المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصلواتيون في حلق النار !



مجاهدون
12-08-2004, 05:16 PM
كتابات - علاء الزيدي


في كانون الأول ( ديسمبر ) من عام 1985 ، كان " ماكس هيستنغ " يعمل كاتب فري لانسر ( مستكتباً ) وكاتب عمود في جريدة " صندي تايمز " اللندنية ، من محل إقامته الريفي الهادىء في " نورثامتنشاير " ، عندما قـُدِّمَ له العرض المفاجأة .

عرضت عليه جريدة " ديلي تلغراف " منصب رئاسة تحريرها ، فقبل على الفور . فهي ديلي تلغراف و ما أدراك ما ديلي تلغراف ! صيت ذائع وتاريخ عريق يمتد إلى القرن ما قبل الماضي . لكنها كانت مفلسة تقريباً عندما جاء إليها . و كان عليه أن يعيـِّن فريقا جديدا للعمل ، وإن كانت نتيجة ذلك إزاحة " الحرس القديم " بلا شفقة ، في سياق ثورة صامتة حوّلت الجريدة ، بالتالي ، إلى واحدة من أنجح وأربح الجرائد في شارع الصحافة " فليت ستريت " .

لخص هيستنغ تجربته التي دامت عشر سنوات في كتاب مؤخرا ، تحت عنوان " المحرر " . لعلـّي أستطيع تلخيصه في فقرة واحدة ، تبين مقدار معاناة الكاتب الصحفي وعذابه .

في غمرة إحدى أزمات حكم المحافظين المستوطنة ، في بداية التسعينات ، سأل ماكس هيستنغ ذات يوم مايكل بورتيللو وزير الخزانة عن كيفية تحمله نمط حياة الوزير : المال القليل ، الساعات المؤلمة ، لا حياة عائلية ، الإهانات العمومية القاسية ، بينما يعيش أفراد مثلي ( والكلام لماكس ) حياة أكثر مرحاً واكثر ربحا . قال بورتيللو :

- ربما . لكنكم تعيشون على خط التماس . فيما نعيش على مبعدة !

هذا بالنسبة للكاتب الصحفي والمحرر الذي يتقاضى شيئاً قلّ أو كثر لقاء ما يكتب وينشر ، فكيف بـ " الصلواتي " !

والصلواتي – لمن لا يعرف هذا المصطلح من القراء - هو المتطوع الذي يقدم خدمات مجانية للآخرين ، لقاء " ثمن " معنوي ، هو الصلاة على النبي وآله . وقد شاع هذا المصطلح في إيران إبان نقائها الثوري في السنوات الأولى لثورتها ، حينما كان الجميع يخدم الجميع مجاناً ، طمعاً بثوابٍ تضمنه صلوات مهيبة ومجلجلة على النبي المختار وآله الأطهار ، ولا شيء فوق ذلك !

ويبدو أن هذا السلوك الحميد مقتبس من روايات وأحاديث شريفة تتحدث عن شبع روحي وقناعة معنوية في العهد المهدوي المنتظر ، يطبعان الحياة بطابعهما . فبعد أن يعم الرخاء وتخرج الأرض كنوزها انسجاماً مع العدل السائد ، لا تعود للأثمان والأسعار والأموال قيمة تذكر .

للكاتب الصحفي الصلواتي عدة صور للمعاناة . إذا تغاضينا عن المادية منها انطلاقاً من أنه لا رازق إلا الله ، فلسنا بقادرين على تجاهل الصور الأخرى .

من أبرز هذه الصور ، أن المثل البذيء القائل " فوق فعلتها جيلة ماش " ينطبق عليه ! فهو مطالب بأن يكتب مجاناً ، لوجه الله أو لوجه عبد الله ، ومطالب فوق ذلك بمختلف الأشياء ، حتى المضحكة منها . فكمثال : أعلن أحد الشبان من أصحاب المواقع ، يوماً ، أنه سينشر للمكاتبين من الخارج في حالة واحدة فقط ، هي أن يدفع الكاتب مائة دولار ثمنا لنشر مقاله في موقع الشاب الطيب !

وفي مواقع أخرى ، يتم التشهير بالكاتب وسبِّه بـ " أحسن منها " في سوق عكاظ ، وبلغة ركيكة تبين الطبقة الرفيعة ثقافيا واجتماعيا لبعض " الزملاء " من مهندسي الكمبيوتر الذين فتح الله عليهم فأغلقوا علينا معاشر أهل القلم ، إذا ما اعترض على عدم نشر " مقالات " له ، وليس مقالا واحدا أو مقالين ، دون موجب منطقي .



وأكثر صور المعاناة ، في هذا الإتجاه ، تلك الصورة التي تكاد تقترب من الإرهاب الفكري . فإذا كان قارئك شيوعياً سابقاً ، فشحدَّك تقول لستالين على شفايفك شوارب ! وإذا كان أميركانياً فإياك أن تنال من طلعة رامسفلد البهية ..

وإذا كان خاشاً بالإبريق على النمط الرفسنجاني فحذارِ من الانضمام إلى حزب " ضد ولايت فقيه " . وإذا كان عضوا في حزب كردي فكركوك تابو .. ك ! وإذا كان قومجياً عربيا ففنـَّك تنتقد ساطع الحصري ، أو ربما عفلق أو حتى مزهر الدليمي !

وإذا كانت أميركانية تواقة للتجرد فإياك إياك أن تحصي فوائد " اللباس " ! وإذا كان .. وإذا كنّ .. وإذا كانوا … وهكذا … !

يحلو للكثير من الزملاء أن يشيروا ، بمناسبة أو بغيرها ، إلى شمولية المتدينين وإرهابهم الفكري وتكميمهم الأفواه و … وقد تابعت على مدى سنين ما يكتبه هؤلاء الزملاء أنفسهم ، فوجدت أن الشتيمة تلفّ تلفّ وترجع على صاحبها ، كما يقول عادل إمام . فلم يترك هؤلاء الأعزة شيئاً ذي صلة بالدين إلا و نبشوا عظام أجداده . حتى أن قاصا معروفا سخر قبل يومين حتى من طريقة نحر الأضاحي . حتى كأن العالم المتحضر لا يذبح خروفاً أو خنزيراً أو دجاجة . لكن ليجرب متدين من الكتاب ، وليكتب عن المرض الجنسي الذي أفضى بفلاديمير لينين إلى الجنون قبيل موته . أو عن استحقاقات الليبرالية التي تفرض على الإنسان ألا يتعرض بسوء للشاذين أوالشاذات جنسياً حتى لو كانوا من أبنائه أو بناته . أو عن مساوىء التعري في الساحات العامة . أو عن مضار العرَق المسيَّح . أو عن شذوذ كافكا ، وليلم أحداً غير نفسه !

تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أيها السادة والسيدات : لنتفق جميعا أن المجتمع الذي لا توجد فيه اختلافات عميقة في الرأي مجتمع خيالي لا وجود له – حتى الآن في الأقل – وأن التحضر والتمدن والعيش في الغرب المنفتح تحدو بنا إلى احترام تعدد الخيارات والأفكار والآراء ، فلندَع – جميعا وبطيب خاطر – ألف زهرة تتفتح ، ولن نخسر شيئاً .. بالتأكيد ، إن لم نربح الكثير من الأشياء الإيجابية .