المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أهي أزمة ثقافة؟!.. أم أنها أزمة أخلاق؟! ......... د. نجم عبد الكريم



فاتن
10-19-2005, 06:36 AM
د. نجم عبد الكريم

كانت الاختلافات في وجهات النظر بين رجال الفكر والثقافة ـ في مطلع القرن الماضي ـ كثيراً ما تؤدي إلى مناظراتٍ فكرية، ثقافية، وأدبية، لا تخرج عن دائرة القضية المُختَلف عليها، إذ يركّز المتناظرون على استجلاء الحقائق لتدعيم وإثبات وجهات نظرهم، وهذا بحد ذاته ما يثري المتلقّين من القرّاء... فـ (العقاد) و (المازني) و (شكري) شكّلوا جبهةً نقدية لتتناول كثيراً من أعمال الأدباء والشعراء بالنقد والتحليل، وبالطبع هناك من يقابلهم من مدارس وتيارات أدبية وفكرية انتشرت في معظم الأوساط الثقافية في الوطن العربي.

فـ (الدكتور طه حسين) خاض من المعارك، وواجه خصومه بسلاح القلم والحُجّة.. وهكذا كان (الزهاوي) عندما رصد إنتاج العقاد وغيره من أدباء عصره بالنقد والتحليل إطاراً ومضموناً، بل إن المتابع للمناظرات الفكرية التي حفلت بها الصحف والمجلات في عقود ما قبل منتصف القرن الماضي، يجد نفسه أمام غذاءٍ ثقافي لا نظير له.. وهناك الكثير من الأمثلة التي بين أيدينا قد زخرت بها المجلدات، تعطينا درساً للرقي في الخصومات الفكرية.

***

• فما الذي جرى في عقود ما بعد منتصف القرن الماضي وحتى الآن؟!.. إنه لأمرٌ مخجل حقاً أن نرى في وسائطنا الإعلامية ذلك الأسلوب المتشنّج والمليء بالتهاتر حول أي قضيةٍ تطرح، وكأن المتحاورين يوجه كلٌ منهم سلاحه المدمّر في وجه محاوره كي يحطّم كل أطروحاته دون أدنى مراعاةٍ لآداب الحوار أو لخلق المناخ الثقافي الذي يجب أن يتحلى به ممن يفترض فيهم أنهم الصفوة في المجتمع!!..
فبعضهم بات لا يتخيل أو يتصور أن وجهة نظرٍ ما قد طُرِحت وهي مخالفة لوجهة نظره!!.. ولهذا نجد هذا البعض يستلّ سيفاً من خلال لسانٍ مسموم، ويتسلح بأبذأ الألفاظ وأسقطها، يجيز لنفسه استخدام أرخص الأساليب وأعفنها، ليؤلف قاموساً من مفرداتٍ لا تمت إلى آداب التحاور بأية صلة!!.. وبعضهم يتصور أن حركة الكون كله تسير وفق ( ما يكتبون) و(ينظّرون)، فيخرجون على القراء بتصنيفاتٍ لا تستند إلى الخُلُق أو الثقافة، بل أنها مجانبةٌ لكل التعاليم الوضعية والأخلاقية وحتى السماوية منها!!.. ويفترضون فيك كقارىء أن تنحاز باستماتةٍ لوجهة نظرهم تلك، وإلا فإنك تصنف في هذه الحالة تحت بند الخونة!!..

***

• ودعوني أضرب لكم مثلاً فيما يُكتب في بعض الصحف عن واحدٍ من الأساليب التي تظهر للعيان تلك الأزمة الثقافية أو الأخلاقية التي بتنا نعاني منها.. ولا أريد أن أستشهد بما يتعرّض له العشرات بل المئات من الكتّاب والمثقفين ورجال الصحافة والإعلام من سباب وشتائم، وإنما سأستشهد بنفسي!!.. فعندما كنت أكتب موضوعاتٍ لا تلقى هوىً لدى من يؤيدون خطوات الديكتاتور صدام حسين، كنت أتعرّض لسيلٍ هادرٍ من الشتائم والسباب، وكنتُ أُنُعتُ بمختلف الأوصاف!!.. وليس في كل ما كان يكتب أي محاولة لمناقشة ما كنت أطرحه بموضوعية!!.. وسأضرب مثلاً بصحيفةٍ تصدر في لندن عُرفت بتأييدها المطلق لكل ما يفعله ديكتاتور العراق.. رغم الكوارث التي أحيقت بالشعب العراقي، والكوارث الأخرى التي سببها لجيرانه، ناهيك عن ذلك الانقسام والتشتت الذي تعيشه الأمة العربية بسبب سياساته الإجرامية، إلا أن تلك الصحيفة ـ التي تصدر في لندن ـ ما زالت مصرةً على براءته، رغم أن صدام نفسه قد اعترف في التحقيقات أنه مسؤولٌ عن حلبجة، والأنفال، والمقابر الجماعية، والحرب مع إيران، واحتلال الكويت، ناهيك عما فعله بالشعب العراقي في الداخل حتى أوصله إلى النتائج التي يعانيها العراق الآن!!..

ولست أريد أن أناقش الأسباب التي تدفع تلك الصحيفة لموقفها هذا.. فما يعنيني ـ في موضوعنا ـ هو الأسلوب الذي تناولتني فيه، وكان ذلك في عام (1982) حيث تصدرت افتتاحية صفحتها الأولى مقالة بقلم رئيس تحريرها وجاء فيها التالي: "لم أكن أريد أن أتحدث عن ذلك (الدعيّ) (سليل الفارسية) وحامل الجنسية الكويتية، التي قبّل الأقدام ومشى ألاف الأميال مستجدياً أسياده أن ينقذوه لأنه بدون جنسية!!.. لقد ولد على أرض الرافدين العربية من أبويين فارسيين، واحتضنته بلادنا الكريمة، وترعرع في كنفها، وتلقى تعليمه في مدارسها مجاناً لوجه الله تعالى.. وعندما حلّ بالكويت لم يجد (ماخورةً تأويه) فالتقى بمن يحتضن أمثاله ـ أجاركم الله منه ـ وفتح له صحيفته حليفة كامب ديفيد ومؤيد سلطان السلاطين.. مناحيم بيغن، وجعل منه قلماً أرزقياً يهاجم من آواه وعلّمه، ولم يترك فرصةً إلا وقد هبّ ليدافع عن بني قومه، مهاجماً العروبة في كل مكتسباتها.. ونسي ما كان وكأنه لا انكشاف لأمره، ظاناً بأن دار العمالة قادرةٌ على أن تحميه.

ولكن لم يخلُ الكويت كأي قطرٍ عربي من رجالٍ كرماء، شُرفاء، فخورين بانتمائهم العربي.. وما أن بدأ (اللقيط) و(اللئيم) هجومه على العرب عبر صفحات الجار الله حتى انبرى له من يكشف (الأكاذيب) النجمية في مقالاتٍ نشرتها الصحف الكويتية، وكانت حقاً صفعة قومية على وجه (شعوبي) (أفّاق) (قذر) (دخيل) (مدسوس) (طائفي) (ينشر الفتن) عبر الطابور الخامس المتواجد في كل بلاد الخليج والجزيرة.. وإننا نأمل أن نتمكّن من نشر تلك المقالات، فهي أبلغ ردٍ وأعظم تقدير، ويا ليت أن يقتدي الكثيرون من الكتاب ممن يرون الباطل أمامهم، والزيف يتطاول على القوميين، ويكتفون بأضعف الإيمان بلعنة أولئك الشعوبيين بقلوبهم.. وهذا أمرٌ مرفوض، والواجب القومي والديني يفرض عليهم أن يهبّوا للدفاع عن مقدّساتنا وعن وطننا وألا يتركوا للمندسّين دعاة الطائفية أن يكونوا طابوراً خامساً.
وهذا أقل شيءٍ مطلوب من كل ذي سمعٍ وبصر، إن بلادنا مليئةٌ بالرجال والأقلام الشريفة، غير أن بُعدهم عن الساحة ترك لمثل هذا (النجم الآفل) و(الدكتور المزيّف) مكاناً في صحافتنا، وإقامةً ومرتعاً فوق أرضنا يطلقون منها الفتن والدسائس بين الأشقاء..

إلى حكام الكويت: لا تهنوا.. ولا تتساهلوا مع مثل أولئك المندسّين الذين كشفوا بأقلامهم عن هويتهم ومهمتهم، بمرسومٍ مداده جدّ عربي.. يجب إلغاء الجنسية عن أولئك المندسين حتى لا تندموا يوماً ما عن تسامحكم الذي يعتبرونه جبناً، وأنتم ترونه كرماً.. اضربوا (رؤوس الأفاعي) قبل أن يستفحل خطرها فذلك خيرٌ وأبقى..
أما أنت أيها (القزم).. فأبشر بأن (نجمك قد هوى) بكشف (أوراقك الزائفة) و (عروبتك الكاذبة)، وإن عدت عدنا بصوت عذابٍ (يلهب ظهرك القذر)"..

***
• وتعالوا بنا ـ يا قراء إيلاف ـ نعدّ المفردات المستخدمة في افتتاحية تلك الجريدة التي وجدت في العبد لله فريسةً سهلة.. (دعيّ!!..)، (سليل الفارسية!!..)، (مقبّل الأقدام!!..)، و(مستجدي أسياده!!..)، (بدون جنسية!!..)، (ماخورة تأويه!!..)، (أرزقي!!..)، (مهاجم العروبة!!..)، (تحميه العمالة!!..)، (شعوبيُ!!..) (قذر!!..)، (أفّاق!!..)، (دخيل!!..)، (مدسوس!!..)، (طائفي!!..)، (ينشر الفتن!!..)، (من الطابور الخامس!!..)، (دكتور مزيف!!..)، (نجمٌ آفل!!..)، (رأس أفعى!!..)، (قزم!!..)، (لقيط!!..)، (زائف العروبة!!..)، و(سيلهبون ظهري القذر!!..) إلى آخر ما قرأتموه من هذه الألفاظ والنعوت!!..

• ولست أريد أن أناقش بموضوعية تلك الأخطاء أو الأكاذيب التي تضمنها المقال، فأنا مع احترامي وتقديري للحضارة الفارسية، إلا أنني لا أنتمي إليها، فأنا عربي الأصل والعرق والمحتد.. ولكن الذي دفع كاتب المقال لخلق تلك الافتراءات، بسبب عدم تأييدي لسياسة صدام، وكان من يقف في مثل موقفي في ذلك الوقت توجه إليه تهمة الطائفية، والشعوبية، أو أنه من أصولٍ فارسية!!..
ولست أريد أيضاً أن أناقش كاتب المقال عندما سعى إلى تحريض حكام الكويت ـ حسب تعبيره ـ بأن لا يهنوا ولا يتساهلوا ويدعوهم إلى ضرب رؤوس الأفاعي قبل أن يستفحل خطرها!!.. لأن الخطر الحقيقي على الكويت قد جاء ممن كان يهلل لهم صاحب المقال وأشباهه!!.. ولكنني أسأل جميع السادة ـ قراء إيلاف ـ ممن قرأوا ما أوردته من تلك المقالة: ما هي تلك البينة التي استند عليها الكاتب في افتتاحية جريدته اليومية وفي توجيه هجومه الذي قرأتم بعض مفرداته؟!..

• فلو أنه اختلف معي في رأيٍ طرحته في مقال أو قضيةٍ ما كنت قد أثرتها، وبيّن لي وجه الخلاف بشكلٍ حضاري وبأسلوبٍ ينأى به عن الأسلوب الذي استخدمه في مقالته.. لو أنه فعل ذلك، وهذا أبسط قواعد النقد أدبياً وأخلاقياً، لكنت أكثر استفادةً، وأكثر استرشاداً، وربما يدعوني إلى تصحيح بعض مفاهيمي حول القضية المطروحة والمختلف عليها!!.. لكن هذا السيل من الشتائم والسباب الذي يأنف عن اتباعه الأعداء ضد أشد أعدائهم ضراوةً.. فليس لدي ما أقوله أمام هذه النوعية من الخصومات التي تظهر على صفحات الجرائد والمجلات سوى أنها أزمة أخلاق، أو أزمة ثقافة، أو متاجرة بالمبادىء، وإذا أسأتُ الظن أقول أنها شتائم مدفوعة الثمن..

***
• وعنما قيل لي: إنها مقالةٌ ستحقق لك ربحاً كبيراً فيما لو رفعت قضية على الكاتب والصحيفة!!.. فكان ردي: قاتل الله مالاً يأتي ثمناً لشتائمي ويُدفع من ميزانية عرق وكدح ومال الشعب العراقي!!..

• ربّ متسائلٍ عن سبب تناولي لمثل هذا الموضوع بعد مرور كل تلك السنوات؟!!..
أجيب: إنني استشهدت بهذا الموضوع لأضرب به مثلاً من تجربتي الخاصة، أما الذي دفع بي لكتابته حقاً هو ما لاحظته في سجالات ردود القراء على مقالات كتاب (إيلاف) لأن البعض منها ردودٌ متشنجة تحتوي على آراء بعيدة عن الموضوعية والخُلُق والمنطق، وتحفل بها المساحات المفتوحة للقراء، خاصةً وأنهم يتسترون تحت أسماء وهمية مما فتح المجال على مصراعيه للنيل من كل مقدساتنا وموروثاتنا الفكرية والثقافية، التراثية منها والمعاصرة، ليتناولها هؤلاء المتخفّون بأساليب لا تليق والأخلاق الحميدة أو الوعي الملتزم، خاصةً أولئك الذين يتحججون بوجهات نظرهم، باعتبارها مقدسة وغير قابلة للزيادة والنقصان.

بالإضافة إلى ذلك فإن القٌراء أنفسهم صاروا يقدحون بعضهم البعض بالشتائم والمهاترات متناسين الموضوع الذي حفّزهم للمشاركة لكي يقوموا بالتعليق عليه.. وبكل أسف أن بعض الردود تكتب ـ أحياناً ـ بأساليب ركيكة وهزيلة مما يدل على المستوى الفكري لأولئك الذين يقتحمون بجهلهم موقع جريدة (إيلاف) ليتطاولوا بالسُباب على كتّابها حيناًً وعلى القراء حيناً آخر!!..

ومع أنني كنت أخالف الصديق عثمان العمير عندما أوقف نوافذ تعليقات ردود القراء لفترةٍ من الزمن، لما فيها من تجاوزاتٍ على الكتّاب وسواهم !!.. إلا أنني أدعوه الآن إلى إيقافها أو إلى مراقبتها بحيث لا تسمح للغث والهزيل أن يكون له موقعاً في (إيلاف) شريطة أن لا يخلّ ذلك بالحرية التي من حق القراء ممارستها خاصةً لمن لديهم التزامٌ فكري وثقافي بعيداً عن التهاتر والتهويش!!..