المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحيل عرفات.. سوسيولوجيا عبادة الفرد



المهدى
11-20-2004, 12:24 AM
خالص جلبي

يقول المثل: «من تكلم في الأفكار كان رائعاً وحلق مع الغمام نقياً، ومن تحدث في الأشخاص تورط وجلب لنفسه العداوة أو رفع البشر إلى مقام الألوهية، كما فعلت الكنيسة مع المسيح. ومن تكلم في الأشياء كان سخيفاً وتافهاً وانكمش دماغه في مربعات الأشياء»
ولكن ماذا نفعل إذا كانت القضية الفلسطينية ضغطت إلى حجم رجل واحد في صورة (عرفات). مما يذكر بما وصف ستالين يوماً أنه «أهم فلولوجي، وأنجح اقتصادي، وأكبر مؤرخ، ورائد الإنسانية العبقري، وأعظم قائد عسكري في جميع الأزمنة والأمم، وزعيم الطبقة العمالية في كل مكان، وملهم الإنسانية التقدمي، والزعيم المعصوم، وأكبر عبقرية عرفتها الإنسانية»!

وحسب تقسيم المفكر الجزائري (مالك بن نبي) في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي»، فهناك تطور طبيعي في رقي الإنسان بين «ثلاثة» عوالم; إذ ينمو طبقا عن طبق من عالم «الأشياء» إلى عالم «الأشخاص» إلى «عالم الأفكار»; فالطفل لا يفرق في مطلع حياته بين زجاجة الحليب وثدي أمه، ويقبض على الجمرة مثل الجوهرة، ثم يدخل عالم «الأشخاص»، فيفرق بين أمه وأبيه وصاحبته وأخيه. ثم يدخل عالم الأفكار ويصبح تجريديا فيتعلم، كما آدم، الأسماء كلها، فيشابه في هذا المجتمع في الانتقال من دور «الوثنية» إلى دور «الأبطال» لينتهي بدور «الفكرة». وحيث تشع الفكرة تذوب أصنام الشمع، وحين تغيب شمس الفكرة يبزغ الصنم.

ولأن العرب أطاعوا ساداتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل، فهم ما زالوا يراوحون بين مرحلة «الوثنية» و«عبادة الأبطال». والأصنام تحيي بعضها بعضا، وتخلق بينها نوعا من التحالف الضمني باعتبارها «نقابة» ذات مصالح مشتركة، يقف خلفها كهان مدربون من السياسيين، لذا رأينا تحالف صدام مع عرفات في حرب خاسرة.
وفي نوفمبر 2004 مات زعيمان عربيان الأول هو الشيخ زايد بن سلطان حاكم الإمارات والثاني ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني.

فالشيخ زايد مات بدون ضجة كبيرة، وودع في جنازة رسمية بسيطة، كما ترسو السفينة على الشاطئ بعد رحلة طويلة، بدون عداوات شخصية. فلم يسجن أحدا سبعة عشر عاما في زنزانة انفرادية، أو طفلا لمدة عشرين سنة، كما جاء في كتاب «السجينة».
كما لم يرش مواطنيه بالغازات السامة، فيتساقطوا مثل البعوض والذباب. أو يزربهم كالبهائم في زنازين تحت الأرض عشرين سنة فيموتوا مرضا وجنونا واختناقا بالبراز، والتهاما من الصراصير كما كتب الطاهر بن جلون في «تلك العتمة الباهرة».

مات الشيخ زايد بدون تماثيل ونصب أو زحف مليوني، كما حدث في جنازة عبد الناصر، ووداع الفرعون بيبي الثاني. وأذكر أنا شخصيا في بيروت عام 1970 يوم إعلان موت عبد الناصر والعشرات ينقلون إلى مشفى المقاصد الخيرية تحت تأثير الصدمة، ومنهم من انتحر، أو مات دعسا بالأقدام.
والفرق بين الوثنية والتوحيد هو في استبدال الذات الإلهية بالذات البشرية الفانية. وفي القرآن جاء ذكر «ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا» أنهم بشر، حولهم البشر إلى ما فوق البشر فعبدوهم فضلوا وأضلوا كثيرا.

نحن أمام صنفين من الموت: فقد مات من الغربيين ديجول وتشرشل وروزفلت وفرنسوا متران واسحق رابين. ومات عبد الناصر والأسد وعرفات في الشرق. فأما الصنف الأول فمات بدون ضجة، وذهب للقاء ربه وحيدا فريدا. ومات الصنف الثاني مثل أباطرة الصين في هياج جماهيري وزعيق صبياني وعبادة للذات الفانية ودعس الناس بعضها بعضا بالأقدام. مما يؤشر على مستوى نضج الأمة أو تخلفها العقلي.
ومع أن الصنف الأول حقق أعظم الانتصارات وقهر النازية وجاء إلى الحكم بالشرعية، فقد مات على صورة بشرية ودفن بصورة إنسانية، أما الصنف الثاني فقد جر على الأمة الهزائم، وكبلها بالديكتاتورية، وأدخلها سوق الفقر، وأذاقها الذل والعذاب أصنافا، فقد خلد مثل المسيح عند الكاثوليك.

وهذا المرض ليس عربيا بل إنسانيا، مثل القراد الذي يضرب خلية النحل فيقص الأجنحة فتعجز عن جمع الرحيق. ففي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي بتاريخ 25 فبراير 1956 استهل خروتشوف خطابه بهذه الفقرة: «إنه من الغريب عن روح الماركسية اللينينية أن ترفع شخصاً واحداً إلى سوبرمان يملك صفات الله فيعرف كل شيء، ويرى كل شيء، ويستطيع أن يصنع كل شيء، ويفكر عن الجميع، ويكون معصوماً في سلوكه».

أما ماوتسي تونغ في الصين فيصفه الشعراء أنه: «من الممكن استنزاف جميع كلمات المدح في العالم، ولكن هذه الكلمات لا تستطيع التعبير عن حكمتك وعظمتك. يمكن استنزاف جميع أناشيد العالم، ولكن هذه الأناشيد لا تستطيع التعبير عن صفاتك ومنجزاتك الكبيرة».
ويذكر الكاتب والصحفي الألماني بيتر شول لاتور أنه زار مدينة عربية مسح نصفها بالصواريخ، وارتفعت فوق الأنقاض صوره الهائلة. قال الرجل: أدركت حكمة الإسلام في حرمة تعظيم الصور.

علينا أن نحلل هذه الظاهرة الخبيثة في عدة مستويات بدءًا من البيولوجيا وانتهاء بالحضارة. في علم النفس تمرض الروح بالنرجسية وتصاب بعقدة (الكمال)، وكل انتفاخ بيولوجي علامة مرضية، فانتفاخ العينين الصباحي مؤشر على قصور كلوي، وانتفاخ القدمين المسائي يوحي بوهن قلبي. والذي حجز اليهود في مربع الجيتو هو اعتبار أنفسهم شعب الله المختار. وشعار «ألمانيا فوق الجميع» كلف الشعب الألماني ستة ملايين شاب. وفي السياسة ينفخ الكهنة في ألوهية الحاكم فيوحون له أنه جمع بين حسن يوسف، وعقل أرسطو، وحكمة لقمان وسلطان قورش، وعظمة الاسكندر وأنه خالد. ولكن الطبيعة تعمل على طريقتها الخاصة فتمتد له يد الموت القاهرة، وتأتيه رسل الموت يتوفونهم وهم لا يفرطون.

مات عرفات فتسمرت عيون الناس على جراب مسدسه أكثر من غصن الزيتون الذي لوح به فنسوا الزيت والزيتون، ومات مثل ستالين بفرح من الرفاق، وتعزية من كوريا الشمالية، واستعداد من عصابات بيريا للانقلاب. ومطالبة زوجة بيولوجية بحصة من السياسة والمال فقد تفاوضت مع «الرفاق الثوريين» كما ذكرت مجلة «فوكس» الألمانية، على ثروته التي تقدر بأكثر من أربع مليارات دولار، فنالت 31 مليون دولار ونفقة شهرية متواضعة بقيمة 35 ألف دولار. (عاش) مثل البابا في بيعة أبدية، وأطبق بيده على الأمور مثل كاسترو، في سلطة بدون انتخابات، ومتى وجدت الانتخابات في الحلقات الصوفية؟ ولو وجدت لما زادت عن انتخابات طاغية عربي بنسبة 95% في زمن فخر المصلين وشمس الواعظين.

كتبت مجلة «در شبيجل» الألمانية عن الفساد في السلطة الفلسطينية. فليس هناك قضية مركزية مثل القضية الفلسطينية، وليس مثلها كارثة مركزية. بعد أن تحولت السلطة إلى «مافيا» كما رآها ادوراد سعيد. أو بتعبير مبارك عوض داعية اللاعنف المقدسي بزوغ عصر «الأبوات». حين تختفي الأسماء وتتشح الشخصيات بأستار من المجهول في منظمة تمارس طقوسا سرية يقودها أشباح من «أبو عنتر» و«أبو الجماجم». وفي أول يوم انتخب فيه رئيس جديد أطلق عليه النار وهو في خيمة العزاء.
كل هذا لا يذكره أحد إلا متهم بالخيانة أو مطعون في الولاء للقومية العربية. ومشكلة الشخصيات أنها تتأرجح بين دنس وطاهر، فلا يمكن رؤية الناس بمنظار العدل والنقد مع أن «علم الحديث» هو علم الجرح والتعديل.

ولكن كل ذلك لا يعني أن الرجل كان شيطانا مريدا، بل هو نتاج ظروفه، ومن نشأ في ظروف العنف والإحباط لم يبق أمامه إلا أن يكون قاتلاً أو مقتولا. ومن أعجب ما روي عن حادثة سقوط طائرته في ليبيا، أن القوم ارتاعوا لمصير الحقيبة السوداء، التي تذكر بالمفاتيح النووية في يد يلتسين وبوتين، فقد كانت تحوي كل متعلقات الدولة الفلسطينية في حقيبة واحدة تخص رجل واحد. إذن فقد تم اختصار القضية الفلسطينية في رجل واحد.


kjalabi@hotmail.com