ومن الأصدقاء إلى الأعداء، فتصبح الحبة قبة، والأسطورة حقيقة " وربما يمكن للباحث نفي كلمة عنف عن ممارسة اكتفت فقط بالتهديد بالإحراق وتفتيش البيت أو كشفه، إلا أنه في ذات الوقت ينقض ادعائه السابق عن العلاقات الودية بين الإمام علي(ع) والسلطة الجديدة إذا كانت هذه السلطة تواجه الإمام بذات الإجراءات التي تتخذها أي سلطة قمعية تجاه الزعماء المعارضين لسياستها .
وهذا التناقض بين الافتراضات التي يطرحها الباحث حول هذه الدراسة وقع فيه الباحث مرة أخرى حينما ذكر في نقده للشهرستاني أن : " مجرد نقل أي كاتب لأي خبر، حتى لو كان عاريا من الدليل، لا يجعله صحيحا وصادقا، ومتواترا " وهي قاعدة نقدية حقيقية إلا أنه لم يلتزم بها ولم يحتمل ذات الاحتمال فيما نقله من نصوص تظهر وجود حالة من المودة من الأئمة (ع) تجاه الخليفتين ولم يمارس أي قدر من النقد تجاه هذه النصوص رغم نقاط ضعفها .
وقد ارتكب الباحث خطأ غير مقبول أو مبرر حيث رفض بشكل اندفاعي الآراء التي نسبها الشهرستاني في الملل والنحل لإبراهيم بن سيار النظام المعتزلي، والذي اتهم عمر بالاعتداء على الزهراء حتى إسقاطها لحملها والسعي لإحراق منزلها أثناء تواجدها فيه مع الإمام علي(ع) والحسن والحسين، وهذه الآراء لم ترق للباحث الذي لم يفكر في وسيلة لنقد المروية سوى اتهام الشهرستاني بتلفيق هذه الأقوال للنظام دون عرض أي دليل لأسباب هذا الاتهام خاصة أن النظام وجه اتهامات أخرى للإمام علي(ع) وللصحابي عبد الله بن مسعود وعرضها الشهرستاني في نفس النص(107)، بما يتوافق مع جرأة المعتزلة عموماً في توجيه اتهاماتهم وانتقاداتهم للصحابة(108) وهو قد يعد دليلاً على صحة نسبة هذه الآراء للنظام المعتزلي أكثر مما يعد دليلاً على تلفيقها له .
ومع أن الباحث لم يستند إلى أي استدلال أو افتراض بنى على أساسه هذه الأحكام المندفعة تجاه هذا النص، فقد اعتبرها حقيقة واقعية كما لو كان يرغب في فرضها عنوة على ذهنية الآخر مدعياً مرة أخرى أنها تفتقد للدليل والتواتر .
في تمهيد الباحث لنقده بعض المرويات التي يستدل بها الشيعة على حدوث عنف تجاه الزهراء(ع) وضع الباحث تحليلاً لأسباب ذيوع هذا الحدث على وجه الخصوص بين الشيعة حيث اعتبر أن السبب الرئيسي هو الخلاف السياسي بين المشروعين السُني والشيعي : " إن حدثاً جزئياً كموضوع كشف بيت فاطمة الزهراء، وإخراج من تحصن فيه من الصحابة، وإجبارهم على البيعة لأبي بكر، لو ثبت ذلك، كان يمكن أن يطوى مع التاريخ، ويذهب مع الزمان، في خضم الأحداث والتطورات الكبرى الإيجابية والسلبية التي أعقبت ذلك، ولم يكن ليستوقف الأجيال اللاحقة على مدار الزمن، لو كان المسلمون ينظرون إلى تلك الحقبة ورجالها نظرة شخصية، ولم يضفوا عليها مسحة دينية إيجابية وسلبية، إيجابية من طرف ما عرف بأهل السنة، وسلبية من طرف ما عرف بالشيعة، وذلك بعد أن حاول أهل السنة اعتبار تجربة الصحابة مقدسة ومصدرا من مصادر التشريع في الإسلام، ورووا عن الرسول الأعظم (ص) قوله : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " . في الوقت الذي حاول الشيعة إضفاء هالة من القدسية على أئمة أهل البيت واعتبروهم مصدرا ملحقا بمصادر التشريع إلى جانب القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وخاصة بعدما قال الإماميون بنظرية النص في الخلافة وكونها امتدادا للنبوة " .
إن هذه العبارة للباحث تحمل بالفعل قدراً كبيراً من الصحة في بعض أجزائها، حيث جرى تضخيم عدة قضايا في التاريخ الإسلامي وإكسابها قدراً كبيراً من القدسية كونها استخدمت في هذه المواجهة بين المشروعات المذهبية المختلفة .
لقد شهدت المرحلة الأولى من العصر العباسي ذروة الصراع الفكري والعقائدي بين المذاهب الدينية، والذي نتج عن تشجيع الخلفاء العباسيين في عهد أبو جعفر المنصور وبالتحديد في سنة 145 هـ لعملية تدوين العلوم وحرصهم – حتى عصر المأمون – على عدم إعلان الانتماء أو تأييد أي منها تأييداً خاصاً، وقد مثل التاريخ أحد أدوات الطعن المتبادل في الشرعية لدى المذاهب المختلفة، حيث قام الرواة المنتمون للمذاهب المختلفة بعمليات استغلال للحدث التاريخي في المواجهات العقائدية بطرق متنوعة كالاختلاق والمبالغة على الحدث الأصلي، وقد أدت هذه المحاولات إلى تحول هذه الاختلافات والمبالغات لقواعد عقائدية لا مجال للاستغناء عنها في مواجهة الآخر، وفي مواجهة عمليات التحول المتبادلة بين المذاهب، حيث لجأ أتباع المذاهب المختلفة لاستخدام هذه الاختلافات لتهييج المشاعر والعواطف المذهبية تجاه الآخر بهدف إيجاد حواجز ما بين الأتباع وبينه وإيقاف محاولات الاجتذاب والتحول .
على أن كشف بيت الزهراء(ع) لا يمكن اعتباره حدثاً جزئياً، رغم محاولة الباحث التقليدية للتقليل من أهميته أو مدلوله، فمع ما يحمله أهل البيت (ع) من قدسية، فإن هذا الأسلوب الذي استخدمته السلطة الجديدة مع الإمام علي(ع) والزهراء(ع) لا يعبر سوى عن عداء واضح، ويمثل تدليل على رفض أهل البيت (ع) للسلطة الجديدة وهو بالتالي يعد طعناً في شرعيتها، كما أنه يشكك في مصداقية كل هذه المرويات التي تم الترويج لها في عهد الخلفاء السابقين على الإمام علي(ع) وفي العهد الأموي عن فضائل الشيخين وغيرهما من الصحابة المؤيدين لهما وهم القاعدة التي تعد أساساً لبعض المذاهب .
لقد صمد هذا الحدث في الذهن الإسلامي طوال فترة العهد الأموي والتي جرى فيها السعي بكل الطرق لتقديم سيرة الشيخين بالإضافة إلى سيرة الخليفة الثالث عثمان بن عفان كمصدراً شرعياً للسلطة الأموية وكمعبر أوحد عن الحكم الصحيح في الإسلام، في مقابل التعمية على أهل البيت (ع) أو اختلاق مرويات كاذبة بحقهم وذلك من منطلق ما مثله أهل البيت (ع) من قدسية خاصة في الوعي الإسلامي والتي فشل الأمويون عموماً في تجاوزها أو تشويهها رغم كل ما استخدموه من وسائل إعلامية، ومن غير الممكن عدم إضفاء مسحة دينية على هذه الشخصيات – كما يدعو إليه الباحث - والتي اكتسبت مصداقيتها عموماً من خلال فترة كفاحها أو قربها من النبي (ص)، وبالتالي فإن من الطبيعي أن ينظر إلى ممارساتها من خلال ما يقبله الدين الذي كافحت من أجله، وهي نظرة تنوعت طبيعتها عقب وفاة النبي (ص) مباشرة مع الصراع الذي حدث بين هذه الشخصيات وانقسام المسلمين في تأييد أي من الطرفين .
فالنظرة الإيجابية أو السلبية لهذه الأحداث هي نتيجة طبيعة لهذا الخلاف وليست نتيجة مختلقة أو مفتعلة في مرحلة متأخرة من التاريخ الإسلامي، وهو ما حاول الباحث افتراضه فيما بعد حيث لجأ للتأكيد على اختلاق الإماميون للنصوص التي تؤيد نص النبي (ص) على الإمام علي(ع) بالإمامة، واختلاقهم لتأويلات قرآنية تؤيد هذا الاتجاه، وهو ما دفعهم لاختلاق بعض الأحداث التاريخية كتأكيد لهذه النظرية في حين أن تاريخ الإمام علي(ع) ذاته يكذب هذه الرؤية – حسب رأي الباحث – ثم يتساءل : " فكيف يصح النص على الإمام بالخلافة ويقوم هو بالتنازل عن "حقه الشرعي" طواعية ويبايع أبا بكر ؟ إذن لا بد أن يكون هناك عنف وإرهاب وقمع واستضعاف له " يثبت " أنه بايع تحت الضغط والإكراه، وان بيعة أبي بكر كانت باطلة، وكذلك مبدأ الشورى والاختيار " .



98 - - أحمد بن يحيى البلاذري . م . س . ج 1 ص 586، 587 .
99 – م . س – ج 1 ص 587 .
100 - ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 7 .
101 – محمد باقر المحمودي . نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة . بيروت (بدون ذكر سنة الطبع) . طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات . ج 1 ص 44 .
102 – م . س . ج 1 ص 44 – 46 . نقلاً عن ابن أبي الحديد .
103 – ابن حجر العسقلاني . لسان الميزان . م . س . ج 4 ص 194، 195 / أحمد بن علي الخطيب البغدادي . تاريخ بغداد . بيروت . طبعة دار الكتب العلمية . نسخة كومبيوترية . موقع www.sahab.org . ج 12 ص 39، 40 .
104 - ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 7 .
105 - أحمد بن يحيى البلاذري . م . س . ج 1 ص 587 .
106 – م . س . ج 1 ص 586 .
107 - الشهرستاني . م . س . ج 1 ص 65 .
108 – أحمد أمين . ظهر الإسلام . القاهرة 1964 . مطبعة النهضة المصرية . الطبعة الثالثة . ج 4 ص 31 – 40 .