المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقال للكاتب العراقي داوود البصري لها اهمية



القلم
11-01-2004, 11:16 PM
لعل من أهم التحديات التي تنتصب أمام المشروع الحضاري للمجتمعات العربية وهي تواجه متطلبات العصر ورفع التخلف الحضاري الذي إستمر لقرون وقرون هو نمو الظاهرة الدينية الأصولية العدوانية المتوحشة ذات الأبعاد التكفيرية والتي لم تكن بعيدة عن سجلات الأمة التاريخية بقدر ماكانت ظاهرة مستمرة يعلو كعبها وتزداد هيمنتها في لحظات التراجع الحضاري والأزمات السياسية، ومنعطفات التحول التاريخية الكبرى، هذه الظاهرة قد أضحت اليوم وفي ظل التطورات والأحداث المتسارعة بمثابة خيار إنتحاري مرعب بعد إنحسار فورة الإعجاب المبالغ به بتلك الظاهرة والتي تم إستثمارها لأبعد مدى في العقود الأخيرة للحرب الباردة في أفغانستان خصوصا منذ أوائل الثمانينيات وحيث شهد الصعود التاريخي والإجتماعي للأصولية الفاشية الجديدة تناسقا تاريخيا مع أحداث الثورة الإيرانية الشعبية والتي شكل نجاحها المبهر ثم حسم إتجاهاتها وبلورة صيغتها السلطوية عبر هيمنة رجال الدين وسيطرة نظرية (الولي الفقيه) على الواقع السياسي الإيراني إنقلابا إستراتيجيا في أوضاع ومصائر شعوب المنطقة الشرق أوسطية والإقليم الخليجي خصوصا، وهو الإقليم الذي شهدت أوضاعه تطورات بنيوية ومجتمعية حادة أدت في المحصلة لنمو وتزايد المشاعر الدينية والطائفية وتراجع وتيرة الإهتمامات والقناعات القومية أمام حصيلة جديدة من الشعارات الوفيرة المشتقة من التراث الديني الحافل التي تلامس الجوانب الروحية بعد أن حاولت صياغة مشاريع وبدائل مستقبلية سطحية تمتد جذورها الفكرية لمرحلة الرومانسية التاريخية في فجر الإسلام والتي هي البضاعة الأساس التي يركز عليها أهل الإسلام السياسي دون أن يدققوا كثيرا وجديا في الكثير من الحقائق والأوهام والصراعات الحادة التي أعقبت تلك الفترة وأدت في حصيلتها لإنقسامات مجتمعية وفكرية وحزبية وطائفية مرعبة مازلنا نعيش تداعياتها حتى اليوم ولو بشكل كاريكاتيري ومأساؤي بآن!، ولن أتوغل بعيدا في غياهب التاريخ ومتاهاته الفكرية والسياسية بل أعود لصلب موضوعنا وهو رصد المتغيرات الدائمة والمستمرة في ساحة السياسة الكويتية والتي كانت دون جدال من أثرى الساحات العربية في مجالات الحركية السياسية وسرعة التطورات الإجتماعية والإقتصادية ومازالت حتى اليوم رغم كل الأحداث الجسام التي مرت بالمنطقة وشعوبها تمثل نقطة جذب إستراتيجية لأي متبنيات تغييرية وتحديثية في العالم العربي بشكل عام، لقد كانت إنطلاقة التجربة السياسية والإقتصادية والإعلامية الكويتية منذ أوائل ستينيات القرن الماضي بمثابة الإرهاصات الأولى لحالة التطور الخليجي الشامل، فالمشروع السياسي والحضاري الكويتي كان دون شك المؤسس الفاعل للبناء الخليجي الذي نما وتوسع وبوتائر قياسية عالميا خلال ربع القرن الأخير، فالكويت كانت الدولة الخليجية الثانية بعد الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية التي نالت إستقلالها وإستطاعت منذ بواكير النشأة الأولى أن تبرز مشروعها وشرعيتها الحضارية والدستورية عبر الإلتزام بين الحاكم والمحكوم بالعملية الديمقراطية وكانت نموذجا ثريا للتلاؤم الحضاري بين طبيعة الكيان التقليدي الملتزم بثوابت المجتمعات العربية والإسلامية وبين الإلتزام بمشروع الحداثة والعصرنة وسباق الزمن من أجل كنس كل مخلفات التخلف والجمود والإنغلاق التاريخية، كما كانت الكويت مشروعا ليبراليا راقيا في فترة كان يهيمن فيها على الشارع العربي أصوات الإنقلابيين وزعيق الضباط والعسكرتاريا العربية التي حملت مشروعها الإنهزامي الذي نخر في جسد الأمة وكسح مقدراتها وطاقاتها!، وليبرالية وعصرية التجربة السياسية الكويتية لم تتأت بشكل تقليدي لما يدور في العالم، بل هي مسألة ومبدأ إلتزم بها صانع القرار الكويتي منذ بواكير النشوء وإرهاصات الإستقلال وأعتقد أن التاريخ السياسي العربي قد تجاهل صفحة مهمة من صفحات تشكيله الحديث ممثلة في معركة ( الجهراء ) عام 1920 بين الشعب الكويتي من جهة وتيارات التخلف والإنغلاق والتعصب والسلفية المفرطة التي كان يمثلها جيش الإخوان النجدي المتعصب، وفي تقديري وقراءتي الخاصة للحدث فإن تلك المعركة كانت عنوانا على رغبة التحرر والإنطلاق الكويتية نحو البناء الحضاري المستقبلي، وكان الشعب الكويتي هو أهم الأسوار التي حمت ( الديرة ) وتحطمت أمامه كل محاولات الضم والإلحاق والإلغاء، وهو نفس الموقف التاريخي الثابت الذي وقفه الشعب الكويتي رغم كل الخلافات السياسية من العدوان والهمجية والغزوة البعثية في صيف الغدر القومي عام 1990 !، فالكويت رغم صغرها الجغرافي وإمكانياتها السكانية المحدودة لايمكن أي قوة فاشية أن تستوعبها أو تحتويها لأن إرادة الحياة والتطور والإنطلاق أكبر من كل قوى الغدر والظلم والعدوان. والكويت شأنها شأن أي مجتمع حداثي من العالم الثالث لم تسلم من أحوال عملية التراجع الديمقراطي أو الإنتكاسة في الحريات ولكنها بعد كل تجربة تعود أقوى وتكون أشد مراسا وشكيمة، وقد شكلت حقبة الثمانينيات الإنفجارية المرعبة تحديا حقيقيا للتوفيق بين معادلتي الأمن والحرية والديمقراطية وعانت من نتائج وويلات أشرس حرب إقليمية وهي الحرب العراقية / الإيرانية التي تركت بصماتها وتأثيراتها في كل بيت كويتي وكانت البروفة التمهيدية المرعبة لفترة الغزو والضم والإلحاق ومحاولة إنهاء الوجود الحضاري والسياسي والإجتماعي الكويتي وكانت فترة قلقة وفقا لكل المستويات ولعل خير من عبر عنها بوضوح وشفافية وقتها هو الشيخ صباح الأحمد دينامو السياسة الكويتية بوصفه الحالة الكويتية بكونها ( بيضة ) في صراع العمالقة الدائر حولها، ومنذ أن تحررت الكويت وعادت لألقها السياسي والحضاري فقد جرت مياه عديدة تحت كل الجسور ونمت تيارات وتراجعت أخرى إلا أن عنوانا واحدا ظل ثابتا في العقلية الكويتية وهو إرادة التطور والإرتقاء نحو الأفضل وإستثمار الموارد والزمن في تفعيل العملية الديمقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية ورد التيارات الظلامية ومنعها من الهيمنة على الشارع الكويتي وهي المهمة الأولى لأي متغير سياسي في الكويت فإرادة الحرية وتيار التقدم الذي يمثله ويعبر عنه الشيخ صباح الأحمد وإخوانه قد حسم خياراته التاريخية والفكرية الواضحة مشددا على إعطاء المرأة الكويتية لكافة حقوقها السياسية التي لاتتعارض مع الشريعة ولا المعلوم من ثوابت الدين، فتطوير العملية الديمقراطية لاتكتمل مرتكزاته إلا بإشراك المرأة الكويتية والتي أثبتت حضورا وتواجدا فاعلا في جميع ميادين الحياة، قد تتبدل مسؤوليات ذلك الشخص أوغيره، وقد ينزوي ذلك الشخص أو ذاك إلا أن ثابتا سيظل عنوانا للسياسة الكويتية وهو التقدم الدائم ومواكبة روح العصر وكبح جماح التخلف الفكري والتعصب الأصولي المريض، فالكويت أكبر من كل تيار يحاول الهيمنة وفرض الرأي و من أجل أن تبقى الكويت كما كانت جوهرة للخليج العربي.