المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صلاح الدين ومملكة السماء: انقلاب في صورتنا لدى الآخر .......خالص جلبى



مجاهدون
05-12-2005, 06:31 AM
خالص جلبى


في زيارتي الجديدة لمونتريال في كندا في مايو (أيار) 2005، كنت حريصا على رؤية فيلم صلاح الدين الجديد في أسبوعه الأول الذي أخرجه (رايدلي سكوت Regisseur Ridley Scott). وأتذكر من طفولتي رؤيتي لفيلم صلاح الدين الأيوبي، حين تبارينا أنا وجاري المسيحي (لبيب)، حول مقارنة البطلين، فقد تحمس زميلي المسيحي للصليبيين، وأنا تحيزت بالطبع لصلاح الدين.

ومما حفر في ذاكرة الطفولة عندي من تلك الأيام في القامشلي، تنافس صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد، فالثاني ضرب بسيفه عمودا من الحديد ففلقه إلى نصفين، أما صلاح الدين فقد طوح في الهواء بوشاح من حرير ثم ضربه بالسيف بنعومة فقصه قطعتين، فتعجب ريتشارد من ذلك؟.

وكان صديقي المسيحي يسعى جهده في البرهنة على أن جبروت ريتشارد يفوق خفة صلاح الدين. وفي الواقع، فإن نقلة أربعين سنة تفصل بين الفيلمين. وكنت في زيارتي لكندا حريصا على معرفة ما الذي تغير في النظرة الغربية تجاه الثقافة الإسلامية والعرب، وقد ظهر هذا واضحاًً في المقابلة التي أجرتها مجلة «المرآة» الألمانية في عددها 18/2005 ص 172، مع الممثلة (إيفا جرين) Eva Green، التي أخذت دور ملكة القدس (سيبيللا) Sybilla، مع زوجها (جاي فون لوسينيان)Guy von Lusignan، فقد سئلت عن تذمر بعض المسلمين النشطاء أن الفيلم يحمل صورة سلبية عن الثقافة الإسلامية؟ مع أن الفيلم الذي كلف 125 مليون دولار، عرض على لجنة خاصة في مكافحة العنصرية، وأستاذ في الإسلاميات من جامعة كاليفورنيا، وهذا تقدم نوعي في عرض الأفلام، وهو من نتائج العولمة، والاتصال الإلكتروني، فلم يعد يعرض العربي على أنه ذلك السفاح المتعطش للدم المجهول المتخلف، وكان جوابها: لعلهم لم يشاهدوا الفيلم، ولو رأوه لغيروا رأيهم، فهو يحمل كل الاحترام للثقافة الإسلامية، وصورة كريمة جداً للإنسان العربي، فضلاً عن هذا أن الفيلم يظهر بوضوح أن كل دين فيه طائفة من المتشددين، الذين يمثلون أنفسهم أكثر من الدين الذي ينتسبون إليه.

وفي القرآن يتأكد هذا القانون، أن البشر (ليسوا سواء)، وأن الدليل على صحة الكتاب (أو لم يكفهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل)، وأن قوم موسى ليسوا صنفاً واحداً (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). وهذا القانون من عدم التعميم الشخصي والتاريخي، قارب نجاة، فالأمم يتفاوت فيها الناس، وفي التاريخ تتغير الأمم، وأمراض أهل الكتاب لا تخص المسيحيين أو البوذيين لوحدهم، بل ينطبق على الجميع قانون (بل أنتم بشر ممن خلق) وقانون (قل فلِم يعذبكم بذنوبكم؟).وحين سئلت الممثلة إيفا جرين، أن الفيلم حافل بمناظر الحرب والقتل والدم؟، قالت «نعم، هذا حق»، لكن العنف الذي ظهر في الفيلم لم يقصد العنف لذاته، بل لإظهار أن العنف لا يخدم قضية، وأن الناس لم يستفيدوا من درس التاريخ شيئاً، ثم سخرت من رجال هوليوود المغرمين بمناظر العري والجنس، أنهم في فيلمهم الجديد لم يخرجوا فيلما مكررا للنسخ التي عندهم، بل كانوا أذكى هذه المرة، فحملوا الفيلم رسالة سياسية، وهذا أمر مهم.

وعن دور المرأة، ظهرت (سيبيللا)، بلباس المرأة العربية الفارسة وتتكلم اللهجة العربية. وفي القدس ظهرت المساجد بجانب الكنائس، وظهر اختلاط العرب بالصليبيين، وتأثر كل طرف بالآخر. ومما روى العقاد أن أكبر خطر كان من الحرب الصليبية ليس هجومهم ودحرهم بعد ذلك، بل النوم على الأمجاد، حتى استيقظ الشرق على صفعة نابليون تحت سفح الأهرام ومعركة أبو قير.

وأنا شخصيا كنت أفتش في زوايا الفيلم حتى أرى الجديد، لأنه يعطيني فكرة عن التطور التاريخي في علاقة الغربيين بالعرب، وهو الأمر الذي حكاه المخرج رايدلي سكوت: أن الحملات الصليبية التي خرجت بدعوى تحرير القدس من أيدي الكفار، كانت كذبا وبهتانا، وأن هذه الحملة ما زال صداها يرن عبر التاريخ، حتى تخرج كلمات ينطقها بوش في حربه على الإرهاب.

وفي الواقع فليس هناك من حرب أطول ولا أحفل بالضحايا والدماء مثل الحروب الصليبية، التي انفجرت بين أوروبا والشرق الأوسط، ونكب بها الطرفان، بل وحتى القسطنطينية والأطفال. ففي إحدى الحملات سخروا الأطفال، فمات وخطف واستعبد معظمهم قبل أن يصلوا الأرض المقدسة، بعد أن غادروا دفء أحضان أمهاتهم. وفي عام 1204، كانت الحملة الرابعة مصيبة على رأس أهل قسطنطينية، فقد نهبوها وفعلوا بها ما لم يفعل الأتراك، ودنسوا مقدساتها، وسلبوا الحرز والأيقونات والآثار التاريخية.

وفي الفيلم يظهر صلاح الدين الأيوبي، وهو ممثل سوري، ضرب ضربته العالمية هذه المرة وكان ناجحا ومعبرا في دوره الرحيم، فهو يقابل ملك القدس المريض ليرسل له أطباءه الخاصين، وهي تمثل النقلة الحضارية بين برابرة أوروبا. وفي الحقيقة كما كتب (جب)، في كتاب خصصه عن صلاح الدين، ان سر الرجل كان في أخلاقياته العالية، وهو أدرك أن خلف الإخفاق السياسي انهيارا أخلاقيا، فعمد إلى ترميمه ونجح مؤقتا. والرجل لم يكن صاحب دعوة، بل رجل دولة، وهو أمر استنكره البعض، على حين قلت إن شخصية صلاح الدين وغيره تخضع للنقد التاريخي. والقاضي (ابن شداد)، وهو خير من أرخ للسيرة الذاتية لصلاح الدين، يذكر مناقبه وتحمله الشيء الكثير.

وهو كتاب جميل ينصح بالاطلاع عليه، في مناسبة فيلم (مملكة السماء)، حتى نكشف عن بعض كنوزنا التاريخية. ويقول ابن شداد إنه كان يوما مصابا بخرّاج حول الشرج ـ ونحن الأطباء نعرف ألم وخطر هذا المرض ـ بقي راكبا حصانه يقود الحملة، وحين جاءه الموت وهو صغير السن حوالي الخمسين باليرقان، كان يطلب قدح الماء البارد، فيعطى غير ذلك، فلا يشتم ولا يضرب ولا يأمر بالأذى، بل يقول بكل أريحية وضبط نفس وهو يصارع أمواج الموت «يا سبحان الله، ألا يوجد من يعطيني قدحا من الماء البارد؟».

ويقول عنه ابن شداد، إن ملوك ذلك الزمان لو حصل معهم ما حصل معه، لفعلوا الأعاجيب من قسوتهم واستبدادهم وبطشهم. ومع ان صلاح الدين كان نزيها نظيفا لم يترك خلفه أكثر من 17 درهما، لكنه قسم مملكته بين 17 ولدا، مما قاد إلى كارثة سياسية بعد رحيله. ومن الغريب والخفي عن الأذهان، معاصرة صلاح الدين للخليفة العباسي، الذي تحول من حقيقة إلى شكل، قبل أن تدمر بغداد، وتجرف بالحصادة المغولية عام 1258. ومعركة حطين التي نرفع رأسنا بها حتى اليوم، كانت عام 1187، واسترداد القدس عام 1188. ومن المهم أن نربط الأحداث ببعض، فالحملة الصليبية كما يقول (الصادق النيهوم)، في كتابه «محنة ثقافة مزورة»، إنها لم تبدأ عام 1099، في القدس بالاستباحة، وقتل أهلها، فسالت الشوارع مجاري للدماء، بل بدأت في الغرب بسقوط توليدو عاصمة شبه الجزيرة الأيبرية عام 1085، ولم تنفع حملة بن تاشفين في استردادها، وتابع مسلسل السقوط، وحروب الاسترداد طريقه حتى سقوط بالنثيا عام 1236، وقرطبة عام 1238، وإشبيلية على المحيط عام 1248، ومع سقوط بغداد اكتمل سقوط جناحي العالم الإسلامي، ومع سقوط القدس وقيام دولة إسرائيل الصليبية الثامنة، سقط القلب بعد الجناحين. (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين).

وأنا من يكتب عن صلاح الدين، لجأت إلى بيت ريتشارد قلب الأسد في كندا، حيث آمن على نفسي وذريتي، بعد أن لم يبق أمان لطير وقط في أرض صلاح الدين!.

ومن وقفات الفيلم المؤثرة، حين استرد صلاح الدين القدس، فيسأل (بايلان) البطل المدافع عن القدس قبل أن يصل ملك انجلترا، عن مصير المدينة، فيعطيه الأمان لكل من فيها، واجداد (بايلان) لم يبقوا على أحد من المسلمين!. ومنه نعرف أن كل ملوك أوروبا اجتمعوا علينا من الغرب، يضاف إليهم المغول من الشرق، فأصبحنا بين فكي كماشة، لكن المحصلة لم يكن يراها أهل ذلك الزمان سوى كارثة وريح عقيم، (ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم)، لكن الذي نتج عن هذا الضغط التاريخي، أن المغول تحولوا إلى الإسلام، والصليبيين ردوا على أعقابهم مخذولين بعد هجوم طال 171 عاماً. وانطلق مد معاكس من الأتراك هز الأوروبيين مدة خمسة قرون، وفيها حاصر العثمانيون النمسا ثلاث مرات، كان آخرها حصار عام 1683، حين كان اسحاق نيوتن يكتب حول تحليل الضوء وقانون الجاذبية، وكانت أوروبا بذلك قد تحولت تحولا جديدا، ونشأت نشأة مختلفة، وولدت خلقا آخر، وحتى جاء غورو فضرب قبر صلاح الدين، حين دخل دمشق عام 1925، فقال لقد عدنا، ولم يعد طاغية يقاتل طاغية، كما كان حال العصور الوسطى، بل إدارة جماعية تواجه طاغية من نوع صدام. فلا غرابة من سقوط صدام السريع في ثلاثة أسابيع حسوما، فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية؟

.والسؤال: هل ينصح برؤية فيلم من هذا النوع؟، ورأيي أنا أنه يجب رؤية أي فيلم يعرض ثقافتنا على اية حال، وحين رأيت العام الفائت فيلم «آلام المسيح»، تذكرت الفروع الأمنية في العالم العربي بالجلد والسلخ، وكتبت مقالة أنصح فيها القرّاء أن لا يروه. وفي الثمانينات، حينما كنت في ألمانيا، أضفت إلى المجموعة من الأفلام السينمائية في مكتبتي فيلما للمسيح بطول ست ساعات، وهو من أجمل ما أخرج وأنتج في إظهار صورة (المعلم)، الذي يعظ الجموع بأطيب الكلام والأمثلة. والفرق كبير بين الكنيسة والإنجيل، وبين المسيح والبابا. وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.