المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات شيخ أزهري عن باريس والفرنسيين



مجاهدون
12-12-2004, 04:26 PM
الشيخ مصطفى عبد الرازق يقدم قراءة للآخر في العلوم والآداب والفنون والسياسة والاقتصاد والمجتمع

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وفي اطار سلسلتها ارتياد الآفاق، كتاب بعنوان «مذكرات مسافر ـ رحلة شيخ الازهر الى اوروبة»، وهو ما كتبه الشيخ الازهري مصطفى عبد الرازق الى باريس ومدن اوروبية اخرى في الفترة من عام 1909 الى عام 1914. وقد حرر الكتاب وقدم له الباحث أشرف أبو اليزيد. ومن مقدمة الباحث نقتطف ما يلقي الضوء على تلك الرحلة الشهيرة وما احاط بكتابة المذكرات حولها.

لعلَّ الصدفة وحدها كانتْ أولَ خيطٍ قادني لقراءةِ أوراق هذه الرحلةِ المهمةِ. وهي صفحاتٌ منسية، رغم أن مسطرَّها من الأعلام النادرين في تاريخ النهضة المعاصرة، لما بلغه من مكانة، وما تركه من أثر. وفي أوراق هذه الرحلة من شذرات التنوير ما يجعلها أكثر معاصرة مما يكتبه دعاة التنوير اليوم، وفيها من الدعوة للحوار مع الآخر وفهمه، ما يكاد يكون صدى لما يحدث الآن.

يذكر الشيخ علي عبد الرازق أنه على أثر استقالة شقيقه من مدرسة القضاء، وتفاقم الفتنة في الأزهر، وكثرة الاضطراب والارجاف، نشأ التفكير في أن يسافر مصطفى إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية وبعض العلوم هناك. واتفق أخوته على أن يسافر إلى باريس ليقيم فيها سنة كاملة ليتعلم اللغة ويحضر بعض دروس الفلسفة في السوربون. وفي يوم الثلاثاء 22 يونيو (حزيران) 1909 ميلادية يسافر الشيخ مصطفى عبد الرازق من مدينة القاهرة إلى ميناء بورسعيد. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي تبحر به السفينة متجهة إلى مرسيليا ليأخذ القطار منها إلى باريس، وكان يرافقه على متن هذه السفينة الأستاذ أحمد لطفي السيد، رئيس تحرير «الجريدة» لسان حزب الأمة آنذاك.

وقد قضى الشيخ مصطفى عبد الرازق في هذه الرحلة الأولى إلى فرنسا ثلاث سنوات متتابعات، فلم يعد إلى مصر إلا في شهر يوليو سنة 1912 ميلادية. كانت عودة الشيخ إلى مصر لشهور قليلة، وما لبث أن شد الرحال مرة أخرى إلى باريس. ونحن نقرأ عن هاتين الرحلتين في أكثر من موضع، حيث يكتب صديقه الأثير الأديب محمد كرد علي: سَافرَ (الشيخ مصطفى عبد الرازق) إلى باريس في 1909 ميلادية، فتعلم الفرنسية وحضر دروس الأستاذ دركهايم في الاجتماع، ودروسًا في الآداب وتاريخها. وفي سنة 1911 ميلادية تحول إلى مدينة ليون ليشتغل مع الأستاذ إدوارد لامبير في دراسة أصول الشريعة الإسلامية وحضر في جامعة ليون دروس الأستاذ جوبلو في تاريخ الفلسفة ودروسًا في تاريخ الأدب الفرنسي، وتولى تدريس اللغة العربية في كلية ليون مكان مدرسها، الذي كان قد ندب للتدريس في الجامعة المصرية.

كان الشيخ مصطفى عبد الرازق حين عاد لفترة قصيرة من فرنسا عام 1912 ميلادية قد وجد أمه على فراش الرحيل للدار الآخرة. وبعد وفاتها، تداول الأخوة في أمر سفر الشيخ مصطفى مرة أخرى، واستقر الرأي على سفره إلى فرنسا، وسفر شقيقه علي إلى إنجلترا، كما كان والدهما الراحل يوصيهما. وفي مساء يوم الاثنين السابع من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1912 أبحرت بهما الباخرة من بورسعيد إلى مرسيليا فوصلاها في صباح السبت 12 أكتوبر ومنها انطلقا صباح يوم الاثنين 14 أكتوبر إلى ليون، حتى غادراها في السابع عشر من أكتوبر إلى باريس.

وفي العاصمة الفرنسية يظلان معا حتى 24 أكتوبر، حيث يترك الشيخ علي شقيقه مصطفى، منطلقا إلى لندن. ولم يكن بين المسافرَين من اتصال إلا عبر المكاتبات، وزيارة وحيدة لعلي إلى باريس أقام فيها الشقيقان معا بين الرابع من أغسطس والحادي والعشرين منه عام 1913 ميلادية. وحين مرض الشيخ مصطفى عبد الرازق مرضا شديدا خاطب شقيقه المقيم بلندن برسالة في 19 فبراير (شباط) 1914 ميلادية. وكان أن تسلم الشيخ علي عبد الرازق برقية أخرى من مصر يطلب إليه أن يلزم الشيخ مصطفى عبد الرازق الرجوع لمصر.

فغادر أكسفورد إلى باريس مساء 26 فبراير، ليصل إلى المستشفى التي يقيم فيه الشيخ مصطفى عبد الرازق، حيث اطمأن عليه. كان الشيخ المريض يجد راحته هناك، وهي الراحة التي أرقها قيام الحرب العالمية الأولى في يوليو 1914 ميلادية وكان لا يزال في المستشفى. ويلح المصريون على أقاربهم في أوروبا ليفروا إلى مصر قبل أن تنقطع بهم السبل، ويستطيع الشيخ مصطفى عبد الرازق أن يجد له محلا في سفينة حملته إلى بر مصر قبل أن ينتهي عام 1914 ميلادية.

و«مذكرات مسافر»، هو العنوان الذي اختاره الشيخ مصطفى عبد الرازق ليسبق قراءة أوراق رحلته، حين وضعه على رأس ما نشره في جريدة «السياسة» وقد أعطى لكل مقالة عنوانا فرعيا. وإذا قارنا بين ما سردته المصادر عن الرحلة وما سجله قلم الكاتب نجد أن مسار الرحلة يبدأ في مصر، وفيها ينتهي. وما بينهما يسافر الشيخ مصطفى عبد الرازق بين مدن مرسيليا وباريس وليون وريفها وجرينوبل وإكس ليبان ولندرة (لندن).
أراد الشيخ مصطفى عبد الرازق أن تكون مذكراته قراءة للآخر المخالف لنا في العلوم والآداب والفنون والسياسة والاقتصاد والمجتمع، وما أراه إلا مصيبا في ذلك كله، ناجحا في عقد المقارنة إذا صحت، واستشفاف المطابقة إن وجدت، واستنباط الدروس ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

فهو يقارن بين رحلة البر وسفر البحر. ويقارن بين مشاهد باريس وأحوال لندن. ويقارن بين حياة مدينة ليون وريفها. ويقارن بين الثقافات في الشرق وتلك التي في الغرب. مثلما يقارن بين الأطعمة والمشارب والعادات والتقاليد، وبين الشرطي في مصر وبريطانيا، والنادل على نهر النيل ونظيره على نهر السين. حتى تصبح الرحلة بمثابة قراءة سوسيوـ ثقافية لمجتمع يزوره دارس للفلسفة، مبحر في التراث، ومعتدل في الفكر.

وقد شغف الشيخ مصطفى عبد الرازق بباريس شغفا شديدًا، وفيها قال: باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس! وهل غير باريس للحور والولدان والجنات والنيران، والصراط والميزان، والفجار والصالحين، والملائكة والشياطين؟! ولا شك أن أفكار الشيخ مصطفى عبد الرازق امتداد لأفكار زوار باريس منذ القرن التاسع عشر، لكنه استطاع أن ينقل ـ في كل خطوة ـ المعاني التي أرادها بشفافية بالغة.

ولم يكن هناك من تحيز أعمى أو تحزب بغيض أو تطرف هوى. وفي الرحلة لقاء بمختلف الجنسيات والأديان، ومنها يقف موقف الشيخ المعتدل، الذي يضيء برأيه مواقف المغايرين له أكثر مما ينفر منهم. على الباخرة التي تقله إلى مرسيليا يلتقي بهندوسي مع أسرته، ما أن يعرف أن الشيخ مصطفى عبد الرازق محمديا، أي مسلما، حتى يهمس لمن معه ما لم يسمعه الشيخ. إذ أن التناحر كان مشتعلا بين المسلمين والهندوس حول البقرة في الهند، يقول الشيخ: ومَنْ مبلغُ صاحبِنا عني أنني ـ على شأن العيش والملح ـ لا أهين البقر ولكنني لا أعبدُه. وبعد. فيا ليت المسلمين والهندوس لا يتناحرون من أجل حيوان معبود!