المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن البابا أحدثكم.. وعن تناقضاته التسعة! ........... خالص جلبي



مجاهدون
04-14-2005, 11:19 AM
خالص جلبي

«من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر؟»

هكذا قال المسيح في قصة الزانية التي أمسك بها الفقهاء ليورطوه في رجمها فيقع تحت طائلة القانون الروماني بتهمة القتل، وإلا خالف الشريعة؟ ولكن المعلم أجاب ببراءة أن كل الناس يخطئون ويجب أن يغفر الناس لبعضهم البعض.

والبابا يخضع لهذا القانون فليس من كائن معصوم، مثل خلق الله كلهم; المسيحي والمسلم والبوذي والبابا وشيخ الأزهر وآية الله العظمى والحاخام، ولكن الكنيسة رفعت البابا إلى رتبة العصمة فلا يناله نقد أو يقترب من خطأ. ومشكلة العصمة، تجرأ رجل دين سويسري كاثوليكي هو (هانس كونج Hans Kueng) يعتبر من أهم التيولوجيين الكاثوليك في الوقت الراهن، أن يناقش هذه القضية بدون أن يحرق على النار ذات الوقود.

فوضع في الثمانينات كتاباً بعنوان Unfehlbarkeit? مع إشارة استفهام (؟) والكلمة تعني العصمة، أي أنها قضية غير مسلم بها، وتخضع للنقاش، ويومها طرح التيولوجي من جامعة توبنجن أسئلة محرجة للنظام الكنسي الكاثوليكي برمته بما فيها فكرة العصمة البابوية مذكرا بما فعل (مارتن لوثر) بأسئلته التسعين التي ثبتها على جدار كنيسة، فكلفه هذا أن تسحب روما منه ترخيص التدريس عام 1979م وتعلن البراءة منه، وهذا المرض لا يخص الكنيسة بل كل المؤسسات الدينية والحزبية، ولكن الدولة الألمانية حمته ورقّته إلى مستوى أستاذ بكرسي في جامعة (توبنجن Tuebingen) عام 1995م، والرجل يبلغ من العمر حالياً 75 سنة ومع موت البابا يرجع فيحرك المشكلات القديمة بكلمات جديدة. وأذكر أنني تعرفت عليه للمرة الأولى في فترة مكوثي في ألمانيا عندما صدر كتابه في الثمانينات وقامت محطة فضائية ألمانية بإجراء مقابلة معه، وهو اليوم بعد رحيل البابا (بولس يوحنا الثاني Johannes Paul II) يقوم بعرض نقدي لشخصية البابا المليئة بالتناقضات ليركز على تسعة منها، وهو لا يصفها بالخطايا التسع مقابل الوصايا العشر، بل يخففها إلى (تناقضات Wiedersprueche)، كما أوردت ذلك مجلة المرآة الألمانية في عددها 13 \2005 ـ ص 108 ـ 110 .

وقناة الديسكفري قدمت سلسلة من برنامج الوجه الآخر للزعماء(Altered Statemen) ، فعرفنا أن (بوريس يلتسين) كان يستيقظ سكرانا وينام مخمورا، واتخذ أهم قراراته السياسية مثل غزو الشيشان منفردا وهو تحت تأثير الفودكا. وكان (كيندي) يدخل من الباب الخلفي للبيت الأبيض العاهرات بالجملة فلم تكن واحدة لتشبعه، وقرر (أنتوني أيدن) خوض حرب السويس عام 1956م تحت تأثير تعاطي دواء البنزدرين وهو عقار نفسي مهلوس; فكانت عاقبة أمره خسرا، بعد انتظار طويل ليخلف تشرشل في آلة الحكم. وكان الرجل وسيما عاقلا فهم السياسة الخارجية ولكن العقار أذهب لبه وأطاش صوابه.

وإذا كان السياسيون قد اجتمعوا حول جنازة البابا يتبادلون المجاملات; فإن رجل الدين (هانس كونج) يضع الكنيسة وشخصية البابا تحت التشريح بمبضع نقدي لا يرحم كعادته، ليكشف الوجه الثاني للبابا. فيقول: إن وضع الكنيسة خطير، وما تحتاجه في انتخابات البابا الجديد تشخيص يحلل الوضع الداخلي للكنيسة، أما العلاج فيمكن التحدث عنه لاحقاً.
ويصف البابا بأنه كان يحكم بقبضته على نظام غير ديموقراطي ويتمسك بالقوة بكل الوسائل. ويشير وهو آسف إلى تلك النشوة التي رافقت المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965م) على أمل تجديد روح الكنيسة أنها تبددت فلم يبق منها شيء والمستقبل مظلم.

ويمضي (هانس كونج) في شرح إيجابيات شارك فيها البابا مثل موقفه ضد حرب العراق، ومساهمته في نقض عرى الشيوعية، وقبل سنوات أعلن البابا فتح الأبواب لـ 4500 ملف سري تعود لأيام محاكم التفتيش للمراجعة والتقييم، بنفس الوقت الذي أعلن فيه أن نظام محاكم التفتيش يذكر بالجستابو والستازي. ولكن كونج يقول لقد بالغت ماكينة الدعاية البابوية كثيرا في هذه الأمور فقد كان النظام الشيوعي في سكرات الموت بعد إصلاحات غورباتشوف ولم يكن البابا أكثر من مساهم في جنازته.

ويعقب التيولوجي (هانس كونج) إن (كارول فويتيلا Karol Wojtyla) بالنسبة له «ليس الأعظم ولكنه بالتأكيد البابا الأكثر تناقضاً في القرن العشرين، فهو رجل يعطي الكثير ومن تحت يده تخرج القرارات الأكثر خطأً»، فرسالته للعالم تطالب بالإصلاح والحوار، في الوقت الذي يكرس سياسة داخلية من إعاقة الإصلاح ورفض الحوار الكنسي في ظل سلطة رومانية مطلقة؟
يقول (كونج) إنني أعترف بالجوانب الإيجابية في أعماله الرسمية، ولكنني أركز على تسعة تناقضات جوهرية.

ثم يمضي (هانس كونج) فيجمل تلك النقاط التسعة في (1) (حقوق الإنسان)، و(2) (وضع المرأة)، و(3) (والجنس)، و(4)(والرهبنة)، و(5) (العلاقات الكونية)، و(6) (السياسة الشخصية)، و(7) (النظام الكنسي الاكليركي)، و(8) (نمو الكنيسة)، وأخيراً (9) ينتهي إلى (الأخطاء التاريخية).

فأما في مجال حقوق الإنسان فيقول كونج «كان البابا للخارج يمثل الوجه المضيء للدفاع عن حقوق الإنسان في الوقت الذي يمتنع عن تطبيق ذلك ضمن هيكله الداخلي، وخاصة النساء». والفاتيكان الذي كان خصما عنيدا فيما سبق لحقوق الإنسان يشارك حاليا في مؤتمراته ولكنه لم يوقع على حقوق الإنسان التي أقرها المجلس الأوروبي، ولا يوجد هناك شيء اسمه محاكمات عادلة فهي الخصم والحكم في أي نزاع معها. ومن دخل معها في نزاع فلا يأمل بأي حظ من النجاح.

وأما في وضع المرأة فيقول: وفي الوقت الذي تحدث فيه عن المثاليات للمرأة يحرم عليها موانع الحمل والمناصب، ويترتب على هذا تناقض غير قابل للحل بين مسايرة تيار القطيع العام والاستجابة للضمير الداخلي.

وأما في الجنس والأخلاق فيقول: انه يحاضر عن الجوع والبؤس في الوقت الذي يحرم أي تنظيم للنسل. وفي مؤتمر القاهرة عام 1994م كان من أكثر المشاركين حول عدم تنظيم النمو السكاني وتحريم الواقي ومانعات الحمل وبذلك يكون أكثر من أي سياسي مسؤولا عن انتشار الإيدز في أفريقيا. وترتب على هذا أنه رفض من أكثر المناطق كاثوليكية مثل البرتغال وأيرلندا وإسبانيا وبولندا.

وأما عن الرهبنة فيقول: إن كارول فويتيلا يدعو لعزوبية تقليدية ولكنه قاد إلى كارثة في نقص الراغبين في الانخراط في سلك الرهبنة، فضلا عن الفضائح الجنسية. ومع أنه ليس في الإنجيل وتقاليد الكنيسة شيء من هذا في الألفية الأولى، وهو أمر خطره عظيم يقود إلى مشاكل تربوية عويصة. ويترتب على هذا انكماش المنخرطين في الرهبنة إلى درجة استيرادهم من أفريقيا والهند، وفي ألمانيا انكمش الرقم بين عامي 1991م و2003م من 366 راهبا إلى 161، والنشيطون منهم تجاوزوا سن الستين.

وأما في العلاقات مع الكنائس الأخرى فيقول: إنه أثر سلبيا على العلاقات مع كنائس الأرثوذكس والبروتستانت والكنائس الإصلاحية ولا يعترف بها، ويترتب على هذا أن البابوية أثبتت نفسها كما في القرن 11 و16 أنها كانت العائق الأكبر لوحدة كنسية متعددة الرؤى.
وأما عن السياسة الشخصية فيقول: لقد خان مؤتمر الفاتيكان الثاني. واستبدل «الحوار والصداقة والانفتاح» بالتقييد والمناصب والطاعة غير المشروطة لشخصه مما يذكر بالقسم للفوهرر؟!. وترتب على هذا هرب الملايين من الكنيسة، أو الانسحاب على شكل هجرة داخلية. واليوم تعرض الكنيسة بيع كثير من دور العبادة إلا لاثنين المسلمين والشواذ.

وأما عن النظام الاكليركي فيقول: إنه رجل مؤمن قوي يمثل المسيحيين الأوروبيين، ولكنه يثير جبهة واسعة ضده من الاستقطاب الحاد بين المؤيدين والمعارضين مع تقوية لجبهة الوثوقيين الملحدين، ويؤدي إلى شك المؤمنين حول استخدام الدين كوسيلة للسياسة.
وأنا شخصيا اجتمعت يوما بفيلسوف ألماني في مدينة (آخن) وما زالت جملته ترن في أذني حين سألته عن المؤسسة الدينية قال: إنها أداة القوة في يد البعض.

وفيما يتعلق بعلاقة البابا بالجيل الجديد فيتكلم عن علاقات مشبوهة مع تنظيمات غير معارضة ذات ارتباطات مالية مع الفاشيين السابقين من نوع (Opus Dei)، وهو أمر ذكرته قناة الديسكفري عن تمويل تنظيم النقابات التضامنية بأموال أمريكية من ريجان بوسيط إيطالي وجد مشنوقا غريقا لاحقاً في نهر التيمز، ويقول إن الكنيسة حرمت ماليا تلك التجمعات التي تملك قدرة المراجعة والنقد، وأفسحت المجال لمن يمشي بدون اعتراض. وهذه مسألة قديمة في كل دين وملة ونحلة.

وأما عن الأخطاء التاريخية فقال لقد قام بالاعتراف بأخطاء الكنيسة ولكنها كانت كلمات جوفاء، وفي الوقت الذي غفر للصغار من المذنبين، بقي رجال الكنيسة المهمون بعيداً عن كل نقد ومراجعة. وهو يصب في نفس المقولة الإنجيلية أيها القادة العميان إنكم تبلعون الجمل وتسألون عن البعوضة.

وقال كونج إن موقف البابا عن وضع المافيات الداخلي كان دوما يدور حول التغطية والمواربة، أكثر منه الفضح والتعرية وبذا فهو يساهم في هذا النظام.

ليخلص إلى تقرير مثير حول وضع المؤسسة الدينية، فعلى الرغم من الوجوه الإيجابية فهي الأكثر خيبة، وفي النهاية فهي كارثة، وبفعل هذه التناقضات دفع البابا الكنيسة إلى أزمة عارمة: أزمة بنيوية نتج عنها قصور قاتل يتطلب وضعا إصلاحيا هائلا، فقد نشأ نظام قرون أوسطي ذو طابع شمولي، يعطل جهد الشخصيات الدينية، ويمارس العنصرية ضد المرأة، في جو تسود فيه فضائح جنسية، ويحافظ على طقوس شكلية، ويمنع أي نقاش ونقد، ويتم تجاهل رغبات الجمهور العريض للكنيسة، ويمنع الوعظ من غير رجال الدين، والتحريض على التجسس وكتابة التقارير. ولو حاول البابا الجديد أن يتابع نفس هذه الخطى فإنه سيدخلها في نفق مسدود. ومنه فعلى الكنيسة أن تبدأ في الإصلاح وبجرأة. كما يجري الإصلاح الآن في كل مكان.

وإذا كانت الكنيسة الآن أمام دورة إصلاح، فمن الأولى لحكومات العالم العربي أن تأخذ هذه النصيحة مأخذ الجدية. ولكن جماعتنا قوم غلبت عليهم شقوتهم وكانوا قوما بورا. ومن لم يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه.