المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محمد علي باشا .. باني مصر الحديثة وسبب لعنتها في الوقت نفسه!



سمير
11-17-2005, 04:22 PM
في الاحتفال بالمئوية الثانية لتوليه السلطة في مصر

القاهرة ـ القبس


لا شك أن محمد على باني مصر الحديثة، هذا البناء الذي جعلها قوة رابعة في العالم ـ وقتئذ ـ الى جانب بريطانيا وفرنسا وروسيا، حسبما قال الكاتب والمؤرخ محمد عودة في بحثه الذي ألقاه في ندوة مرور 200 عام على حكم محمد على لمصر والتي اقيمت مؤخرا..

كان عودة قد حاز على اعجاب الجمهور الغفير الذي شهدته قاعة المسرح الصغير بدار الأوبرا، ربما لأن عودة استطاع أن يجمع أوراق الفترة الثرية التي عاشها محمد على والحروب العديدة التي خاضها القائد الداهية ابراهيم باشا، وربما لأنه استطاع أن يعرض وجهة نظره من خلال هذه الأوراق التي قال عودة من خلالها : انقسمت فرنسا حول محمد علي، ففريق قال ان مشروعه العظيم انتصار باهر للحداثة والحضارة المدنية الحديثة، وفريق قال انه انتصار للتخلف والوحشية والرجعية، حتى أن وزير خارجية فرنسا آنئذ قال إن والي مصر يريد تصنيع بلاده، وهذا يهدد مستقبل صناعتنا وتسويقنا للشرق، كما إنه قد يفكر في حفر قناة السويس التي كان يفكر نابليون في حفرها، مما سيهدد طريق تجارتنا ويضعنا تحت يده، ومن ثم فقد أوفد مبعوثاً من قبله وهو الكونت والكوت للتوقف على مدى صحة هذا من خطئه، فالتقى الكونت والكوت مع محمد على وإبراهيم باشا وأعد تقريراً قال فيه أن ابراهيم يحلم ببناءامبراطورية، وقد خرج من مصر بجيش عظيم ليلتهم جسد الرجل المريض «الامبراطورية العثمانية»، واستطرد قائلاً ان ابراهيم سوف يزيد قوته ثلاثة أضعاف ليحقق الامبراطورية التي تحقق للأمة الأسلامية كيانها القديم، ولكن بشكل عصري وحضارة حديثة، ويحرص ابراهيم على تناول طعامه مع الجنود والتباسط معهم، وحين سأله أحد الجنود ذات يوم لماذا تحرص على ازدراء الأتراك وأنت منهم رد بشكل قاطع «أنا لست تركيا، ولكنني جئت الى مصر في صغري، ولا أعرف غيرها، فأنا مصري».

وأضاف عودة إن النمسا أيضاً أرسلت مبعوثاً لتقصي هذا الأمر، فجاء التقرير يؤكد على أن قيام الدولة العصرية المصرية أمر لا جدال فيه، وقد قال له ابراهيم :«لماذا تقعدون الدنيا ولا تقيمونها والعرب لا يريدون سوى استعادة حقوقهم والنهوض بدولتهم، قد فعلت ذلك النمسا والبلجيك ولم يعترض أحد، وأنتم الذين أسميتم الإمبراطورية العثمانية بجسد الرجل المريض، ولا تريدونه أن يتعافى، لا لشيء سوى أن أطماعكم اختلفت حوله».

محرر الفقراء

يقول عودة: كان محمد علي في ذلك الوقت قد ولى ابراهيم باشا حكم سوريا وما يتبعه الى جانب كونه ساري عسكر باشا مصر حسبما كان يحب أن يلقب نكاية في السلطان العثماني آنئذ، وأضاف ان ابراهيم باشا كان يملك الحصافة السياسية والعدل والنزاهة مما جعل حكام الأقاليم والبلدان يتحركون ضده لأنه قضى على فرص الفساد التي كانوا يعيشون عليها في ظل الحكم التركي، بالإضافة الى وجود القوى الكبرى التي أذكت روح الثورة ضد الحكم المصري، رغم أن الفقراء أو الطبقات الدنيا كانت تعتبر هذا الحكم محرر الفقراء من الطغيان، فقد أقام ابراهيم باشا مجالس شورى الى جانب حكام من أهل البلدان، كما نظم طرق جباية الضرائب، وعمم تربية دودة القز وصناعة الحرير، وزراعة الزيتون، واستخراج الفحم، ونشط التجارة بين البلدان الشامية والدول الأوروبية، وأرسل البعثات الى أوروبا كما فعل والده في مصر، مما ساهم في قيام نهضة علمية وثقافية وصحية في الشام، وحين سئل الى أين يريد أن يذهب بجنده قال الى آخر بلد يتحدث بالعربية، بل وحددها بالاسم الى خلف جبال طوروس، وحدث أن جاءه وفد من الأتراك خلف جبال طوروس وطلبوا منه أن يعبر هذه الجبال ليخلص الأمة من الرجل المريض، فاتخذ ابراهيم باشا قراره التاريخي بعبور هذه الجبال، وأثبت بجيشه عبقرية نادرة له كقائد ولجيش الفلاحين المصري الذي جنده محمد علي، في اقتحام هذه الجبال ومحاربة عدو قوي متحصن بأرضه وقلاعه، خاصة في معارك الأناضول وقونيا التي انهزم فيها الأسطول والجيش التركي وكان تعداده مائة وثلاثين ألف مقاتل، بينما كان تعداد الجيش المصري أربعين ألف مقاتل.

كان يتفوق بحسن التدريب والنظام ووحدة العرق، وقد بدأ الهجوم ليلاً من قبل الجيش التركي الذي كان يلعب على عامل المفاجأة للجيش المصري، لكن هذا الجيش الذي قوامه عناصر الفلاحين كان منتبهاً لمثل هذه الخدعة، فانتهت الحرب بخسائر فادحة للجيش التركي في الأرواح بـلغت ستة عشر ألفا، كما خسروا خزانة الجيش التركي وفيها من الأموال ما يساعد على تجييش عدة جيوش أخرى، كما استولى ابراهيم باشا على عشرين مدفعاً، وتسع بوارج وإحدى عشرة فرقاطة، وخمسة طرادات، وهي قوام الأسطول التركي الذي سلم نفسه للجيش المصري وعاد الى شواطئ الإسكندرية في مصر، ولم يبق أمام ابراهيم باشا سوى البوسفور وبعدها اسطنبول العاصمة التركية، فأرسل الى والده يستأذنه في الدخول، لكن محمد علي الذي توافدت أساطيل أوروبا أمام شواطئ الإسكندرية مرسلة له العديد من برقيات الإنذار، ما جعل محمد على يتخوف على مصر فأرسل لابنه يدعوه الى الانسحاب، وهو خطأ استراتيجي كبير حزن له ابراهيم باشا كثيراً، لكنه امتثل الى أوامر والده وقاد أقصى انسحاب عرفته الجيوش، فقد حسمت الدول الأوربية أمرها على القضاء على قتل ابراهيم باشا أو القبض عليه ونفيه خارج مصر، لكنه عاد بجيشه رغم حروبه الدامية مع هذه الأساطيل طيلة الطريق.

إنجاز نهضوي

وأضاف عودة في نهاية بحثه ان محمد علي عكف على تحقيق انجاز نهضوي كبير في مصر شمل شتى النواحي، فقد اختار السان سيمونيين ـ نسبة الى سان سيمون ـ مصر كي تكون نموذجاً يطبقون عليه أفكارهم في الزراعة والصناعة والتعليم والمرأة، وتقدموا بعدة مشاريع لمحمد علي الذي وافق عليها وبدأ بتنفيذها، ومنها حفر الترع والمصارف وإنشاء القناطر وعلى قمتها القناطر الخيرية، وقد دعوا ابراهيم باشا لزيارة عدة دول في أوروبا، واستقبل هناك استقبالاً لم يحدث الا لنابليون بونابرت، كما ذهب محمد علي لعلاج عينيه في ايطاليا في أواخر أيامه، واستقبل بالاستقبال نفسه، لكن ما أحدثه محمد علي من نهضة ومن جيش قوي ومن أحلام وطموحات، جعلت أوروبا تتخذ قراراً بعدم السماح لهذا البلد بأن تكون دولة قوية لأن ذلك يتعارض مع أحلامها وطموحاتها الاستعمارية والاقتصادية في المنطقة العربية وخارجها، مما يجعلنا نذهب الى أن محمد على رغم ما أنجزه وأظهره من عبقرية، وما أثبته من قدرة المصريين علي استقبال الحضارة الحديثة والاندماج معها وبها،الا أنه ظل اللعنة التي تطارد هذا البلد منذ أعلن ابنه ابراهيم باشا عن طموحاته وقدراته معتمداً علي جيش من الفلاحين، قام سليمان الفرنساوي بتدريبه وإعداده، ليصبح قوة رابعة ـ مع جيوش فرنسا، بريطانيا، روسيا ـ تصول وتجول في البحر والبر، وفي النهاية كان قرار أوروبا بتحطيم الأسطول المصري، وفرض معاهدة لندن 1940 التي أقرت أن مصر وما يتبعها من السودان ملك لمحمد علي وأولاده، لكن جيشه لا يزيد على 18 ألف جندي، وأضاف عودة إن هذه النهضة القوية عجلت بالانقضاض الأوروبي على ممتلكات الرجل المريض، كما نشطت أول بذور الاستيطان الإسرائيلي في المنطقة، فقد توسل اليهود في ذلك الوقت للسلطان العثماني بتوطينهم فلسطين كي يكونــوا درع حماية له من أي خروج من مصر، ورغم أن المشروع لم يتم في حينه غير أن نظر اليهود وأوروبا قد أصبح متمركزاً على ضرورة زرع كيان يقوم بدور الشرطي لتقليص وتحجيم الدور المصري.

وشهدت هذه الندوة ورقتين بحثيتين أخريين، كانت احداهما للسفير الإيطالي في القاهرة سنيور بالديني تحدث فيها عن مشاركة ايطاليا في نهضة هذا البلد الفقير في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكيف كانت الجالية الإيطالية هي ثاني أكبر جالية في مصر بعد اليونانيين الذين كانوا يعاملون كرعايا للدولة العثمانية، أي مثلهم مثل المصريين وليس كأجانب، وكيف كان منهم المهندسون والأطباء والأساتذة الذين جاءوا ليس بحثاً عن مهنة أو عمل ولكن محبة في أن يقدموا علمهم وعلومهم لأبناء هذا الشعب، وقد ارتبطت الجالية الإيطالية أكثر من غيرها بالطبقات الكادحة على حين ارتبطت الجالية الفرنسية بالطبقات الأرستقراطية.

وجاءت الورقة الثانية للدكتور أحمد رشاد موسى الذي تغيب لظروف طارئة فألقاها بالنيابة عنه الدكتور أحمد حلمي عبد اللطيف، وكانت هذه الورقة تحت عنوان «نهضة مصر الاقتصادية ووضع أسسها الحديثة» رصد فيها أحمد رشاد شتى النواحي الاقتصادية والتجارية والزراعية والعلمية والتعليمية، وقال إن مسابك القلعة كانت تنتج في زمن محمد علي مدفعاً كل عشرين يوماً، وكانت ترسانة السفن قادرة على انتاج سفن قادرة على حمل عشرة آلاف جندي، كما شهدت الزراعة نهضة كبيرة بدخول زراعة القطن وقصب السكر وما قام عليهما من صناعات تحويلية، وكانت أسواق مصر في الشام والسودان وأوروبا، كما شهدت القاهرة البعثات العلمية ثم انشاء مدرسة الألسن، والمطبعة الأميرية التي طبع فيها كتاب تلخيص الإبريز في باريز لرفاعة الطهطاوي، كما طبعت فيها جريدة الوقائع المصرية، هذا بالإضافةالى مطبوعات الجيش والدواوين الحكومية، وانتهى أحمد رشاد الذي قارن بين اقتصاد مصر قبل وصول محمد علي للحكم وأثناء حكمه وما بعده،الى أن محمد علي فاجأ العالم كله بالقوة المرعبة اقتصادياً وعسكرية التي تحلم ببناء الدولة العربية الكبرى تماماً كما كانت في الماضي، ومن ثم فقد ارتعدت كل دول أوروبا من هذا المارد الذي سيستحوذ على كل ممتلكات الرجل المريض ويبدأ عصراً جديداً من القوة له المنطقة، ولم يستبعد رشاد أن نشوء قوة محمد علي كانت سبباً في التعجيل بالانقضاض الأوروبي على ممتلكات الرجل المريض، مثلما كانت سبباً التحجيم الدائم لقوة مصر ووضعها تحت المنظار الأوروبي منذ ذلك التاريخ.