المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقابر القاهرة: مدينة الموتى و«الأحياء» الجميلة



جبار
12-25-2004, 09:54 AM
مدافن الأثرياء أصبحت مزارات سياحية والفقراء يسكنون مقابر موتاهم حلا لأزمة السكن

القاهرة: محمد أبو زيد

«كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم»، «البقاء لله»، «هنا يرقد المغفور له»، «إقرأوا الفاتحة لمن يسكن هنا»، عبارات كثيرة من هذا النوع صافحت عيني وأنا أبدأ جولتي في مقابر القاهرة، والتي بدت من بعيد، من أعلى جبل المقطم، مدينة، هادئة، صامتة، كئيبة، يسكنها الموتى، لكن مدينة الموتى المصرية، وجدتها تختلف تماما من الداخل، ربما ذهبت عنها وحشة الموت، ربما لم تعد بذلك الرعب القديم القائم في النفوس، ربما استطاع المصريون أن يتآلفوا معه، وأن يعقدوا معه صداقات، الذي يبدو أن الموت هنا، في هذه المدينة التي تقع بالقرب من وسط القاهرة، بأسماء مختلفة، مقابر الإمام، ترب الغفير، الشافعي، لم تعد مجرد مقابر، لأن المصريين الأحياء قرروا ألا يتركوا موتاهم، أن يسكنوا معهم حتى النهاية، في مكان واحد، بل في مقبرة واحدة.

* ساعي البريد
* عندما تطرق الباب، لتدخل، لا تتساءل من يسكن هنا، ولا تتوقع أن يجيبك الموتى، لأن هنا يسكن الأحياء أيضا، في أحد شوارع مقابر البساتين، والمقامة على هيئة مدينة سكنية كبيرة، بيوتها من طابق واحد، البيت به غرفتان، تبدو الشوارع والبيوت كئيبة، لكن هذا ليلا فقط، أما في النهار فتدب فيها الحياة، ويخرج ساكنو مدينة الموتى الى شوارعها، ليسوا هم الموتى، بل هم الأحياء الذين اختاروا السكنى في صحبة الموتى، ربما هربا من ازدحام القاهرة، وربما هربا من جحيم الحياة إلى جنة الصمت، صمت الموتى.

في أطراف العاصمة هناك قطاع تقطنه الأغلبية العظمى، يقطنه الأموات أنها مدينة أو قل ضاحية إن شئت، تمتد وتستدير مع مدينة الأحياء ما بين شوارعها المزدحمة ـ وتلال المقطم ـ تلك الخريطة المقسمة دروبها تقسيما هندسيا تبين لك إذا وقفت عند مسجد الجيوش فوق القلعة من أعلى الحصن الذي قد قذف منه نابليون بقنابله العاصمة الثائرة، إنها ليست أرض الجبانة وان كانت القبور جزءا منها، بل هي مدينة مسطحة وحشية اللون لها هي أيضا شوارعها، على بيوتها أرقام كأنما تنتظر مع الصباح موزع البريد، ولكن إذا دق الباب فلن يفتح له أحد، فإذا دفعه دخل إلى مأوى كأنه مسخ للمعتاد من مساكن الأحياء:

حجرتان متجاورتان على أرضها بساط من التراب، وفي كل منهما نصب مستطيل من حجر أو جص وتحت الأرض إحدى الحجرتين يرقد الذكور من أموات الأسرة عزلهم الموت عن الإناث المدفونات في قبور الحجرة الأخرى، ويسجي الميت على لوح من الحجر مكفناً ولكن بلا ناووس، ومتاح لك زيارة مقابر المماليك حكام مصر خلال ستة قرون، وزيارة المسجد الذي يضم رفات سلالة محمد علي، ويرجع عهده الى القرن التاسع عشر وله زخارف كثيرة.

هكذا يصف ديزموند ستيوارت مدينة الأموات كما يسميها قائلا إن الذين ينكرون دوام الصلة بين أهل القاهرة من قبل أربعة آلاف سنة فإن في مدينة الأموات ما يكفي للرد عليهم، وكان الرومان يحرقون موتاهم والإغريق يدفنونهم خارج المدن على قارعة الطريق، أما الدين الإسلامي فمن سننه دفن الميت في قبر لا حد لبساطته حتى انك تستطيع بيدك أن تسويه بالأرض وتنفرد القاهرة من دون بقية عواصم الإسلام بنظامها هذا للمدافن وما يستتبعه من واجبات.

* مقابر الملوك والفقراء
* يبدو ان التقسيم الطبقي لا يسري فقط على عالم الأحياء، بل هو يمتد أيضا الى عالم الموتى، في مقابر القاهرة، هناك مقابر لا حد لبساطتها، هذه لفقراء وبسطاء المدينة الصابرة، وهناك أيضا (ترب الصدقة) التي يدفن فيها من لا أهل له، أو من لا يملك مدفنا خاصا، وهناك أيضا على الجانب الآخر مقابر الملوك والامراء، وهذا يمتد لعصور التاريخ القديمة، حيث كان الفراعنة يؤمنون بالبعث بعد الموت، فكانوا يصطحبون ذهبهم وأكلهم ومتاعهم معهم، حتى اذا بعثوا مرة أخرى ـ كما كانوا يعتقدون ـ وجدوا ما يحتاجونه، ولعل هذا يكشف لنا عن الأواني الفخارية، والأقنعة الذهبية التي اكتشفها المصريون مع موتى الفراعنة.

وأشهر قبر فرعوني هو الهرم الأكبر، الذي يقال انه يضم مقبرة الملك خوفو، وبه تابوته من الداخل، أيضا المقابر المنتشرة في الأقصر في وادي الملوك، ووادي الملكات في البر الغربي، ويكشف هذا عن علاقة المصريين بالموت وتقديسهم له، واحترامهم له، وعدم خوفهم منه.
ولكن اذا انتقلنا الى مقابر ملوك العصر الحديث فسنجد أنها اكثر بساطة ولعل الذي يزور منطقة البساتين (اسفل هضبة المقطم) سيكشف ان كل بيت (مقبرة) توضع عليه من الخارج لافتة رخامية مكتوب عليها اسم الميت، والذي غالبا ما يكون أحد أفراد الأسرة المالكة في فترة ما قبل الثورة، أو أحد الباشوات.

وتتميز هذه المقابر بالرفاهية، ففي حين تبدو المقابر الأخرى (في ترب الغفير مثلا) متروكة في العراء نجد أن مقابر هؤلاء الباشوات معتنى بها تماما، فبمجرد أن تفتح باب المقبرة لتدخل ستجد الورود التي تنتشر في كل مكان، والصبار أيضا، يبدو أنه مهم، كما نجد (سبيل مياه) مكتوب عليه «اقرأوا الفاتحة لساكن هذه المقبرة» وعادة ما يقوم أحد الحراس بحراسة المقبرة، والعناية بها، والاهتمام بورودها وصبارها أيضا، استعدادا للزيارة المرتقبة كل عام من أهل الميت في ميعاد وفاته.

(عم سعفان) الذي قابلته هناك تجاوز عمره الثمانين، لكنه ما زال قادرا على الضحك، يفتح فما بلا أسنان، ويطلق قهقهة عالية، قبل ان يرفع سيجارته، محلية الصنع، الى فمه، يبتسم ويقول لي: ان مهنة الدفن تتيح له أن يعرف انساب العديد من البشر، كما تتيح له أن يصادق الموتى.

حينما سألته داهشا، تصادق الموتى؟ رد علي مبتسما: نعم، أصادقهم، لانه مع العشرة يسقط حاجز الخوف والرهبة من الموت، بل وتنشأ علاقة حميمية بينك وبين الميت الذي ترعاه والذي في منطقتك.

وتابع: اعرف الموتى هنا بالاسم واعرف ابناءهم، وآباءهم بعضهم جاء حيا لكي يدفن احد اقاربه، ثم جاء بعدها جوالا على الاكتاف وعشرة الموتى والموت تزيد ايماني أيضا، لانها تعلمني ان الحياة فانية، وزائلة وان الموت يستطيع أن يخطفك في أي لحظة.
حينما سألته أين يسكن، دهس ما تبقى من سيجارته بحذائه على الارض الرملية، ورفع يده مشيرا الى احدى المقابر الفاخرة قلت له في هذه المقبرة؟ قال لي نعم، اسكن فيها أنا وعائلتي وأحد الباشوات، وتابع ضاحكا: من الموتى طبعا.

وحين سألته عن قصة هذا الباشا الذي يسكن مقبرته، قال لي انه كان من اقطاعيي ما قبل الثورة، ولكن عندما قامت الثورة وقامت بتأميم الأملاك، فقد ما كان يملكه، ومن ثم فقد حياته من بعدها، وحين دفن هنا في مقبرة أعدها من قبل وسط مقابر المشاهير والملوك والامراء، كان ابنه وزوجته يأتيان كل عام لزيارته ولاحضار الورد له، وكنت صغيرا وكانا يوصياني في كل عام ان اعتني بها وبالزرع، بعد عدد من السنوات ماتت زوجة الباشا فدفناها معه، ولم يعد يأتي إلا ابنهما والذي انقطع بعد فترة، ويبدو أنه هاجر خارج مصر حيث بلاد الله الواسعة.
عم سعفان سحبني من يدي الى داخل مقبرته، اقصد داخل بيته، فوجئت بالنظافة والرعاية التي تحيط بالبيت، داخله كانت هناك حجرتان وأخرى بها شاهد القبر، الذي وجدت احد الاطفال بجواره، عم سعفان علق قائلا: قلت لك هنا تسقط هيبة الموت، ونعقد صداقة مع الموتى فمحمود (ابني) لا يحلو له اللعب إلا بجوار مقبرة الباشا.

داخل احدى الحجرات كان هناك سرير كبير ودولاب خشبي كبير أما في الحجرة الأخرى فكان هناك ثلاث كنبات وبعض اواني الطهي وبوتاجاز صغير، خرجت من البيت ـ المقبرة ـ وأنا اتذكر مقولة عم سعفان لي وهو يودعني: الحياة الحقيقية هي أن تصنع من قلب الموت حياة.

* عيد «موت» سعيد * على خلاف الكثير من الشعوب العربية والاسلامية، يفضل المصريون ان يقضوا عيدهم بين موتاهم، حيث تخرج العديد من الأسر التي لها موتى الى مقابرها (لتعيد) عليها ولتذكرها في يوم فرحها، يحمل كل منهم سلة بها طعام، أو كعك، أو فاكهة، أو ما يسمى بالصدقة كأنهم خارجون في نزهة أو رحلة لتوزيعها على الفقراء على روح موتاهم.

يخرج المصريون في الاعياد الى المقابر لزيارة موتاهم الذين صاروا عاجزين عن لبس الاثواب الجديدة في العيد أو التمتع بالفسحة وشم الهواء، وكان هذا هو الشأن ايضا أيام الفراعنة في مواسمهم ايضا، وان اختفت اثنتان من عاداتهم الآن هما تحنيط الموتى والدفن في الضفة الغربية من النيل، حيث مملكة اوزيريس، كما قلت لكم من قبل، فعلاقة المصريين بالموتى علاقة غريبة حيث نجد الكثير من القرى المصرية في ريف مصر، وفي صعيدها عبارة عن بيوت تلتف حول المقابر، حيث تصبح المقابر هي مركز القرية، وفي احيان كثيرة تصبح مكانا للسهر، أو اللعب، أو اقامة الحفلات بين الشباب.

ويختلف في مقابر القاهرة عدد زوار المقابر حسب شخصية المدفون فيها، ففي حين تظل مقابر الصدقة بلا زوار، نجد أن هناك العديد من المقابر لا ينفض من حولها الزوار، اشهر مقابر القاهرة، مقبرة عبد الحليم حافظ والتي يتجمع فيها عشاقه يوم رحيله، يذهبون اليه حاملين باقات الورد والهدايا وعلى جدران مقبرته نجد العديد من الرسائل المرسلة اليه والمكتوبة بخطوط أغلبها «بناتي» كما نجد أمام المقبرة باعة العطور، والمصاحف، وصور عبد الحليم حافظ. ومن المقابر الشهيرة أيضا مقبرة شاه ايران والمدفون في مسجد الرفاعي بمنطقة القلعة في مصر الفاطمية بأمر السادات والذي تأتي زوجته كل عام لزيارته في ميعاد رحيله.

* مدافن استثمارية
* حين سألت (سامية) هل تعرفين يا سامية المقابر الاستثمارية، لم تجبني، سامية التي تسكن مع زوجها وابنائها الستة احدى مقابر الإمام حدثتني عن منزلهم الذي تهدم في منطقة مصر القديمة اثناء زلزال 1992، سامية حدثتني أيضا عن أيام (سوداء) عاشتها مع زوجها واولادها في الخيام، آخر ما حدثتني عنه سامية هم اولاد الحلال الذين دلوهم على هذا المكان حتى يؤيهم.

سامية لا تشعر بالغربة هنا، واولادها يذهبون كل صباح الى المدرسة مارين بين المقابر، وزوجها يذهب الى عمله ويعود، وحين أسألها: هل انت سعيدة هنا؟ تقول لي جملة واحدة: الحمد لله.

أما المقابر الاستثمارية التي لا تعرفها سامية فقد بدأت مع اعلان نشرته صحيفة «الاهرام» اليومية المصرية عن مشروع مدافن خاصة للمسلمين بالاشتراك مع احدى الجمعيات الخاصة، وقد تضمن الاعلان عرضا لمزايا المشروع ومنها حراسة خاصة وانارة 24 ساعة ومساحات خضراء واماكن لانتظار السيارات وغيرها من الخدمات، وقالت الشركة في الاعلان الذي نشرته (الآن فقط تستطيع أن تصطحب اولادك لزيارة اجدادك) مشيرة الى أن سعر المقبرة الواحدة يبلغ 39 ألف جنيه مصري يتم دفع حوالي 6 آلاف جنيه كمقدم حجز للمقبرة والباقي على سنتين بلا فوائد.

وهناك معايير اخرى تتحكم في سعر المدفن منها الموقع وهل يطل على شارع رئيسي أم فرعي، ومساحته، والتشطيبات ونوع زخارف التي تزينه ومدى قربه من القاهرة، فهناك مدافن مصر الجديدة والتي تعد مدافن الصفوة وقد يزيد سعر المدفن الواحد فيها على سعر أي شقة في حي راق حيث يبلغ في بعض الاحيان اكثر من 150 ألف جنيه.

ويتحدد سعر المدفن بمساحته التي تبدأ من 20 مترا مربعا وتصل في بعض الاحيان الى 200 متر مربع ثم تأتي تشطيبات المقبرة من الداخل من حيث نوع الرخام الذي يغطي الارضية وحسب ما اذا كان مصريا أو مستوردا حيث تزين المقابر غالبا بأجود أنواع الرخام من الألباستر والبلترو أو السيراميك الفاخر اضافة الى الآيات القرآنية المكتوبة على المقبرة بماء الذهب.

وتشييد هذه المدافن على هيئة فيلا صغيرة يحيط بها سور كبير من الخارج مبني من الطوب الحراري، وبوابة حديدية على المدخل المؤدي الى المقبرة الذي يصمم بدقة وعناية وبشكل مختلف من مقبرة الى اخرى حيث يتم تزيينها في بعض الاحيان بالاعمدة الرومانية أو بعض الزخارف الاسلامية كما يتم زراعة المنطقة المحيطة بالمقبرة من الداخل بأندر أنواع نباتات الزينة والزهور اضافة الى تخصيص اماكن لجلوس الزوار مغطاة بمظلات لحمايتهم من الشمس في الصيف والمطر في الشتاء وفي حالة اذا ما كان صاحب المقبرة من الشخصيات العامة التي قد يتردد على زيارته شخصيات كبيرة فانه يتم تخصيص دفتر يدون فيه الزائر كلمة للمتوفي وتاريخ الزيارة ويتولى نظافة هذه المدافن من الداخل مجموعة من العمال نظير مبالغ مالية يتقاضونها من ملاك هذه المدافن (الأحياء بالطبع).

* البقاء لله
* لا تعرف سامية كل هذا، ولا تفكر فيه، وربما اذا حدثتها عن هذه المبالغ المالية الكبيرة، عن هذه الرفاهية، التي لا تحلم بها وهي من الاحياء بها، ستظنني أسخر منها، فضلت ان اترك سامية لتعتني بأولادها الذين سيعودون بعد قليل من المدرسة ويمرون بين المقابر من دون أي خوف، لتعد الطعام لزوجها الذي سيأتي ويجلس بجوار المقبرة من دون أي مشكلة، تركتها، لأفكر في الحياة، في الاغنياء الذين لم يعودوا يسمعون عن الفقراء، عن الاحياء، والموتى، عن المشاعر التي اختفت، عن الحب، والرحمة، والتعاون والايثار، وحين وصلت الى هذه النقطة رفعت عيني الى جدار احدى المقابر، كان مكتوبا عليها: البقاء لله.