المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قضايا الأصولية والإصلاح



زوربا
06-27-2005, 12:15 AM
رضوان السيّد


الأخبار عن إصابة الزرقاوي دفعتني لمراجعة المعلومات عنه، وبياناته هو، خلال السنتين الماضيتين. والبيانات المفزعة، والأخبار المفزعة، قادتني من جديد لمطالعة أدبيات القاعدة، واستعراضات اسامة بن لادن والظواهري، وإعلانات الانتحاريين، والسلفيين الجهاديين في المغرب والسعودية واندونيسيا.. وصولاً الى الشيشان. إن المعروف ان الدين، والأديان الابراهيمية بالذات، نص وتقليد.

والتقليد يشمل مناهج قراءة النصوص، ووضعها في سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وآليات تنزيلها على الوقائع. كما انه يشمل أعراف الجماعة الدينية، وطرائقها في فهم دينها، والتعامل مع نصوصه بأبعادها الرمزية والاخلاقية. ويشمل اخيراً الحواريات والتجاذبات بين العلماء والجمهور حول النصوص وتأويلاتها ووظائفها في مديات عصور متطاولة، يبرز فيها نموذج السلف واتباعية الخلف، ومساعي الجمهور بينهما لسد الثغرات، والوصول الى توازنات ومصالحات وتقويمات تحفظ للنص اعتباره، وتجدد شرعية التقليد والجماعة.

وما فعلته الاحيائية الاسلامية انها تصدت عبر عقود متطاولة للفصل بين النص والتقليد، باعتبار ان ذلك يعيد للنص قدسيته، ويزيل عنه اوضار التقاليد وتدنيساتها. ولذلك ما ان جاءت سبعينات القرى العشرين حتى صار من الممكن النظر الى النص في صورته التجريدية منزّهاً عن اسباب النزول، وعن تقاليد السلف والخلف، وعن آليات العموم والخصوص، والمطلق والمقيّد. بيد ان الاهم من ذلك كله التطور الآخر الذي حدث بالتساوق مع عمليات التجريد للقرآن والسنّة:

التطور الآخر تمثل في إخراج النص عن احتضان «الجماعة» ومرجعيتها، ولو عبر علمائها المجتهدين. فقد صارت النصوص المقدسة، وصارت الشرائع بمثابة قوانين مفروضة او منزلة لا علاقة للبشر فيها إلا وجوب تطبيقها كما هي. وهذا يعني كما صرّح بذلك الأصوليون المتشددون ان الاسلام خرج عن الدولة وعن المجتمع، وان لا بد من فرضه عليهما من جديد. بل هذا يعني اكثر من ذلك، يعني سقوط الاطروحة الفقهية والاصولية القديمة التي تعتبر مصادر التشريع اربعة: القرآن والسنّة والإجماع والقياس. والقياس هو الاجتهاد الفردي، والإجماع هو الاجتهاد الجماعي اذا صح التعبير.

لِمن السلطة او المرجعية اذن؟ الظاهر ان السلطة للنص الالهي والنبوي. لكنهما صامتان، كما يقول الإمام عليّ وانما ينطق بهما الرجال. والرجال هؤلاء في نظر الاصولي المتشدد، انما هم الشبان الذين يحفظون تلك النصوص، ولا يرون بعد ذلك حاجة الى دراسات الآليات التقليدية للقراءة، باعتبار انهم يقولون بالاجتهاد، وباعتبار التقليد أمراً سيئاً ومنبوذاً، وهكذا يجتمع الى التجريد التفرد في القراءة، ورؤية الواقع بعيون حروف النص دون روحه، وارادة فرض القراءة الحروفية هذه على الواقع. ويكتسب ذلك النص الخالص عصمة مبسطة تتلاءم والذهنية غير التصالحية مع الدين او مع المجتمع او مع العالم.

وتغري تلك النضالية المتحمسين، والمنزعجين من سوء الواقع او ترديه. لكنها من جهة اخرى تضع سلطة النص في أيدي افراد سواء كانوا حكاماً او زعماء للفرق التي ظهرت على حواشي الجماعة الكبرى بل في مواجهتها. هذا هو الامر الاول في طرائق رؤية النصوص والتعامل معها لدى متشددي الاصولية السلفية وغير السلفية، وكل أصولية في ديانات النصوص المقدسة او الموحاة تنتهي الى ان تكون حروفية تضع النص والواقع في ازمة لا حل لها إلا بالغاء احدهما او تحطمه.

والذي يجري الآن بل منذ سنوات طويلة هو تآكل الاصولية وتحطمها مع تأثيرات ضارة على وعي الجماعة، وعلى قدرتها في التلاؤم مع المتغيرات مع بروز هذا «المثال» الديني الذي لا يمكن تعقله ولا السيطرة على مجرياته. أما الأمر الآخر الذي يشكل مدخلاً لوجوه هذا الوعي وممارساته فهو ان السياقات التي صنعت الوعي النصوصي او اقتضته هي إحساسات الخوف على الاسلام، وظهور «التغريب» الذي خشيت أجيال متتابعة من شبان المسلمين ان يؤدي الى زوال الدين. ولا علاقة قوية للواقع بهذا الوعي. فالاسلام ليس في خطر، والأزمات التي نعاني منها ليست دينية بل هي اقتصادية وسياسية. على ان هذا الوعي المغاير او المناضل ضد المتغيرات مضى قُدُماً في استعمال «التأصيل» دفعاً للثوابت ـ كما اعتقد – في وجه المتغيرات المتزاحمة. وهكذا تسلسلت ردود الافعال، وشكلت «مدارس» يزايد بعضها على بعض في طرائق وممارسات مواجهة الواقع استناداً الى اصطناع مثال او مثل على قدر اعتبارات سوء الواقع.

ان اخطر مظاهر ونتائج هذا التنامي الاصولي: الغاء الجماعة بالغاء مرجعيتها في الدين والدنيا. وقد شهدنا حكم طالبان، وحكم الترابي والبشير في السودان. وكلا الحكمين اعتبر انه يطبق الشريعة، ويثبت الهوية. لكن لأن الدين صار دين السلطان فقط، او انه ذريعة السيطرة المطلقة على الناس، فقد انتهى الى فقد الناس، وفقد المجتمع، وفي النهاية التنازل عن اساسيات الشريعة من اجل استمرار السلطة المجردة وحسب!

ومن هنا تبرز ضروريات الاصلاح، ليس لأن الاصولية مسيطرة. فهي ليست كذلك، بل لأن التقاليد والآليات المتعارف عليها حطمتها الاصولية، وضربتها الحداثة، وصادمتها الهيمنة الغربية. والمهم الآن حاضر المسلمين ومستقبلهم، الذي أثرت تلك المتناقضات سلباً على حفظ المصالح، وبالتالي حفظ الوعي المتماسك بالوجود، وبالقدرة على اخذ مصيرنا بأيدينا في الحاضر والمستقبل. فعندنا مشكلة مزدوجة: اعادة ايمان الجماعة بنفسها وبقدرتها الدينية والاخلاقية والانسانية على البقاء متماسكة في عواصف المتغيرات، والقدرة الاخرى على استيعاب هؤلاء الشبان، واعادة تأهيل انفسنا من اجل العمل لمستقبلنا. ولا ازال أعتقد ان مشكلتنا ليست دينية، وان اصلاح الشأن العام كفيل بحل اكثر القضايا التي يملك الشبان حساسية فائقة اتجاهها. على ان الاصلاح

الديني والنهوض الثقافي امران ضروريان. وإلا فكيف يستقيم فهمُنا لمشكلاتنا في ظل الرؤية السائدة حول علاقة التناقض بين الدين والدولة، وبين الاسلام والآخر. الاصلاح شأن كبير وكبير جداً، اذ هو اساس تغيير «رؤية العالم» في مجالنا الديني والثقافي. وأنا احسب ان مثائل ابن لادن والزرقاوي الى القضاء. بيد انه من دون قوام نظري آخر، ومع استمرار العدوانية الاميركية فإن احتمالات اللدائن الاخرى تظل قائمة.