المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البابا الجديد في كتاب له قبل أشهر من انتخابه



جمال
04-28-2005, 01:17 PM
رؤية ناقصة للإسلام ومواقف متناقضة من الليبرالية


http://www.asharqalawsat.com/2005/04/28/images/books.296088.jpg

أمير طاهري

تم صدور هذا الكتاب قبل عدة أشهر فقط من انتخاب الكاردينال جوزيف راتسنغر بابا جديدا، متخذا اسم بنديكتوس السادس عشر. والكتاب معني بسؤال سقراط الشهير: ماهية الحقيقة؟
ومثلما نعرف فإن سقراط طرح أسئلة فقط، لكنه لم يحاول قط أن يقدم إجابة عنها، وهذا يعود لأنه كان يرى المعرفة كعملية صيرورة أكثر منها حالة ثابتة للكينونة. ووفق طريقة سقراط يصبح أي تعريف للحقيقة وبشكل أوتوماتيكي غير حقيقي.

راتسنغر لا يقدم أي تعريف مباشر للحقيقة التي يكتب عنها. هو مقتنع ضمن التفاصيل أن نسخته من الكاثوليكية التي تمثل تجسيدا للعقيدة المسيحية في هذا الوقت المحدد تمثل الحقيقة في صيغتها النهائية. لكن ماذا حول العقائد المسيحية الأخرى، ناهيك من الديانات الأخرى التي ترى نفسها بأنها هي أيضا تمثل الحقيقة النهائية، وفي بعض الحالات الحقيقة الوحيدة؟ أقصى راتسنغر السؤال على مستوى عقائدي لكنه عالجه على مستوى الفرد، بغض النظر عن أي دين يتبعه. ثم ذهب أبعد من ذلك معترفا بأنه حتى بالنسبة للمتشككين والملحدين فإنهم قادرون على الاقتراب من الحقيقة لوحدهم، عبر طرق مغلوطة.

لا يقدم راتسنغر أي تعريف للدين أيضا، لذلك فإنه يجمع عددا من العقائد تبتدئ بالبوذية والهندوسية وتنتهي باليهودية والإسلام. وهو بشكل ضمني يميز الأديان التي يضعها ضمن فصيلة الأديان التوحيدية عن تلك التي يسميها بـ«الطرق» التي تدخل ضمنها البوذية والهندوسية.

بعد ذلك يوسع المؤلف مبدأ التوحيد كي يشمل «الأحادية الروحانية» القائمة في التقاليد الهندوسية. ولا يواجه راتسنغر أي صعوبة في تلك المعالجة لأن نقطة انطلاقه هي التثليث المسيحي.

ويعترف بالإسلام كشكل منفصل من التوحيد، ربما لأنه يرفض مفهوم التثليث والإحالة، ولأنه يركز على مفهوم وحدانية الألوهية. ويشير راتسنغر ضمنا أيضا إلى حقيقة أن الإسلام يعتبر نفسه «النسخة النهائية للحقيقة»، وهو ما يلغي النسخ القديمة لليهودية والمسيحية، ويضعه في مفهوم خاص به.

ولكن ماذا عن اليهودية؟ أليست هي أيضا شكلا آخر من أشكال التوحيد؟

لا يوجه راتسنغر هذا السؤال، ربما لأن «يهوا»، إله العهد القديم، بالرغم من تميزه، هو في النهاية، رب الشعب اليهودي فقط. وعندما يتعدى اطر الشعب اليهودي ليصبح رباًّ يتمتع بجاذبية عالمية من خلال المسيحية، فيمكن فقط حينذاك اعتباره في اطار التوحيد.

ويحدد راتسنغر العدوين الرئيسيين للإيمان في العالم المعاصر، بالعلمانية والنسبية الثقافية.

وبرفضه للعلمانية لا يعني ان الكنيسة او أية مؤسسة دينية أخرى يجب ان تتولى السيطرة على مقاليد المجتمع. وهو يعلم ان تلك الأيام التي كان فيها الملوك المسيحيون يتلقون تيجانهم من الباباوات قد ولت، عندما اخذ نابليون التاج بنفسه من البابا ووضعه بنفسه على رأسه هو، بالإضافة إلى ان اية ديمقراطية غربية معاصرة لا تقبل حكم القساوسة.

والعلمانية التي يحرمها راتسنغر، هي المحاولات المنظمة لاستبعاد الدين من قضايا الاهتمام العام. وفي هذا النموذج من العلمانية، فإن الدين قضية خاصة للغاية تتعلق بالإيمان في الخلاص الفردي. الا ان راتسنغر يريد من الدين ان يلعب دورا عاما ليس فقط في مناقشة قضايا تتعلق بالمجتمع ككل، ولكن ايضا في تحديد هذه القضايا. وفي ابسط حالتها فإن ذلك سيحول الدين المنظم الى جماعة ضغط اخرى تحاول ان تؤثر على الناخب عن طريق المشاركة في النقاش السياسي.

وحتى في هذه النقطة فإن راتسنغر يتعامل في اطار الحدود التي وضعها مجلس الفاتيكان الثاني في عامي 1962 و1963 بالاعتراف بحيادية الدولة في قضايا تتعلق بالدين. الا ان البابا الجديد، يتعدى مجلس الفاتيكان الثاني بطريقة ذكية. فهو يجادل بأنه في الوقت الذي يجب فيه عدم تدخل الدولة في قضايا الايمان، فإن الدين المنظم، وهو في هذه الحالة الكنيسة الكاثوليكية، له الحق في التدخل للتأثير على اتجاهات سياسة الدولة.

وبطريقة ما، فإن موقف راتسنغر بخصوص العلاقة بين الكنيسة والدولة مشابه لموقف فقهاء الشيعة التقليديين الذين يعتقدون انه في ظل غياب المهدي، فلا يجب على رجال الدين التدخل في شؤون الحكم، إلا أن عليهم تحديد المسار السياسي للمجتمع من الخارج.

والقضية الثانية غير المقبولة لراتسنغر هي النسبية الثقافية، وهي نتاج لليبرالية الغربية، التي تقول إن جميع الأديان والثقافات ذات قيمة متساوية وبالتالي تستحق الاحترام نفسه. ويقبل النسبيون جميع اشكال التنظيم العقائدي كدين.

يقول راتسنغر: «ان قناعتك بعقيدة واضحة معتمدة على تعليمات الكنيسة تعتبر اليوم في نظر الكثير اصولية. بينما النسبية، التي تسمح للإنسان بالتعرض لكل التعاليم تبدو وكأنها الأمر الوحيد المقبول بمستويات اليوم».

ويحرص راتسنغر، برفضه النسبية باعتبارها مصيبة الإنسان المعاصر، على عدم الظهور بمظهر الرجل غير المتسامح. ولكن كيف يطبق ذلك؟

من اللافت للانتباه انه تبنى مفهوما ينتشر بين المسلمين الا وهو العرف، في مقابل الشريعة.

فمن منطلق مفهوم ان «السماوات تبدأ في الأرض»، يقول راتسنغر ان مفهومه للحقيقة لا يعني سوى القيم التي يحتفظ بها الإنسان كمرجع عندما يتخذ قرارات، وهذا على أية حال، ينتهك بعض المفاهيم مثل «الحقيقة المطلقة» و«الحقيقة الكلية».

إن فلاحا هندوسيا في البنغال لديه مجموعة من القيم مختلفة عن قيم عامل مسيحي في مصنع في تورينو، و«المفاهيم السائدة» تختلف باختلاف الوقت والزمن، بينما تهتم كل الديانات بالحقيقة التي لا تتغير. وكان الشاعر الفارسي ناصر خسرو على وعي بخطورة مساواة «المفاهيم السائدة» بالحق. والمشكلة ليست أكاديمية، ولا سيما في الديمقراطيات المعاصرة.

وطبقا لأحدث التقديرات فهناك، ما لا يقل عن 3000 طائفة دينية مسجلة في الولايات المتحدة وحدها. ويصر راتسنغر على ان اعتبار كل هذه الطوائف دينية هو خروج عن المنطق على الأقل. ولكنه لا يقول لنا من الذي يقرر ان هذه الطائفة دينية والأخرى غير دينية. غير ان فكرة «المفاهيم السائدة» فكرة ضعيفة، ولا سيما في ديمقراطيات اكثر المفاهيم السائدة قبولا فيها هي الحرية الفردية، وخاصة في ما يتعلق بالايمان* ويرجع راتسنغر مفهوم اصول الدين إلى سعي الانسان لتجاوز الاساطير ويحدد ثلاث طرق لذلك: الصوفية والتوحيد والتنوير. ويكشف ان في الغرب المعاصر، وفي أجزاء أخرى من العالم، تتعايش الطرق الثلاث معا. وفي معظم الحالات تتنافس للتأثير على السياسات التي تؤثر على المجتمع. وهو يستكشف هيكلية الدين والحقيقة الدينية من منطلق تاريخي ومن المفاهيم الاولية الثلاثة، أي الصوفية والتوحيد والتنوير. والذي نراه في الغرب اليوم هو مرحلة ما بعد التنوير، مع وجود نزعة توحيد في الدين، بالاضافة الى مستويات مستمرة من الصوفية التي تؤثر على المجتمع بطريقة غير متوقعة. وفي ما يتعلق بالتوحيد يستكشف، عن طريق تقاليد دينية مختلفة، الوسيلة التي يلعبها هذا المفهوم في الثقافة. وفي ما يتعلق بالتنوير، يستكشف الفلسفات السالفة لأفلاطون وأرسطو.

وهذا موقف لافت للانتباه اذا ما اخذنا بالحسبان ان الرجل الذي يتبناه هو ابرز اللاهوتيين الكاثوليك خلال نصف القرن الماضي ويحتل مركز البابا اليوم. هل تعتبر الطرق الثلاث حلقات في السلسلة ذاتها من التعاقب ذاته؟ اذا كان الجواب بالإيجاب، فان التنوير سيكون الحلقة الأخيرة ان لم يكن النهائية. هل هي ذات قيمة روحية متماثلة في نظر اللاهوتي؟ اذا كان الجواب بالإيجاب، فما الذي نفعله برفض راتسنغر للنسبية؟ والأكثر أهمية ان هذه الحجة قد تبدو دالة ضمنيا على ان الدين هو نتاج البحث الإنساني أكثر منه جوهرا في صيغة تدخل ميتافيزيقي لتغيير مجرى الوجود.

وفي مرحلة معينة يقترب راتسنغر من الموقف النسبي الذي يدينه. فهو، على سبيل المثال يجادل بأن أولئك الذين يتمتعون بحرية اكبر يتمتعون أيضا بمسؤولية أكبر في اعتماد قراراتهم على «الحقيقة» التي تتشكل من القيم المشتركة لأي مجتمع معين في وقت معين. ويحث أولئك الذين يتمتعون بمثل هذه الحرية على استخدامها من أجل خلق «عالم أفضل»، من دون أن يخبرنا ماذا يعني ذلك. وفي محاولة لتجنب الاتهام بالطوباوية يتبنى راتسنغر ثانية موقف النسبية، أي أن ما يتعين ان نهدف اليه هو خلق عالم أفضل بالمقارنة مع الوضع الحالي. وهذا موقف متطرف يمكن أن يقنع الاصلاحيين بينما يغضب اولئك الذين يسعون الى التغيير الثوري. ولعب ذلك الموقف دورا اساسيا في حملة راتسنغر لاجتثاث ما سمي «لاهوت التحرير» في ستينات وسبعينات القرن الماضي حينما حاولت مجموعة من رجال الدين الكاثوليك، وبشكل رئيسي في أميركا اللاتينية، أن تحول المسيحية الى مذهب من أجل الثورة وحرب العصابات ضد الأنظمة الاستبدادية.

ويتابع راتسنغر أصول التنوير في الفلسفة من أفلاطون وأرسطو الى هيغل وكانت وماركس وآخرين كثيرين. وبذلك المعنى يقف راتسنغر خطوة خلف توماس الاكويني الذي انتهى، في محاولته التوفيق بين أرسطو والمسيحية، الى التوفيق بين المسيحية والفلسفة.

وبدلا من تعزيز أية نظرة معينة للقيم يستخدم راتسنغر دراسته لحث القارئ على الاعتراف بالقيم التي يعتبرها حقيقية وتطبيقها في المجتمع من أجل تحسين العالم بأكبر قدر ممكن من الحرية تسمح به حياتنا.

وقبل انتخابه لمنصب البابوية في الكنيسة الكاثوليكية كان راتسنغر يعتبر منظرا متزمتا وراعيا للأرثوذكسية الصارمة، بل ان البعض ادعوا ان كونه سليل التزمت القروسطي يبعده عن التأهل لزعامة الكاثوليك في عصر التنوع والتعددية الحالي.

غير أن هذا الكتاب يكشف عن راتسنغر كلاهوتي متأثر بشكل عميق بالليبرالية الغربية بما في ذلك النسبية الثقافية ذاتها التي ينتقدها بشدة. وبالتالي فان دفاعه عن المذهب التقليدي هو سياسي اكثر منه دينياً. فهو يعارض بقوة بعض نتائج العالم الليبرالي، مثل قضايا المثلية الجنسية، ووسائل منع الحمل، وتحديد النسل والاجهاض، والقتل الرحيم، والاستنساخ البشري، وعزوبية القسس، وتعيين النساء كاهنات، واستخدام الدين كسلاح حرب طبقية. وما لا يفعله راتسنغر هو رفض الليبرالية والديمقراطية أيضا. ويعود سبب ذلك الى أنه بينما تخلق الليبرالية والديمقراطية أفكارا لا يقبلها، فإنهما تخلقان أيضا وتعززان أفكارا وقيما يرعاها ويعتز بها باعتباره ابن الحضارة الأوروبية.

وبكلمات أخرى فان البابا بنيدكت السادس عشر لن يسعى الى ساحرات ليحرقهن، ولن يصادق على عقوبات صارمة، ناهيك من فرض الأوامر. وقد لا يكون مستعدا لإلغاء حكم محاكم التفتيش الصادر على جيوردانو برونو، ولكنه لا يواجه صعوبة في التوصل الى أن المسيحية كانت مبتلية بـ «أمراض» في الماضي مثل محاكم التفتيش والحملات الصليبية التي أدت الى الكثير من المذابح. وهذه المسألة هامة لأنها تظهر ان البابا الجديد يتأمل مفهوم المعصومية في اطار نسبي، وليس في اطار مطلق. هذا ليس كتابا سهل القراءة ويزيد تنظيمه الشامل من صعوبته. وأحد الأسباب وراءه انه مستخلص من مواعظ ومقالات ومحاضرات كثيرة. وهذا يجعل من أسلوبه شائكا، فهو ينتقل من الفلسفي الى الأكاديمي مرورا بالقانوني والسياسي. وربما كان يتوجب على محرر بارع أن يترك الأجزاء القانونية بالكامل، وبالتالي يلقي الضوء على الجوانب اللاهوتية والفلسفية للعمل. إن مناقشة راتسنغر للمسيحية الشاملة كإطار عمل لإقرار أو عدم إقرار شرعية نماذج الحقيقة المتأصلة في سائر الأديان، على سبيل المثال، تستحق مجالا أرحب، فراتسنغر يقر المقاربة التعددية للدين مقابل المقاربة الشاملة او المقصورة.

ومن اللافت للأنظار أن راتسنغر يعترف بأنه ليست كل الحقيقة متضمنة في الكتاب المقدس، وان البحث عن الحقيقة خارج النصوص المقدسة ليس مشروعا فقط، وإنما ضروري أيضا. وهذا يفتح الطريق باتجاه خطوة حاسمة أخرى: الاعتراف بإمكانية القراءات المتعددة للكتاب المقدس، وهو الشرط الأساسي المسبق لتطوير لاهوت حي مقابل الجثة الميتة للجمود المذهبي.

وبقدر تعلق الأمر بالعلاقات بين الإسلام والكنيسة الكاثوليكية ينظر الى راتسنغر باعتباره حذرا إن لم يكن معاديا. غير أن البابا بنيدكتوس السادس عشر هو الآن رئيس دولة وفي ذلك الإطار يتعين عليه أن يتعامل مع الدول الإسلامية التي يبلغ عددها 57 دولة في عالمنا. والشيء الايجابي أن هذا الكتاب، على الرغم من تقييداته المحتمة، يظهر أن رؤية البابا الجديد من الرحابة بحيث تسمح باستمرار الحوار القديم الذي يمتد عقودا بين الكاثوليكية والإسلام، بل تغطية مجالات جديدة في هذا الحوار.

* «العقيدة المسيحية وديانات العالم»

* المؤلف: جوزيف راتسنغر

* الناشر: إيغانتيوس بريس ـ 2004