المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكشف عن رسالة فرويد الممنوعة... والمناهضة لدولة اسرائيل



fadel
08-17-2003, 07:01 PM
حسن شامي الحياة 2003/08/13

فرويد: لا أعتقد أنه يمكن لفلسطين أن تصير ذات يوم دولة يهودية.
"لا أعتقد أنه يمكن لفلسطين أن تصير ذات يوم دولة يهودية، ولا أظن أن العالمين المسيحي والإسلامي سيكونان ذات يوم مستعدين لرؤية أمكنتهما المقدسة خاضعة للإشراف اليهودي. كنت سأجد أكثر رزانة أن يتأسس وطن يهودي على أرض أقل حملاً لأثقال التاريخ. على انني أقر بأن وجهة نظر عقلانية الى هذا الحد سيكون لها القليل جداً من الحظوظ كي تحوز على حماسة الناس وعلى الدعم المالي من الأثرياء". هذا أبرز ما قاله شيخ التحليل النفسي سيغموند فرويد (1856 - 1939) في رسالة مكتوبة لم يقيض لها أن ترى النور إلا أخيراً.

مع أن حركات فرويد وسكناته، أي سيرة حياته ونتاجه ومراسلاته أشبعت دراسة وبحثاً تفصيليين، فإن الرسالة المشار إليها بقيت محجوبة عن الأنظار وممنوعة من التداول طوال نيف وسبعين عاماً. وحكاية هذه الرسالة يمكن اعتبارها حدثاً ليس بسبب مضمونها فحسب، والذي من شأنه أن يبلبل خواطر أوساط يهودية كانت تجيز لنفسها إشراك مؤسس التحليل النفسي في عملية الكفاح من أجل إقامة دولة إسرائيل والذود عن حياضها، بل كذلك وخصوصاً بسبب حجبها واحتجازها الطويلين كما لو أنها تنطوي على أسرار تطاول المصلحة العليا والقصوى لدولة أو لمشروع دولة.

وتقول الحكاية التي كشفت عنها الصحيفة الإيطالية "كورييري ديلا سييرا" أن فرويد تلقى في شهر شباط (فبراير) من عام 1930، وكان الرجل في الرابعة والسبعين من العمر وفي أوج عظمته وذيوع صيته، نداء من جمعية صهيونية ناشطة في القدس، واسمها "كيرين هاجسود"، تطلب منه التعبير عن احتجاجه ضد العراقيل التي يضعها العرب في فلسطين في وجه ممارسة العبادات اليهودية في القدس والوصول الى حائط الهيكل. رفض فرويد التوقيع على هذا النداء الذي وجه أيضاً الى مثقفين يهود أوروبيين آخرين.

في معرض جوابه المكتوب والمؤرخ بيوم 26 حزيران (يونيو) من العام ذاته 1930، أعرب فرويد عن استلطافه لمبادرة أولئك الذين توسلوا مشاركته، لكنه أفصح في الوقت ذاته عن عدم مشاطرته لهم حماستهم ودعوتهم، وقال العبارات التي ذكرناها في مستهل هذه المقالة. في رسالته هذه، لا يأخذ فرويد موقفاً مسانداً للعرب، لكنه لا يتردد في التعبير عن اعتقاده بأن "التصدي" الفلسطيني يعود "في جزء منه الى التعصب غير الواقعي لشعبنا". ويخلص الى القول: "احكموا بأنفسكم، إذا كنت بمثل هذا الموقف النقدي، الشخص المؤهل لتعزيز شعب يستحوذ عليه الوهم الدائر على رجاء غير مبرر".

وتروي صحيفة "كورييري ديلا سييرا" بأن رسالة فرويد هذه اعتبرها متلقوها غير مناسبة وحكموا عليها بالبقاء طي الكتمان. على أن أحدهم، واسمه شيام كوفلر، أعطاها لجامع تواقيع شخصية في القدس اسمه ابراهام شوادرون لقاء تعهد هذا الأخير بأن "لا يكون مقدور أي عين بشرية أن تراها". على أن الرسالة وصلت الى باحث إيطالي متخصص في تاريخ الكنيسة والتحليل النفسي ونشرها ضمن كتاب في عنوان "أرض الميعاد".

وقد يكون معلوماً أن فرويد لم يتدخل إلا نادراً في قضية النزاع التاريخي في فلسطين، كما انه لم يكن يتعاطف مع الحركة الصهيونية، علماً بأنه لم يخف تعلقه بجذوره اليهودية. فهو أعلن عام 1925 عن أنه "ينأى بنفسه عن الديانة اليهودية، وعن كل ديانة"، لكنه يشير في الوقت ذاته الى أن ما يربطه باليهودية ليس الإيمان، وليس الكبرياء القومي، بل أشياء أخرى كثيرة تعطي جاذبية لا تقاوم لليهودية ولليهود. الى ذلك، بقي فرويد على الدوام يرفض أي مماهاة بين التحليل النفسي وبين أي علم يهودي. ويبدو أن فرويد ومؤسس الحركة الصهيونية هرتزل (1860-1904) لم يلتقيا أبداً، علماً أنهما أقاما بضع سنوات في الشارع ذاته في مدينة فيينا أيام الامبراطورية النمساوية - المجرية.

ويبدو، بحسب مقالة الصحيفة الإيطالية أن المؤرخ الذي نشر الرسالة أصرّ على الموازنة بين كتاب هرتزل "دولة اليهود" المنشور عام 1896 وبين كتاب فرويد المنشور بعد ثلاث سنوات والدائر على "تفسير الأحلام"، وهو الكتاب الذي يعتبر بمثابة لحظة ولادة التحليل النفسي. ويرى المؤرخ الإيطالي اننا في كلا الحالتين أمام البحث ذاته عن "أرض ميعاد"، لكن الأرض هذه تتخذ لدى هرتزل صورة وطن متحقق في دولة، أما فرويد فيعتبر هذه الأرض قائمة في "الوعي الإنساني"، وأن فكرة "الشتات" تشمل في الواقع كل البشر، وأن الحل الاقليمي الذي يقدمه هرتزل ينطوي على اختزال شديد للمسألة.

وعندما نشر فرويد في آخر حياته، عام 1939، كتاب "موسى والتوحيد" أثار جدلاً كبيراً إذ رأى فيه البعض هجوماً على الجذور اليهودية نفسها، فيما رأى البعض الآخر انه نوع من التاريخ التحليلي النفسي لشعب ولديانة معينين. ونحن نعلم بأن الماكينة الدعاوية الناشطة للحركة الصهيونية ألصقت تهمة أخرى ذات نكهة فلســفية - نفسية ليس على فرويد فحسب، بل على آخرين لم يتحمسوا للفكرة الصهيونية ومزاوجتها بين الإطار القومي لليهودية وبين المثال القبلي، كما كانت حال كارل ماركس أو حنة آرندت وألبير آينشتاين وروبير ماتيس - الخ. والتهمة هذه هي: "كراهية الذات" الناجمة في معظم الأحيان عن عقدة الاستيعاب من قبل الثقافة الوطنية المحلية.

ما يعنينا أكثر هو تقنية الحجب التي جعلت رسالة فرويد غير المتعاطفة مع الصهيونية قيد الاحتجاز مدة 73 سنة. ولا نعلم إذا كانت هناك رسائل أخرى من هذا القبيل لفرويد ولسواه. ولكن يمكن القول ان النظم والأحزاب التوتاليتارية ليست وحدها من يحجز ويمنع ويحجب الأفكار. فالحركة الصهيونية تمتلك هي أيضاً، وعلى طريقتها، ما يطلق عليه جورج أورويل اسم "شرطة الأفكار" أو "حسبتها".