المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب ..... الجسد حين يتكلّم



دشتى
05-05-2005, 07:33 AM
اللغة الصامتة التي ترافقنا أكثر مما ترافقنا اللغة الناطقة

بيروت: بلال عبد الهادي

أثمرت ثورة الاتصالات التي يعيشها العالم اليوم علما هو من أطرف العلوم وأحدثها، علم يقول لنا بكل بساطة ان الكلمات لا تخرج فقط من فم الانسان، وإنّما من كل جسده. نسمع منذ زمن سحيق عن لغة العيون ولغة الازهار وغيرهما من اللغات المجازية التي يتوسّلها الإنسان لتوصيل فكرة أو عاطفة أو موقف، إلا أن هذه اللغة المجازية لها اليوم رجال يعملون بعمق لتبيان دورها وغناها، ويحاولون استنباط قواعدها ونحوها وصرفها كأي لغة منطوقة أخرى.

وقديما نقل ابن جني اللغوي العربي عبارة لا تخلو من دلالات وهي ان صديقا له لا يحسن الكلام في الظلمة، قاصدا بذلك إلى دور الإشارات المصاحبة للكلام في تأدية المعنى أو تأكيده، وهذا ما يريد أن يقدمه الكاتب «آلان بيز» في كتابه الطريف الموسوم «لماذا يحكّ الرجال آذانهم، والنساء يبرمن خواتمهن؟» الصادر بالفرنسية عن دار «فيرست».

يقول الكاتب إنّه بدأ بالعمل وهو ابن أحد عشر عاما، كان بائعا جوّالا أحسن أيضا تجوال النظر في ملامح زبائنه واكتسب بالخبرة استخراج دلالات الإشارات وأتقن معرفة درجات رفض الزبون وقبوله من خلال وقفته، وضعية يده، حركاتها.. الخ..

ولاحظ المؤلف أن ما يقوله الفم ليس بالضرورة ما يقوله الجسد فقد تشي الإشارة بخلاف ما تتلفظ به الشفاه. يبدأ الكاتب بقراءة التغيرات التي طرأت على الحياة الإنسانية، وعلى أدوات التواصل، ومنها الصورة، فالصورة اليوم هي سيدة التواصل الأولى، مما جعل الفصاحة اليوم تتوارى خلف لغة أخرى هي لغة الحركة، التي تلتقطها عدسة الكاميرا. والسياسيون يعرفون اليوم ان الصورة خصم لدود وخبيث يمكن ان يطيح برغباتهم، وهذا ما دفعهم إلى الاستعانة بمستشارين خبراء بلغة الإشارة والإيماءة والجلسة والوقفة لاتقاء أحابيل وعثرات لغة الجسد والمظهر، فميزة الإخلاص قد لا تكون من شيمة فلان أو علان من السياسيين، ولكن لا بد من لباس زيّ الإخلاص. والكلام وحده لا يكفي لأن الجسد له بالمرصاد. حركة ما، إشارة، إيماءة، طرفة عين، هزة رأس، وغيرها من الحركات قد تفضح الكلام، تظهر خواءه وعدم ملاءمته لما يعتمل في تضاعيف النفس.

يقول الكاتب ان الاهتمام بلغة الجسد، هذه اللغة التي تطوّرت تطورا مذهلا من يوم وجد الانسان إلى اليوم، لم تثر الاهتمام الذي أثارته اللغة اللفظية، ولم تتحول إلى مشروع علمي إلا في الستينات من القرن الماضي، حيث لا يزال يعتبر، إلى اليوم، ان اللغة اللفظية هي الوسيلة الرئيسية في التواصل. ويشير إلى أن اللغة نفسها، وهذا ما نرصده في كل لغات العالم، لا تزال تحمل آثارا أو بقايا من لغة الحركة والإشارة في كثير من التعابير مثل: لم يرفّ له جفن، خبّأ وجهه، اليد الممدودة، حملق، غضّ الطرف. وهي بحسب المؤلف تعابير تشير إلى ممارسات الجسد في إظهار رغبة أو إخفاء إخفاق أو ما شابه.

ويلفت إلى ان بداية السينما اعتمدت اعتمادا كبيرا على لغة الجسد فشارلي شابلن في أفلامه الصامتة كان سيد من استثمر كلمات الجسد بإيماءاته وإشاراته.

ويشير المؤلف إلى ان أوّل من اهتم بهذه المسألة دارون في كتابه: «التعبير عن العواطف لدى الانسان والحيوان». ويلفت إلى ان العالم ألبير مهرابيان يعتبر ان الرسالة التواصلية لا تتضمن إلا %7 فقط من الكلام، بينما 38% منها يتشكل من نبرة الصوت وتنغيم الكلام وهي أمور ترافق اللغة الصوتيّة أو الشفاهية إلا انها ليست من صلب الدلالة اللغوية، والباقي أي 55% هو عبارة عن حركات وإيماءات وإشارات ترافق الرسالة اللغوية. وأشار راي بردهويسل وهو من أهمّ العلماء الحاليين في الإشارات الجسمية إلى ان الإنسان يستخدم 250 ألف حركة أو إيماءة وجهية معروفة الدلالات، من هنا ليس غريبا استعمال كلمة واحدة تشمل الكلام والحركات معا في قولنا تعابير الوجه وتعابير الكلام.

ويرى الكاتب ان المحادثات الهاتفية تختلف جذريا عن المحادثات المباشرة (والكلمة في العربية على صلة بالبشرة) بحكم ان التليفون يمحو دور الحركات في العملية التواصلية وان كان لا يقدر على الغاء وجودها. وثمة صلة بين الكلام وتعابير الوجه إلى حد دفع بردهويسل إلى القول بان شخصا مدربّا تدريبا جيّدا على فكّ شفرات الإشارات الجسمية يمكنه ان يعرف الكلام من مجرد رؤية حركات الشفاه والجسد.

يعتبر الكاتب ان أهمية درس تعابير الجسد تفيد في إنقاذ الذات من السقوط في فخّ الكلام، فالكلام لا يستعمل دائما للتعبير عما في النفس إذ يستخدم أحيانا لإخفاء ما في النفس، والإنسان لا يمكنه أن يختبىء خلف جسده وان كان بامكانه أن يتوارى خلف كلامه. ومن اللافت للنظر ان المرأة أكثر حنكة ومعرفة في لغة الجسد وكشف دلالاتها من الرجل وما قوّة الحدس الأنثوي التي تتمتع بها المرأة إلا تسمية مجازية لخبرتها ومعرفتها بما تكشفه الحركات والإيماءات والوضعيات المختلفة من دلالات.

وولعها بالتفاصيل من أسباب توليد هذا الحدس اليقظ. ويقول الكاتب ان هذا هو السبب في كون الرجل لا يستطيع تمرير كذبته على زوجته كثيرا لأنه سرعان ما يسقط تحت سلطان حدسها وامتلاكها لأدوات وشفرات الإشارات الجسمية. اثر دراسة قامت بها مجموعة من علماء النفس في جامعة هارفرد، اعتمدت على عرض فيلم قصير صامت أمام مجموعة من النساء والرجال، عن حديث بين امرأة ورجل، تم الطلب من كل فئة ان تتكلم عن الموضوع الذي تناوله الحوار الصامت. تبين بعد عملية إحصائية ان 87% من النساء أجبن إجابات صحيحة بينما لم يجب إلا 42% من الرجال إجابات صحيحة. وتوضح الدراسة ان الرجال الذين أجابوا إجابات صحيحة كانوا يعملون فنانين أو ممثلين أو ممرضين.

وهذه إشارة، ولا ريب، ناطقة. والحدس ظاهر عند المرأة بسبب طبيعة الحياة التي تعيشها، فهي على تماسّ من حيث هي أم مع لغة الإشارات لان الطفل في بداية أمره لا يتكلم، إلا ان عدم كلامه لا يعني انه لا يتواصل، بوسائل أخرى منها حركات الجسد وتعابير الوجه، أي ان الأم تتعايش مع لغة الإشارات الجسمية، وهذا ما لا يتوفر للرجل، مما يزودها بسلاح لا يملكه الرجل. وهذا الأمر ـ كما يقول الكاتب ـ يجعل المرأة اشد صلاحية من الرجل في المفاوضات، لأنها لا تسقط الإشارات من الاعتبار خلال التفاوض.

ويحاول الكاتب في احد فصول الكتاب قراءة أنواع الحركات، فيرى ان منها ما هو فطري أو وراثي أو مكتسب. ويبين ان الانسان يقوم بحركات تنتمي إلى الأنواع الثلاثة، فالضحك مثلا مسألة فطرية، حيث ان الأعمى يضحك منذ طفولته مما يعنى ان الضحك فطري وليس وليد تقليد. ثمة حركات لا خيار للإنسان فيها فيقول ان الرجل يبدأ، اغلب الأحيان، بإدخال يده اليمنى في كمّ القميص اما المرأة فتبدأ، اغلب الأحيان، باليد اليسرى وذلك يعود إلى ان المرأة تستخدم النصف الأيمن من الدماغ والرجل النصف الأيسر. وحركة الرأس مثلا للتعبير عن الرفض ما هي إلا امتداد لحركة الطفل الرضيع حين يشبع.

أو لحركة الطفل الصغير الذي يلجأ إلى هذه الحركة حتى لا يسمح للملعقة بالدخول إلى فمه، وهذه الحركة تطورت بحيث أصبحت للدلالة على الرفض العام. ويشير إلى ان تعابير الوجه ليست كلها عالمية ذات دلالات ثابتة، فمنها ما يتغير من حضارة إلى أخرى، أي ان للحركات ما للكلمات من دلالات متعددة تحكمها أحيانا السياقات والحضارات. ويقول الكاتب على المرء ان يحذر السقوط في سوء التأويل، فمن الأخطاء الشائعة في قراءة التعابير فصل الحركات بعضها عن بعض، أي تفكيك الجملة الإيمائية إلى مفردات منفصلة، فمروحة دلالات حكّ الرأس غنية قد تكون تعبيرا عن الكذب أو القلق أو استحضارا لأمر من الذاكرة أو مجرد قشرة في الرأس تستدعي هذه الحركة. ربط دلالة الحركة بالسياق مهم، لعدم الالتباس أو إلباس الحركة ما لا يلائمها من دلالات.

ويرى المؤلف أن المرأة لا تأخذ الكلام على محمل الجد إلا إذا كان مقرونا بحركة ملائمة أي حركة لا تنقض الكلام أو تناقضه. ينقل الكاتب عن فرويد خبرا مفاده انه سأل امرأة عن حياتها الزوجية فقالت له انها ممتازة لا تشوبها شائبة إلا ان المرأة وهي تتكلم كانت تلعب بالخاتم وتحركه في إصبعها، ولم يستغرب فرويد حين علم فيما بعد ان العلاقة بينها وبين زوجها متوترة وليست ممتازة كما ادعت. هنا نبست الحركة بما لم تنبس به الشفتان.

ويلحظ آلان بيز ان حركات الجسد عند الطفل تكشف بسهولة أكثر، ليس لان الولد لا يعرف الكذب وإنما لانّ بشرة وجهه تكون مشدودة فتية، كاشفة لا تختبئ خلف التجاعيد. ويتوقف الكاتب عند تطور بعض الحركات منها الحركة التي تشي بالكذب، فالطفل يخبئ فمه بكلا اليدين حين يكذب، واما البالغ فانه يقلّص الحركة أي يمارس الاختزال والحذف على هذه الحركة، فلا يبقى منها إلا حركة صغيرة خاطفة كتمرير الإصبع على طرف الشفاه.

يعتبر الكاتب ان تكريس ربع ساعة في اليوم، لدراسة دلالات التعابير كفيل بتحسين فعل التواصل بين الناس.. وهذا أمر يستدعي تدريب العين على النظر جيدا. ولهذا السبب يقول اوليفيه ساكس ان الخرسان اقدر من الآخرين عادة في كشف دلالة الاشارات لأن حياتهم، بل وبقاءهم يقوم على استثمار العين. ويقول آلان بيز ان اماكن كثيرة هي مجال لتدريب العين على التقاط الإشارات وتركيباتها، فالمطارات والمقاهي ومحطات القطار كلها اماكن تعجّ بهذه اللغة التي لا تثير الانتباه، ولكنها شديدة الغنى، وجهاز التلفزيون صندوق عجيب لمن يريد ان يتمرّس بلغة الإشارات، وينصح الكاتب الراغبين في تعميق معرفتهم بلغة الاشارات بقطع صوت التلفزيون ومراقبة الحركات ومحاولة فهم المعنى من خلال الحركات فقط. ثم معاودة حضور المشهد بالصوت لمقارنة ما فهمه بما يسمعه.

ثم يبدأ الكاتب في قراءة تعابير الأعضاء البشرية، فيتوقف عند أشكال المصافحة فهناك صراع غير واع وخفي لحظة المصافحة إذ كل واحد يحاول ان يقلب يد الآخر إلى وضعة المطيع وتكون النتيجة مصافحة تبقي اليدين في الوضعية العمودية. ويقول الكاتب ان قراءة المصافحة وحدها لا تكفي بمعنى ان هناك مجموعة من السياقات تقرأ على أساسها المصافحة منها وضع الرجلين، المسافة الفاصلة بين الشخصين، أو المصافحة مع الإمساك بأعلى الذراع في اليد الأخرى أو بالمرفق أو بالساعد أو بالكتف. هنا الحركة كالجملة المركبة، وفي لغة الإشارات الجسمية حركات بسيطة وأخرى مركبة، ومتداخلة، تماما كالجمل اللغوية المنطوقة. ولا يخلو الكتاب من الصور الكثيرة المرافقة التي تفسر الوضعيات المدروسة، ومنها صور لشخصيات سياسية بارزة كصورة مصافحة عرفات لرابين، وصور لشيراك وبلير وكلينتون والقذّافي والليدي ديانا وغيرها من الصور التي يتوقف الكاتب عند حركة أصحابها أو الإشارات التي يقومون بها باستخدام تعابير الوجه أو اليد.

ويتناول الكاتب في فصل ممتع علاقة الإنسان بالأشياء، والدلالات التي يضفيها عليها من سيجارة ونظارات وماكياج وكلها أمور يشحنها الانسان أو المستهلك بذاتيته وشخصيته فالسيجارة على بساطتها لا نتعامل معها جميعا بنفس الطريقة، نفث الدخان من الفم ليست واحدا، مسك السيجارة ليس واحدا، فمنهم من يستخدمها كإكسسوار لليد. ولا ريب في ان ملاحظة تعامل المخرجين السينمائيين مع السيجارة تزود المرء بدلالات متعددة. نفث الدخان إلى الأعلى ايجابي ونفثه إلى الأسفل يدل عن موقف سلبيّ. بل ان المدخن وهو يلعب بالورق قد يكشف عن أوراقه من خلال طريقة نفثه للدخان.

كل إنسان يمارس، عن غير وعي منه، لغة الإشارات. البعض لا ينتبه إلى دلالاتها وغناها. هذا الكتاب يشير إلى ان بالإمكان بناء نحو خاص بالإيماءة والحركة والإشارة، على غرار نحو الكلام. ولا ريب في ان زمن التواصل الذي نحن فيه يشير إلى أهمية هذه اللغة، التي تسبب أحيانا سوء تفاهم مرّ بين الشعوب، لان بعض الإيماءات والإشارات لا يمكن فهمها إلا على ضوء الثقافة التي تحضنها.

لا ريب في ان هذا الكتاب يمنح العين تقنيات النظر وآليات طريفة في إنطاق هذه اللغة الصامتة التي ترافقنا أكثر مما ترافقنا اللغة الناطقة.