المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد؟



دشتى
05-06-2005, 01:43 AM
تركي علي الربيعو

الحياة 2005/04/17

ما بين «طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد» الذي ألفه الكواكبي مع نهاية القرن التاسع عشر، و بين «تشريح أصول الاستبداد» (1999) الذي ألفه الباحث المغاربي كمال عبد اللطيف مع نهاية الألفية المنصرمة، ثمة مسافة زمنية تربو على القرن، مسافة لم يستطع الفكر العربي أن يهتدي بها إلى مجاهل الاستبداد الوعرة. لذلك تاه بعيداً عنها، وذلك على الرغم من هياج و صراخ الليبرالي العربي في الماضي والحاضر، بأن تخلفنا يرتد إلى جرثومة الاستبداد ولا شيء غيرها، و ذلك في إطار جوابه عن التساؤل المضاعف: لماذا تخلفنا نحن و تقدم غيرنا؟.

كان الكواكبي مشدوداً إلى المثال الإسلامي على حساب الواقع التاريخي، لذلك تعثر كثيراً في إجابته عن العلاقة بين الإسلام والاستبداد، ولم تفلح نزعته التوفيقية في هذا المجال، والتي سعت إلى تزكية الإسلام وبُعده عن الاستبداد، على الرغم من كل التقريظ الذي حظي به. و هذا ما جعل من جرثومة الاستبداد عصية على الكشف، وتاه أغلب المفكرين العرب الراديكاليين في البحث عن جذور الاستبداد. وسرعان ما تم اكتشاف الجذور القديمة ممثلة في نمط الإنتاج الآسيوي، و ذلك اعتماداً على نص مغفل و قصير لماركس، فترجمت الكتب العديدة عن نمط الإنتاج الآسيوي، و بدأ أحمد صادق سعد في كتابة تاريخ مصر الاجتماعي والاقتصادي في ضوء نمط الإنتاج الآسيوي ، وراح طيب تيزيني يوزع خطاطته الآسيوية على تاريخ بعيد يعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، ليستنتج مدى دقة و صوابية آراء صاحب البرنيطة (كارل ماركس). وصدرت كتابات وجلة عن تاريخ الطاغية، و تبين للجميع أن جرثومة الاستبداد ليست حكراً علينا وأنها تمتد على مدى تاريخ طويل، يمتد من الصين شرقاً إلى طنجة غرباً. لكن ما يقلق أن شعوباً عديدة استطاعت أن تدرأ الاستبداد وأن تحد من جرثومته، في حين أننا، العرب، بقينا فريسة هذه الجرثومة الأزلية والعصية على التغيير والتي قيض لها أن تأكل زهور الربيع التي يمكن لها أن تتفتح .

من وجهة نظر بعض الباحثين العرب المصابين بعدوى المثال على حساب التاريخ، نحن، العرب، فقدنا المناعة ضد الاستبداد. و هذا ما يشير إليه كل من هشام علي حافظ والشيخ جودت سعيد و خالص جلبي في كتابهم الحديث «كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد» (دار الريس، 2002). لا بل أننا بتنا فريسته وعبيده.فلو طلب من أي عربي أن ينتهك أهم مقدساته لفعلها دون ريب كما يقول خالص جلبي؟.

كان حرياً بالشيوخ الثلاثة الذين ضموا صوتهم إلى الليبرالي العربي واعترفوا بأن جذر التخلف يتمثل بالاستبداد أن يبحثوا عن الحاضنة الحقيقية لجرثومة التخلف داخل التراث العربي الإسلامي. لكن احتماءهم بالمثال الإسلامي على حساب التاريخ حجب عنهم رؤية جرثومة الاستبداد التي تعشش في الرحم الإيديولوجي لمبدأ الطاعة، وحجب عنهم الكيفية التي تم بها تمجيد مبدأ الطاعة لتصبح فضيلة الفضائل كما يكتب كمال عبد اللطيف، وحجب عنهم أيضاً كيف استطاع الملك العضوض أن يوظف كل التراث الآسيوي القريب الذي يرتفع بالملك إلى مرتبة الإله وظله على الأرض وحارسه على دينه، لصالح هيمنته واستبداده.

وهذا ما دفع الشيوخ الثلاثة إلى الاحتفاء بذلك النص المجهول، الذي كتبه المفكر الفرنسي لابواسييه تحت عنوان «العبودية المختارة»، والذي كتب قبل نص الكواكبي بأربعة قرون، أي في العام 1562، ولم ينشر حتى العام 1835.

يتساءل لابواسييه، الذي سحر الشيوخ الثلاثة ببلاغته عن الكيفية التي جعلت من بعض الشعوب خاضعة لطاغية واحد لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته.الخ.

يذهب خالص جلبي إلى القول بأن للطغيان جبلته الإنسانية، فالإنسان في «جبلته الاستعداد للطغيان». وهذا كلام خطير يبلغ ذروة التشاؤم، لكن كيف السبيل إلى إقصاء هذه الجبلة والتعويل على غيرها؟ كذلك يرى الشيخ جودت أن «جينات ثقافة الطغيان»، والتعبير له، لم تُستأصل من النفوس... ومن هنا أهمية ثقافة اللاعنف التي من شأنها أن تستأصل كل «الجراثيم الفكرية»، وأولها جرثومة الاستبداد باعتبارها الحاضن التاريخي لتخلفنا.

إنها بلاغة تواجه الاستبداد لتقاس على بلاغة أخرى ، إذ أن المطلوب ليس قياس الواقع العربي الحالي على نص كتب في أواسط القرن السادس عشر، بل الاستئناس به قليلاً أيضاً، و الانطلاق منه إلى تاريخنا العربي الإسلامي لنفهم كيف تم تمجيد الطاغية، سواء على صعيد لغة اللاشعور كما في كتب تفسير الأحلام: «من رأى طاغية في منامه جاءه الخير»، كما يقول ابن سيرين وغيره، وفي كتب الثقافة العالمة. وهذا ما لم يتقدم إليه إلا قليلون! فكيف يستقيم الحديث عن الديموقراطية مع فقر فكري وأنيميا سياسية إلى هذا الحد. أليس المطلوب أحياناً إعلان هدنة مع شعاراتنا كما ذهب إلى ذلك جورج طرابيشي في بحثه عن ثقافة الديموقراطية، علّنا نستطيع عبر معرفة حقيقية بالاستبداد التاريخي ان نتمكن من تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ابتعاداً عن ليل الاستبداد الحالك؟!.

(كاتب سوري)