المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات فتاة عراقية عمرها 14 عاما تروي فيها معاناة أسرتها قبل وبعد الحرب



زوربا
09-05-2005, 07:47 AM
بغداد: أنتوني شديد *

في مارس (آذار) 2003 وصلت الحرب التي طال انتظارها إلى بغداد وكانت شقة أمل سلمان، الفتاة الحيوية التي لم يتجاوز عمرها 14 عاما، هادئة. وفيها جلست أمل مع أمها كريمة وأخواتها الأربع مفضلات عدم مغادرة بيتهن الآمن نسبيا والواقع في منطقة شعبية هي الكرادة. وتطل شقتهن ذات الغرف الثلاث على رصيف بأحجار رخوة. وداخل العمارة كانت الفئران تتقافز بين أثاث مرمي حيث علقت أسلاك هابطة من السقف. داخل شقتهن كانت أخبار الحرب تحدد إيقاع حياتهن، وسادت شائعات بين الجيران عن تقدم الجيش الأميركي عابرا نهري دجلة والفرات.

وخلال ساعات الليل بقين يسعين للوصول إلى محطة راديو بالعربية هي «مونت كارلو» التي يعتبرنها غير منحازة في تقاريرها حول الحرب. وأي ذكر لمدن مثل أم قصر والناصرية والبصرة والنجف يجلب الخوف لأولئك الذين أقاربهم كانوا جنودا أو مقيمين في تلك المناطق. وفي صمت كن يبحثن عن أي تفاصيل عبر الراديو عن المعارك الدائرة بالقرب من الموصل حيث يخدم الابن ضمن وحدة مضادة للطائرات. قالت فاطمة التي تبلغ السادسة عشرة وهي أكبر البنات بفخر «لم يكن خائفا». لكن الأم صاحت غاضبة «بالتأكيد كان خائفا. كان قلقا ونحن قلقون من أجله. لكن الله موجود».

خلال أوقات ما من تلك الليلة كانت أمل وأخواتها ينفجرن ضاحكات وهن يرددن أغنية مديح للرئيس صدام حسين. ويبدو كأنهن يقمن بذلك بدافع الخوف أكثر من أي شيء آخر. وخلف ترديدهن لتلك الأغنية، التي تبدأ بـ «يحفظ الله الرئيس» الذي كان ناجما عن قسر أكثر منه عن قناعة، قناع يغطي وراءه قدرا من حالة التشوش. ومثلما هو الحال غالبا في العراق، فالناس هم متفرجون أكثر منهم طرفا في صياغة الأحداث.

كانت أمل هي الأكثر تحمسا وهي مثل الكثيرين في سنها عضو في اتحاد الشباب التابع لحزب البعث. وقالت أكثر مما كان متوقعا منها وبلغتها «إذا كان هناك أجنبي يريد أن يدخل إلى بغداد بسلام نحن جميعا سنرحب به، لكن إذا أراد أن يدخل كعدو فنحن جميعا سنواجهه حتى لو كان بالحجارة وإذا لم يكن هناك حجر فسنرمي عليه الطين».

البكاء على كل شيء ثمين

* قبل الحرب احتفظت أمل بدفتر يوميات يتضمن تفاصيل عن الحرب التي يتم تلمسها من خلال عيني فتاة ذكية لكنها معزولة عن العالم الخارجي. وغالبا ما كانت تكتب وهي مضطجعة على الأرضية. وكانت كلماتها تضاء بمصابيح ضعيفة أو بفوانيس تعمل على الجاز أو الشموع. ولم تكن رسالتها في تلك اليوميات سياسية فهي لم تكتب اسم صدام حسين ولا مرة واحدة. وفي مدخلها قدمت الحرب بطرق أكثر بساطة وأكثر إنسانية باعتبارها صراعا من أجل البقاء. فهي خافت من أحكام الحرب العشوائية وغير المقبولة.

وبدأت بالبسملة أولا. ثم أتبعتها بـ «اسمي أمل. لدي عائلة سعيدة تتكون من تسعة أفراد. ثلاثة إخوة: علي، الجندي في الموصل; ومحمد الذي يعمل نقاشا; ومحمود الذي ما زال طالبا. وهناك خمس أخوات: فاطمة التي تساعد أمي في البيت، وزينب; وأمل; وأختيّ التوأمان، دعاء وهبة. أنا فخورة بأمي لأنها امرأة عظيمة تعمل من أجل جلب الطعام لنا لأن أبي توفي حينما كنا صغارا».

ومثل الكثير من أهالي بغداد استغرقت أمل في التهيؤ قبل وصول الحرب إلى بغداد. فأسرتها كانت لديها القليل من المال. فلسنوات ظلت أمها تبيع «العلك» على بساط في الشارع وهي الآن تعد الخبز للجيران، ووالدها المعوق أصيب ست مرات خلال الحربين مع إيران والولايات المتحدة وتوفي خلال شهر رمضان عام 1996 حينما تعطلت فرأمل سيارته. والآن أصبح التضخم الذي سبق الحرب يأكل حصة كبيرة من ميزانية الأسرة المتواضعة. فسعر طبق من 24 بيضة تضاعف ثلاث مرات. ومحلات الخبز أغلقت وأصبح توفره نادرا. وفي تلك الأيام قام أفراد الأسرة بالذهاب إلى السوق لكنهم لم يجدوا شيئا يستطيعون أن يشتروه، وكان الكثير من جيرانهم من ذوي الحالة المعيشية الأفضل قد تركوا البناية سعيا للوصول إلى مكان أكثر أمنا في الريف.

كتبت أمل في دفتر يومياتها «نحن نوفر بأنفسنا الماء وهو نادر، والكهرباء ستقطع. دعاء وهبة تصليان كل الوقت لتجنب الحرب. أما فاطمة فتشعر بأن الحرب لن تحدث». وأضافت «الحمد لله على كل شيء. لكنني أمل ألا تقع الحرب».

تدريجيا ومع اقتراب بدء الغزو بدأت كل قطع الحياة اليومية لأمل تتفكك واحدة بعد الأخرى فحينما ذهبت مع اختها زينب، 15 سنة، إلى المدرسة لم تجد هناك سوى عدد قليل من الفتيات. لذلك عادتا إلى البيت.

ومع تقهقر الحياة راحت الأم تبكي بشكل خارج عن سيطرتها وهذا ما كان يدفع البنات إلى البكاء أيضا. كان ضعف الأم مصدر خوف لهن. كانت هبة ودعاء اللتان يبلغ عمراهما الحادية عشرة تقضيان الوقت في قراءة القرآن، أما أمل فظلت تسجل في يومياتها تفاصيل الحياة اليومية «الأعين تبكي لأي شيء ثمين» تكتب في فقرة من يومياتها.

ويوم 20 مارس عند الساعة الخامسة وأربع وثلاثين دقيقة وتحت وطأة عتمة كأملة نجمت عن انقطاع الكهرباء، سمعن بوصول الحرب المتوقعة. إذ سقط 40 صاروخا من نوع كروز على مخبأ في أطراف بغداد، وراحت صافرات الإنذار تزعق. كتبت أمل في يومياتها «يا الله أنقذنا... قلوبنا مملوءة بالخوف»، ثم تحول تفكيرها صوب أخيها علي «يا الله احم أخي».

اعطنا سلاما وأمانا

* لم يكن الإيمان بالنسبة لعائلة أمل ناجما عن مشاعر دينية متطرفة. بل حتى أنه ليس ناجما عن إفراط بالتقوى والورع، بل هو يعطي حياتهن إيقاعا منتظما. ومثلما هو دعوة المسلم للصلاة عبر الأذان الذي يتردد خمس مرات كل يوم من فوق المنابرت ابتداء من الفجر فإن الدين ينظم إيقاع اليوم. فهو يتكلم بوضوح ويقدم عزاء ودعما في الأوقات الصعبة. في يوميات أمل نجد قراءة القرآن سائدة بين الكثير من الجيران وكانت أختاها التوأمان تكرران دعاء بوقف الحرب مثلما هي الحال مع الكثير المقيمين في نفس العمارة.

تكتب أمل «ربنا، أعطنا سلاما وأمانا». وفي الكثير من الصفحات الحميمة ظلت أمل تكرر هذه العبارة.

وظلت أسرة أمل مع الكثير من سكان بغداد يتابعون عبر شاشات التلفزيون أغاني وطنية ومشاهد من جنود يتقدمون في ساحات التدريب مع صورة صدام حسين وهو يطلق النار من بندقيته في الهواء. وعلى الرغم من أن السلاح الجوي الأميركي واجه القليل من المقاومة في العاصمة فإن «البروباغاندا» ظلت مستمرة لتلحق إيلاما بمخططي الحرب الأميركيين. مع ذلك فإن يوميات أمل تتظاهر بالشجاعة. وحينما كانت القنابل تسقط كان أسرة أمل مع الجيران الآخرين في العمارة يختبئون تحت السلالم حيث يضع الكل حداً لأي خلافات قد تتصاعد نتيجة ازدحام عدد كبير من الناس في مكان ضيق. كان الناس يرددون الشائعات التي تكون في الغالب مخيفة، مما كان يرعب أسرة أمل.

وكتبت أمل «جاء جارنا. وقال انهم قصفوا مقر قيادة الدفاع المدني، الواقع على بعد عشرين دقيقة منا. وقصفوه مرة ثانية في الساعة 10.45 ومرة أخرى وأخرى. وفتحت الراديو. وقالت التقارير ان اميركا قصفت قصرين رئيسيين على نهر دجلة في الساعة 10.50. جلست في مدخل الشقة مع أم حيدر وأم سيف، وتحدثنا عن الحرب. ثم انتهت الغارة في الساعة 11.10 وقالت أمي «شكرا لله». وقالت أم حيدر «سيأتون لقصفنا مرة أخرى خلال 10 دقائق».

في الأيام الأولى للحرب، كانت الحياة عبارة عن انقطاع للتيار الكهربائي وأصوات صفارات الإنذار وأصوت الانفجارات التي كانت تهز المباني القديمة وتولد الخوف. وكتبت تقول «الآن الساعة 9.25، بدأت أصوات الانفجارات تعلو وتعلو». وتعود مرة أخرى لاستكمال الكتابة التي اصبحت اقل اضطرابا «نستمع للراديو، ولكن لا يقولون لنا كل الحقيقة. الساعة الآن 11.35 وتعتقد فاطمة انه سواء متنا أم لم نمت فلن نتغير».

ومع مرور الأيام، تكررت أسئلة أسرة أمل «متى سيتوقف القصف ومتى سيبدأ مرة اخرى». كانت الليالي تمر بلا نوم، ومع استمرار الحرب، اصبحت اصوات صفارات الانذار مثار تشوش: هل تعني صفارة الانذار بداية ام نهاية غارة؟ واصبح من الصعب متابعة صفارات الانذار. وفي الخارج كانت العواصف الرملية التي لم يواجهوا مثلها من قبل، تحجب ضوء الشمس، بظلال حمراء وبنية وصفراء.

وكتب أمل «الطقس مثل غضب السماء على الأرض والناس».

لماذا وقعت الحرب؟

لم تكن شبكة كهرباء بغداد المتهالكة قادرة على مواجهة الحرب، وكانت تتعطل يوميا. وكان مسكن أمل، لعدة ساعات يوميا، يسوده الظلام الدامس. وفي بعض الأحيان كانت الأسرة تستخدم الشموع، واضواء المصابيح غير الكهربائية حيث كان يسود الشقة ضوء ناعم. ومرة بعد المرة كانت الكهرباء تعود مرة اخرى.

الا انه في 3 ابريل ( نيسان)، لم تعد الكهرباء مرة اخرى، واستمرت الظلال والحرب تقترب من ذروتها. وكتبت أمل «نحن نعيش في الظلام، لقد اختفى الضوء ولا نستطيع رؤية أي شيء، حتى السلالم خارج الشقة. لا يستطيع احد الرؤية بسبب الظلام. يا رب أنر العراق بنورك العظيم».

وفي اليوم التالي اندفعت المياه من صنبور المياه في المطبخ ودورة المياه لعدة دقائق ثم توقفت. وقالت أمل في يومياتها ذلك اليوم «ذهبنا بحثا عن المياه وكانت كل الصنابير جافة. ذهبت أمي لخبز بعض الخبر في الساعة 3.30 وقالت «يا رب حتى المياه مقطوعة».

وكان انقطاع الكهرباء يعني بداية فصل جديد في الحرب التي كانت قصيرة، على الاقل بالنسبة للعراقيين، الذين توقعوا (وخشوا) الكثير من صدام حسين. والآن أصبح هناك أكثر من مجرد القصف. ففي الأسبوع الأخير للغزو، حاصر جيش أجنبي بغداد لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. وحاولت أسرة أمل متابعة تقدم الحرب عبر الصوت والمشاهد والكلمات العابرة في الإذاعة، التي كانت كلها مبهمة. وكان الجيران يقفون على عتبات شققهم يتكهنون، لأي شخص يود الاستماع لهم، عن مدى تقدم القوات الأميركية ـ المطار، معسكر الرشيد، حي الكرادة الذي يعيشون فيه. وتكهن ابو سيف، وهو واحد من الجيران، بأن الجنود سيبدأون في الهبوط بالمظلات في المدينة التي يخيم عليها الظلام.

وكتبت أمل في مذكراتها «لماذا؟ ما هو ذنب الجنود الذين قتلوا؟ ما ذنب اسر الضحايا، أو أمهاتهم، الذين يبكون على أبنائهم؟ لماذا وقعت هذه الحرب؟» ومع تقدم القوات الاميركية عبر جنوب بغداد واقترابهم من مشارف بغداد، اصبحت الانفجارات اقوى. واقترح جار ان الانفجارات ذات الدوي الضخم هي قنابل عنقودية. وكتب أمل «لم نعرف ما يعنيه ذلك. ارحمنا يا رب».

وفي 5 ابريل (نيسان)، اقتحم الاميركيون دفاعات بغداد للمرة الاولى. وكانت القافلة الاستكشافية لـ 30 دبابة من طراز ابرامز وسيارات برالي المقاتلة قصيرة ولكنها مدمرة. وظلت النيران والادخنة تتصاعد بعد فترة طويلة من الهجمات: دبابات عراقية محترقة وناقلات جنود عراقية ملقاة عبر الطريق.

وبالنسبة لأمل، اتخذت المدينة التي واجهت حربا جوية الي عاصمة مستعدة لمعركة. وتضاعف عدد افراد مليشيات حزب البعث بصورة كبيرة، وزاد على عدد السكان في الشوارع. وتجمع اعضاء منظمة فدائيي صدام وهي مليشيا ذات تدريب غير جيد ولكنها متحمسة للغاية تحت الجسور واختلطت بالجنود تحت النخيل.

وكانت الأيام الأخيرة اكثرها دموية في بغداد، بعدما بدأت القوات الأميركية في التقدم نحو ضواحي المدينة. وحركوا قوة ضخمة. وازدحمت المستشفيات بالجرحى، وامتلأت غرف الطوارئ بالذباب والروائح الكريهة للدماء والقاذورات والمواد المطهرة.

وكتبت أمل «سمعنا أصوات تبادل إطلاق النار، قريبة للغاية من المبنى. حضرت ام محمد وقالت ان الاميركيين يهبطون في بغداد».

وبحلول 7 ابريل (نيسان)، وبعد يومين من اول غارة اميركية على العاصمة، اندفعت القوات الأميركية الى قلب المدينة، وسيطرت على القصر الجمهوري. ولم تنته المعركة بعد، ولكن الشوارع التي سادها بسرعة مناخ عسكري، فقدت الروح القتالية. وبدأ الخوف الذي فرض الالتزام في التلاشى مع اقترب نهاية الحكومة. كانت هناك مشاهد متفرقة على استمرار البيروقراطية، أكثرها لفتا للانتباه الباصات العممومية الحمراء التي كانت مستمرة في العمل. ولكن الأمر الأكثر اهمية هو مدينة تتحطم. فقد اصبحت المواقع المحصنة بأكياس الرمل المتناثرة في انحاء المدينة مهجورة، لم يبق الا الشعار المكتوب عليها وهو «الموت عبر الشهادة». وفي دولة بوليسية تتفكك لم يعد احد يشاهد رجال الشرطة. وكانت علامات الطرق السريعة التي تشير الى الموصل، حيث يخدم علي، محطمة. وحتى قبل انهيارها كانت بغداد تبدو وكأنها مدينة تم غزوها.

وفي مسكن أمل، أدت المعارك الى مزيد من التشوش. فلم يعد احد يعرف الوضع الدقيق في المدينة. واستمعت الأسرة الى هيئة الإذاعة البريطانية، التي أشارت الى سقوط القصر الجمهوري في يد القوات الاميركية. ثم استمعوا الى الاذاعة العراقية، التي طالب المذيع الانضمام الى اقرب وحدة عسكرية: «ثوروا ضد الظلم والطغيان. اسحبوا سيوف الحق في مواجهة الكذب». وسألت أمل «ماذا سيحدث الآن؟ لا نعرف».

وازدحمت الساعات التالية بمشاهد لم تواجهها من قبل: فقد ذكر لهم أبو سيف مشاهدته لجثث محترقة على الجسر. وسمعت أمل صوت دبابة اميركية بالقرب منزلها. وشاهدت شقيقتها طائرة هليكوبتر اميركية. وفي ليلة 8 ابريل كانت كتاباتها قصيرة وسريعة. وكانت الطائرات تعبر فوق رأسها وهزت الانفجارات العمارة السكنية التي تعيش بها وكان يمكنها سماع اصوات طلقات النيران في الشارع. ومع اقتراب منتصف الليل، انفتحت ابواب السماء وتساقط المطر لفترة قصيرة. ولكنه غسلت بغداد.

وفي اليوم التالي، وكان مشمساً، استيقظت أمل على صوت الأخبار من راديو الجيران. كان الخبر أقصر من أي خبر آخر. وكتبت «وأخيرا سقطت بغداد في يد الأميركيين».

خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»

زوربا
09-06-2005, 04:57 PM
عندما بدأت أمل تغير أفكارها وتكتب بطريقة انتقادية عن صدام والغزو

مذكرات فتاة عراقية عمرها 14 عاما تروي فيها معاناة أسرتها قبل الحرب وبعدها (2)

بغداد: انتوني شديد *


في 10 ابريل (نيسان) 2003، بعد يوم من سقوط الرئيس صدام حسين، سقط القناع ولكن لا أحد يعرف ما خلفه.

وأصبحت بغداد، التي تعرضت للغزو 15 مرة في تاريخها، حرة. ولكن المدينة كانت تواجه عاصفة. مشاعر متضاربة تجمعت معاً: عواطف وحماسة وانتقام ويأس، بعد سنوات من الصمت والقيود. وبدأ مدنيون مسلحون في كسر احتكار العنف الذي كانت تسيطر عليه حكومة صدام حسين والقوات الأميركية التي تحتل العراق الآن. فقد أسرع آلاف من السكان لسرقة كل شيء من الشاحنات الى الأنابيب النحاسية والاسلاك الكهربائية في المباني العامة. وتعرضت المستشفيات والسفارات هي الاخرى لعمليات النهب بالاضافة الى الوزارات ومقار حزب البحث.

وتتساءل امل في يومياتها بتاريخ 11 ابريل «المستشفيات تتعرض لاعمال النهب ولا احد يحتج. لماذا تقف دبابة لحراسة مستشفى سانت رفائيل؟ هل لانه مستشفى مسيحي؟ ماذا عن مستشفى العلوية للولادة؟ وماذا يحدث للحوامل هناك؟ ما الذي حدث للعراقيين؟ ألم يكن كافيا نهب مكاتب الحكومة؟ والآن المستشفيات والمساكن الخاصة؟» أسئلة كانت تتردد في بغداد تلك الايام. وتنهي يومياتها لهذا اليوم بقولها «ماذا سيفعل الاميركيون بنا؟ ارحمنا يا رب».

وواجهت امل واخواتها وامها مدينة تنهار مع تدهور احوال المعيشة. ولم يسمح الآباء لبناتهم بالسير وحدهن في الشوارع. وقضى أفراد اسرة امل معظم الوقت في شقتهم، في حجرة معيشة مزدحمة. وفي بعض الاحيان كان التيار الكهربائي يعود، ولكنه كان متقطعا لا يكفي مع ارتفاع الحرارة. ولم تكن الهواتف تعمل بعد ان حطم القصف شبكاتها. وارتفعت الاسعار، وكان النقص في المواد التموينية في كل مكان. وفقد عشرات الالوف من الناس وظائفهم بين ليلة وضحاها مع انهيار البيروقراطية.

وكان الموقف السائد في بغداد تلك الايام، وهو احساس أمل وأسرتها، هو ادانة الاحتلال منذ البداية. لقد ابدى العديد من الناس في بغداد اعجابا شديدا بالتفوق التكنولوجي الاميركي خلال الحرب، ولاسيما خلال الايام الاولى للنزاع. فقد كان الهجوم الاميركي مدمرا كما كان دقيقا. لقد حكم صدام حسين البلاد لمدة 35 سنة وأسقطه الاميركيون في اقل من ثلاثة اسابيع، وقُتِلَ عددٌ بسيطٌ نسبي من جنودهم. كيف يمكن ان يكون نفس الاميركيين بهذا الضعف فيما بعد؟

وكتبت امل «اين هي المساعدات التي تحدث عنها بوش؟ لا أحد يعرف».

وكانت امل في تلك الايام بعيدة عن الجنود الاميركيين الذين يتجولون في الشوارع وكانت تنظر اليهم من شرفة بيتها، بل وكانت تلوح لهم، ولكنها لم تتحدث. بينما كانت شقيقاتها التوأم دعوة وهبة اكثر جرأة. ففي يوم سبت من اول شهر للاحتلال، كانت دبابة تقف في الشارع، وذهبت الفتاتان لتحية الجنود، الذين قدموا لهما شكولاته. وبعد عدة دقائق ترددت اصوات انفجارات.

وكتبت امل «حاولت هبة معرفة ماذا يحدث. فقال لها الجندي اذهبي اذهبي ولكنها لم تفهم اللغة الانجليزية. وحماية لها حملها الى بيتنا. كانوا لطفاء. ولكن بوش الخطير خدعهم».

قبول الواقع

* وبدأت كتابات امل تتغير تغييرا بسيطا في تلك الايام المضطربة. فخلال الحرب كانت تتحدث تحت تأثير الدعاية الحكومية بمنطق الشخصية الموالية. وتنافست امل الفتاة الناضجة عقليا في هذه السن المبكرة، واذكى بنات كريمة سلمان والعضو المتحمس في جماعة حزب البعث في مدرستها، مع شقيقتها في الولاء لصدام حسين. فبعد اسبوع من سقوط صدام وفي الوقت الذي كان فيه الشيعة يحتفلون بسقوطه، كانت امل لا تزال متمسكة بافكارها. فصدام حسين هو الشخصية السياسية الوحيدة التي تعرفها. وقالت وهي تجلس مع افراد اسرتها «حتى الآن لا زلنا نصفه بفخامة الرئيس».

غير ان امل كانت تشعر في قرارة نفسها بالاضطراب، وعبرت عن ذلك في يومياتها. لقد انتهت الحرب التي كرهتها وبدأت ثورة لم تفهمها. فقد حاولت المواءمة بين خبراتها والواقع.

فقد كتبت في يومياتها بتاريخ 11 ابريل «كنا نثق بالرئيس صدام حسين. والآن لا نعرف بمن نثق».

ويخيم صدام حسين بظله على العراق، وسيستمر في ذلك لشهور بل لسنوات قادمة. وفور سقوطه تقريبا بدأ الكشف عن القبور الجماعية لهؤلاء الذين أعدمهم، وكان الضحايا بعشرات الالوف، ربما مئات الالوف. وبعد ايام من سقوط صدام انتشرت في الاسواق والمساجد صور الرجال المفقودين او الذين تم اعدامهم واصبحوا الآن شهداء. الا ان عملية ازالة الهالة المحيطة بأسطورة صدام حسين كانت بطيئة للغاية. فقد كان اسمه يتردد همسا، من يعرف ما اذا كان الخطر لا يزال قائما، وما اذا كان هناك من يتصنت، وينتظر؟ وعبرت امل عن ذلك بقولها في يومياتها بتاريخ 16 ابريل «لا احد يعرف اين صدام حسين، ولا متى سيظهر مع جيشه. يقولون ان صدام حسين في بغداد مع جيش ضخم، اعد للمعركة النهائية بين العراق واميركا. لا احد يعرف ما اذا كان ذلك صحيحا ام لا. اشاعات تتردد، صادقة ام لا».

وتكشفت الاسرار واستوعبت أمل رعب الحكومة التي كانت تعتبرها في يوم من الايام لا تسقط. فبعد اسابيع من سقوط صدام حسين، شاهدت بعض اشرطة الفيديو ـ ثمنها 50 سنتا اميركيا ـ التي انتشرت في الاسواق التي تحمل صور القصور الفاخرة التي بناها صدام حسين ـ «كلها بالذهب والفضة» ـ وقتل خمسة آلاف كردي بالغازات عام 1988 شمال العراق في حلبجة. وخطف عدي حسين للنساء.

وقالت أمل في يومياتها بعد مشاهدة اشرطة الفيديو على مدى يومين، لم يوقفها الا انقطاع التيار الكهربائي. «ابن صدام الاكبر، عدي، هو أكبر فاسد على وجه الأرض، أي فتاة يعجب بها يأخذها. لا يمكن لأحد ان يقول أي شيء لانه ابن الرئيس صدام حسين. أما ابنه الاخر قصي، فوحش مثل ابيه وشقيقه».

انهيار مستمر

* لم يكن الغزو الاميركي يحمل اسما حقيقيا. فقد اطلقت عليه ادارة بوش اسم عملية حرية العراق. واطلق صدام على المعركة اسم «معركة الحواسم».

ولكن مثل العديد في العراق، اطلقت عليها امل واسرته ببساطة عبارة «السقوط»، وهو اسم له مغزى اكثر من الاسماء الاخرى. فقد كان نهاية حكم استمر 35 سنة، وفي نفس الوقت يعني بداية اخرى. وفي عامي 2003 و 2004 استمرت معركة الحواسم. وبالنسبة للعراقيين كان السقوط يعني نهاية بلا تجديد، حالة مؤقتة ولكنها مستمرة. كانت حياة مفروضة وليست اختيارية.

وكتبت امل صيف 2003 «الكل يسأل عن المستقبل، عن مستقبل العراق. والبعض يسأل اين المستقبل، والبعض الآخر يقول لم يعد للعراق مستقبل».

ولم تخل يوميات امل من التشوش. فقد قالت عندما عادت الكهرباء لبعض الوقت «الله اكبر شكرا لله. سادت الفرحة في المبنى بأكمله، وقال الناس لبعضهم «عادت الكهرباء شكرا لله. ونمنا تغمرنا السعادة».

ثم وبعد عدة صفحات: «نجلس الان ننتظر عودة التيار الكهربائي. ما الذي حدث للوعود».

أما بالنسبة للمياه فقد ظلت مقطوعة لعدة أشهر، ولذا كان الاولاد يتناوبون على نقل المياه في أسطل من صنبور عمومي. ولأيام لم يكن لدى الاسرة كيروسين للطهو. وفي الايام التي توفر فيها، كان يباع بسعر يزيد 20 مرة على ثمنه قبل الحرب. وارتفعت اسعار المواد الغذائية: اشتكت كريمة من ان اسعار الخيار زادت ثلاث مرات منذ نهاية الحرب والطماطم تضاعفت. وتمكنت الاسرة من مواجهة الجوع، عن طريق التموين الذي كان لا يزال يوزع على كل اسرة. وكان تأثير ضغوط الحياة واضحا على كريمة، وهي أرملة في السادسة والثلاثين من عمرها. وقد نجا علي ابنها الاكبر من الحرب وفر قبل نهاية النزاع وعاد الى بغداد. ولكنه كان بلا عمل. وكانت كريمة تبحث عن عمل في فنادق المدينة الكبرى، ولكنها لم تكن تتحدث الانجليزية.

ومع تدهور احوال الاسرة، ذهبت كريمة الى اسرة شقيقة زوجها الراحل في شارع ابو نواس. وكانت في حاجة الى مساعدة مالية لدفع الايجار وشراء الطعام. وبعد مشاجرة وتعرضها للإهانة حاولوا اقناع الجنود الاميركيين الذين يقفون في نهاية الشارع بالقبض عليها، ولكن المترجم الذي كان مع القوات كان من جيران كريمة ووقف الى جانبها.

وسألت امل في يومياتها «لماذا فعلت عمتي ذلك؟ هي عمتي ونحن مثل اولادها. ولكن الوقت تغير. لم تعد الحياة رحيمة بأي شخص».

ما الذي يمكننا فعله؟

* يلاحظ في كتابات أمل ان الحرية تأخذ مفهوما شخصيا. وكان عقلها يتفتح، يمر ذكاؤها الخاص بتجارب نابعة من اعتباراتها لوطنها. وكانت حكمة امل هي أهدأ الانتصارات في الشهور الطويلة التي أعقبت سقوط صدام.

وفي مجتمع يربط الحكمة بالسن، بدأت هذه الفتاة في التفكير بطريقة انتقادية، اولا بخصوص صدام حسين ثم بخصوص الغزو. وبالرغم من ان كتاباتها اصبحت اقل انتظاما، فإنها اصبحت اكثر وضوحا، وعباراتها اطول وأكثر تعقيدا. واكتسبت ثقة بافكارها وهي تراقب الحياة حولها. «يتحدثون عن الديمقراطية، ولكن اين هي؟ هل تعني موت الناس من الجوع او الحرمان او الخوف. هل هذه هي الديمقراطية؟».

وعلى الأميركيين تحمل مسؤولية او في الاقل المشاركة في مسؤولية، زيادة تطلعات الناس. ربما لا يتذكر العراقيون اليوم ولا الشخص ولكنهم يتذكرون تعهد الرئيس بوش في 6 مارس (آذار) 2003 «ستتحسن حياة العراقيين تحسنا كبيرا».

وختمت أمل «رجاء قولوا لنا، متى سنعيش حياة آمنة ومستقرة؟ اسمعونا ايها الناس الذين تعيشون هناك، لقد بكينا وصرخنا. ما الذي يمكن فعله أكثر من ذلك».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»

زوربا
09-07-2005, 09:09 AM
الحرب وصلت الكرادة بعد عامين من انتهائها: لا نسمع سوى أنباء الموت والذبح ولا أحد يدري لماذا ؟

مذكرات فتاة عمرها 14 عاما تروي فيها معاناة أسرتها قبل وبعد الحرب (3)

بغداد: أنتوني شديد


وصلت الحرب يوم 23 يونيو(حزيران) 2005 بعد عامين من انتهائها إلى المنطقة التجارية المزدحمة التي تعيش فيها أمل وأسرتها ببغداد: الكرادة. وتبلغ أمل الآن السادسة عشرة من عمرها.

لأشهر خلت لم يمر يوم تقريبا بدون انفجار سيارة مفخخة في مكان من العراق; والانفجار الذي وقع عند السابعة صباحا في الكرادة أصبح أمرا مألوفا. مزيج من حطام محترق تمتزج رائحته المنبعثة بين مواد معدنية مع لحم بشري. ثم يحول الماء الذي يرمى فوق النيران المشهد إلى بقعة سوداء ممزوجة ببرك من الدم. وتتقافز قطع الزجاج المتشظي فوق الإسفلت المخلوع عن الشارع.

ما خلفه الانفجار وراءه كان عبارة عن خرائب لمسجد عبد الرسول علي; وهو دار للعبادة في تلك المنطقة. وفي أوقات معينة كانت أمل وأمها وأخواتها يجتمعن هناك للاحتفال بالعطل الدينية للمسلمين الشيعة.

كتبت أمل في دفتر يومياتها «استيقظت مرعوبة على ذلك الانفجار القوي، حيث راح قلبي يدق بعنف، خوفا من أن يكون شخص قد قتل أو جرح».

ومع أخواتها وأمها تسلقت إلى شرفة شقتهن. والشيء المفاجئ لهن كان قدوم رجال الشرطة بسرعة، حيث راحوا يحاولون توجيه العابرين الواقعين تحت أثر الصدمة. ومن الطابق الثالث سمعت أمل أصوات غاضبة وأحيانا كانت هناك صرخات التعبير عن العجز.

وبعد دقائق، انفجرت سيارة أخرى، وأخرى، وهذا التكتيك أصبح مألوفا هذه الأيام، وكلها كانت على شارعها أثناء مراقبة أمل له، ومع حدوث الانفجار الرابع والأخير خلفت تلك السلسلة من الهجمات 17 مدنيا وجرحت الكثيرين.

كتبت أمل «للحظة ظننت أنني مت. ثم أدركت أنني لم أمت، لكنني كنت خائفة جدا. وخلال لحظة احترقت سيارة شرطة وقتل كل من كان في داخلها حرقا. ومات شخص من المنطقة، لم يمض عليه سوى وقت قصير منذ إعلان خطوبته، مع رجل مسن طيب القلب اسمه أبو كرار، وكذلك قتل خليل الكردي الذي يمتلك محلا في مراكز تسوق صغيرة هنا».

وكتبت أمل معلقة «إنها كارثة حقيقية لن أنساها أبدا طيلة حياتي. الدمار الكامل ليس لما حدث لحي الكرادة، بل لما لحق في داخلي ولما حصل لأسرتي وبين جيراننا. أنا أشعر بألم حقيقي من هذا المشهد الذي أتمنى ألا يشاهده أي شخص مرة أخرى».

يقول سكان بغداد أحيانا إن مدينتهم لا تعرف الوضع الطبيعي. إنها مدينة منبوذة حسب تعبير كريمة أم أمل تتصلب فقط بقوة التحمل والتكيف، صفتها الأساسية هذه الأيام. ومع هبوب العاصفة الترابية على بغداد خلال يوم صيفي قائظ، حيث راحت تساعد أختها هبة التي جرحت يدها بتأثير من حطام متطاير. في الوقت نفسه تبادلت الأقاصيص مع الجيران لمعرفة من بقي حيا ومن مات. وراقبت رجال الشرطة يزيلون ما في الشوارع من حطام ثم شاهدت الاميركيين يأتون. وجاءت شاحنة عسكرية محملة بزجاجات من الماء; واصطف الناس لتسلمها. كتبت أمل «إنه مشهد عسير علي وصفه فكأنما العراقيون شحاذون يقفون في الطابور بطريقة مذلة. وخلال توزيع زجاجات الماء أعطت جندية اميركية الكاميرا لمترجم وطلبت منه أن يأخذ صورا».

مع حلول الليل كان الموتى قد دفنوا. كتبت أمل «كان النساء يبكين. والكثير من النساء كن في حالة حزن شديد وعلى وجوههن الحيرة والوجوم وكن غير قادرات على فهم لمَ يجب أن يموت الكثير من الناس».

التكيف مع مصاعب العيش بلغت أمل السادسة عشرة من عمرها يوم 23 مارس (آذار) وما زال شعرها مسحوبا بضفيرة إلى الوراء. لكنها تبدو أكبر سنا، بعد عبورها إلى سن الرشد من فترة مراهقة قصيرة.

كذلك هو الحال مع أختها تحمل تقاطيعها آثار سنين من مصاعب العيش. أما الأختان التوأمان هبة ودعاء فهما الآن في سن الرابعة عشرة وتضع هبة حجابا فوق رأسها بينما أختها تجدل شعرها بضفيرة.

الأخت الكبرى فاطمة التي هي الآن في الثامنة عشرة من عمرها تركت المدرسة كي تساعد كريمة; الأرملة في تربية أطفالها. ومنذ ذلك الوقت تضاءلت قدرتها على القراءة مثلما هو الحال مع ثقتها بنفسها.

أما زينب الأكثر هدوءا والأجمل ما بين البنات فإنها تزوجت في الربيع الماضي في سن السابعة عشرة. وزوجها علي كان ضابط شرطة ويحصل على راتب قدره 300 دولار في الشهر، لكنه تسلم رسالة وصلت إلى الكثير من زملائه تحذره من القتل على يد المتمردين المجهولين. وكتبت أمل «قالوا له إما أن تترك الخدمة أو نقتل زوجتك»، وهذا ما دفعه إلى ترك عمله.

قبل عام واحد تمكنت كريمة أخيرا من العثور على عمل في فندق بالم، الذي سمي منذ ذلك الوقت بالروابي. وتقوم بتنظيف 8 حجرات ابتداء من الساعة الثامنة صباحا وحتى الواحدة والنصف بعد الظهر. ومع أخذ وكالة التشغيل ثلث راتبها يبقى لها 33 دولار في الشهر.

أما علي، 22 سنة، الابن الأكبر لكريمة والذي كان جنديا، فضمن له عملا أيضا. إذ أنه يعمل الشاي في مكتب عقارات وهو يعمل من الساعة التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء. ويكسب ما يقرب من دولار في اليوم. أما محمد، 20 سنة، فهو بدون عمل منذ فترة طويلة. وهو يمضي معظم وقته يذرع الشوارع بل حتى أسرته تشك بأنه يقوم بشيء غير شرعي. ومحمود، 11 سنة، يبيع مشروبات غازية في الشارع خلال الصيف. وهو في أحسن الأحوال لا يحصل على أكثر من دولارين في اليوم، وفي هذا السن أعطته تجربته في الشارع نضجا مبكرا.

باستثناء محمد فإن تجاربهم جعلتهم أقرب من بعضهم البعض، ومع انهيار مدينتهم، فإنهم راحوا يتطلعون إلى دواخلهم أكثر فأكثر وكأن عزلتهم هي مصدر قوتهم.

الكلمات والعبارات التي ظهرت في ذلك الصيف في مختلف انحاء بغداد كانت في واقع الأمر مثيرة للارتباك. ففي اللافتات الكبيرة بجانب الطرق السريعة، التي تظهر على جنباتها أكوام النفايات، للإعلان التجاري لهواتف «آسيا سيل» المحمولة تقرأ عبارات مثل «الآن يمكن سماع صوتك»، فيما تظهر على لوحة إعلانية اخرى بصمة، وهي رمز لانتخابات يناير الماضي، التي طلب من كل ناخب خلالها غمس سبابته في مادة صابغة لتأكيد المشاركة في الاقتراع. هذه اللوحات الإعلانية واللافتات غطاها الآن الغبار وتمزق بعضها الآخر. وتظهر على جدران بعض المنازل في مدينة الصدر عبارات مثل: «ايها الخونة، لا نريد انتخابات، نريد كهرباء»، وفي الحي الذي تسكن فيه أمل لفت انتباهي وجود ملصق عليه عبارة لا تخلو من غموض: «اليوم مثل الأمس».

كتبت أمل في 4 يوليو: «كان اليوم هادئا، ولم يتحدث أحد سوى عن الكهرباء، التي لا تأتي سوى لفترات قصيرة فقط. الماء ليس متوفرا لأن الارهابيين يستهدفون محطات الضخ كل يوم. الأغنياء يستطيعون العيش خارج العراق بارتياح، فيما الفقراء الذين لا يستطيعون يواجهون المعاناة».وكما كان عليه الحال خلال فترة الحرب، لا تزال أمل وشقيقاتها يردن الماء بالسطل من حنفية في باحة البناية ويصعدن بالماء طابقين الى الشقة. كانت الاسرة تتلقى خلال الصيف الماضي التيار الكهربائي على مدى 12 ساعة يوميا، اذ كانت المنازل تزود بالتيار الكهربائي لمدة ساعتين ويقطع ساعتين. وبالمقارنة وصلت جملة الساعات التي زودت خلالها المنازل بالتيار الكهربائي في اسبوع كامل ساعتين فقط، فيما لم تتعد فترة إمداد المنازل بالتيار الكهربائي ساعة واحدة في اليوم خلال شهر يوليو وساعتين خلال شهر اغسطس(آب).

كانت الاسرة جالسة في نهار قائظ عندما اعيد التيار الكهربائي ليهللوا جميعا، إلا ان تلك الفرحة لم تدم سوى عشر دقائق فقط لينقطع التيار مجددا وتسأل كريمة وهي تهز رأسها: «هل ما نراه حقيقة؟» وفي احدى الغرف كانت زينب الزائرة تجمع الأغطية من على ارضية الغرفة، حيث كن ينمن بنات كريمة الخمس. وأتت أمل بالشاي من المطبخ ومعه بيضة واحدة مقلية تشاركها الجميع مع خبر الصمون العراقي.

تحول حديثهم في ذلك الصباح الى المال ثم الى افتقارهم الى المال. اشترى الجيران مولدا كهربائيا صغيرا، إلا ان الاشتراك فيه للاسرة يصل الى ما يعادل عشرة دولارات في الشهر، بالإضافة الى ما يعادل دولارا ونصف الدولار يوميا للوقود، وتعتبر هذه المبالغ كبيرة في ظل المستوى المعيشي الحالي. أتلف انفجار الكرادة أعصاب يدها اليمنى ولم تعد قادرة على الإمساك بالقلم، وتكلف مقابلة الطبيب ما يعادل خمسة دولارات، بالإضافة الى دولارين في اليوم للعلاج الطبيعي. ميزانية الاسرة لا تسمح بهذا القدر من التكلفة للعلاج ولو توفرت التكلفة فربما تخصص لإرسال شقيقاتها الصغريات الى المدرسة.

شأنها شأن كثير غيرها في العراق على مدى حوالي ثلاث سنوات، تعاني اسرة أمل من الانغلاق في دائرة لحظات من التفاؤل تعقبها شهور من الوحشية والاكتئاب. ثمة نقاط تحول، مثل سقوط نظام صدام حسين والانتهاء الرسمي للاحتلال الاميركي، إلا ان العراقيين كثيرا ما ينظرون اليها بالترقب والأمل. وفي واقع الأمر، فإن خيبة الأمل هي التي تأتي. واحدة من نقاط التحول هذه انتخابات يناير الماضي عندما تحدت كريمة وعلي ومحمد وفاطمة تهديدات المتمردين وتوجهوا الى صناديق الاقتراع فرحين.

تقول كريمة، وهي تتناول الإفطار مع أمل واخواتها، انها تشعر بالندم لإدلائها بصوتها في تلك الانتخابات، وتقول معلقة: «ماذا انتخبنا؟ لا شيء».

وتقول فاطمة في نفس السياق: «اذا اقترعنا او لم نقترع، فإن الوضع هو نفسه. اذا اراد الاميركيون ان يفعلوا شيئا، فبوسعهم ان يفعلوه». أومأت كريمة من جانبها موافقة على ما قالته فاطمة، ولعلها تريد ان تقول ان «ليس هناك ما يمكن قوله اكثر من ذلك»، فمدينتها مهجورة ومهملة. اشعر بالأسف تجاه بغداد.... هكذا قالت كريمة.

قالت كريمة خلال أسوأ ايام الغزو عندما كانت أمل وشقيقاتها يجلسن حولها انها تشعر وكأنهم «جزء من لعبة»، الحياة، كما قالت، «ليست جيدة وليست سيئة، إنها لعبة».

تتخذ هذه الكلمات، والعراق يدخل عاما ثالثا من الحرب، معنى جديدا، ذلك ان النص كتب فيما يبدو مسبقا ويجلس اشخاص مثل كريمة كجمهور يشاهد العرض. فالعنف ظل يشكل حياتهم، كما ان استمرار العنف بات يولد عدم الثقة والخوف تماما كما كان عليه الحال ايام قمع صدام حسين.

كتبت أمل في 5 يوليو (تموز): «جاء شقيقي محمود عندما كنت اجلس في الطابق الاسفل وقال لي ان الشارع قد اغلق. عندما سألته عن السبب، رد قائلا ان السلطات ألقت القبض على ارهابيين. ولكن ما حدث في الواقع هو ان الشرطة عثرت على حقيبة اشتبهوا انها قنبلة، وكان بداخل الحقيبة فتاة عمرها 16 عاما مقطوعة الرأس وعارية بعد ان اغتصبها مجهول قبل ان يقطع رأسها ويدخلها في الحقيبة ويلقيها في الشارع».

كتبت أمل انهم لا يسمعون في الأخبار اليومية سوى «أنباء الموت والذبح والقتل والاختطاف والنهب»، ولكن «لا احد يدري لماذا»، على حد تعبيرها.

يبدو الشارع الذي يقع فيه منزل أمل عاديا خلال بعض فترات الصيف، فأرتال السيارات تقف في طابور طويل في انتظار دورها للتزود بالوقود، كما ان الاسواق تعج بالبضائع المعروضة على الطاولات الخشبية من جوارب مستوردة من الصين وفانلات من سورية ولعب أطفال، وحتى شخصيات أفلام وألعاب الأطفال العالمية.

اما داخل شقة الاسرة، فإن الاضطرابات والفوضى اليومية تلقي بظلالها على كل شيء، فعلى الرغم من مرور أسابيع على انفجار الكرادة، لا تزال أمل وشقيقاتها وأشقاؤها يتذكرون بالتفاصيل الدقيقة مشاهد الحادثة. ويقول محمود، ابن الـ11 ربيعا بلهجة يغلب عليها الاحباط، ان «الميت اصبح رخيصا». يتذكر محمود شظية مشتعلة اصابت خمسة اشخاص، كما يتذكر ايضا «ابو كرار، الذي كان يمشي متعثرا وقميصه ملطخ بالدم قبل ان يخر ميتا». لم ينس محمود ايضا منظر عظم ساق عباس الربيعي وهو يخترق بنطاله عقب الانفجار واليد الممزقة لواحد من جيرانهم في الحي. شاهد محمود ايضا محرك سيارة فوق احدى الجثث. ويقول محمود ان الأخيار فقط هم الذين يطالهم القتل.

اوردت أمل في يومياتها ان الشرطة داهمت بعض الشقق بحثا عن مشتبه فيهم، فيما كانت هي وشقيقاتها يشاهدن في صمت. ألقت الشرطة القبض على شخصين قال الجيران انهما بريئان، تقول أمل، حسبما ورد في يومياتها، انهما عاملان في مصنع لإنتاج الصابون.

كتبت أمل: «الله وحده يعلم من يقول الحقيقة ومن لا يقولها هذه الأيام. ليس هناك شخص يثق في الآخر، سواء كانت الشرطة او الحرس الوطني او حتى الأهل».

*خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)