المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «ملكة التفكير» هي أول ضحايا الحروب وليس «الحقيقة»



على
10-10-2004, 10:13 AM
الفيلسوف الفرنسي ريجيس دبريه يطالب في كتابه الجديد: بفك أسر «الأمم المتحدة» ونقلها إلى القدس


«الإرهاب» هي الكلمة الأكثر تداولا اليوم، والكلمات التي يكثر تداولها تزداد، فيما يبدو، غموضا والتباسا بدل ان يسلس معناها وقيادها، وربما لهذا السبب تأبى الولايات المتحدة وضع تعريف جامع مانع لهذه المفردة حتى تظل كالعجينة قابلة كل صورة. وريجيس دبريه المفكر الفرنسي المعروف يضع هذا التعبير مع جملة مفاهيم كخلفية لكتابه الجديد «حوليّات الحماقة الظافرة» الصادر عن دار «فايار»، وهو كتاب يظهر من عنوانه انه يتخذ موقفا واضحا من قضية ما ووسمها بالحمق.

وبالفعل فان الكتاب يتناول التحولات المأساوية التي طرأت على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستئثار الولايات المتحدة بقيادة العالم وفق «نظام عالمي جديد» غريب الأطوار، مسلّطا الضوء على النزاعات في الشرق الأوسط وكيف تتم معالجتها بطريقة لا تخلو من غباء أميركي. بما ان «ملكة التفكير» هي أول ضحايا الحروب كما يقول الكاتب وليس «الحقيقة» كما الشائع فانه يلتفت إلى إنعاش ملكة التفكير من خلال إعادة النظر في الأحداث، ورؤيتها من زاوية إنسانية غير متحيّزة ليمين أو يسار، إذ يرى انه لا بد من تسمية الأشياء بأسمائها، حتى لا ينجرف العالم إلى ويلات وحروب دينية لا احد يعرف كيف يوقفها خصوصا ان الحروب الدينية بخلاف الحروب الإيديولوجية تتسم بالعمر المديد.

وهذا ما يخشاه دبريه لان دمج الفكر الإرهابي بالفكر الإسلامي كفيل بفتح أبواب جهنم على الجميع. لذا كان له إطلالات على التراث الغربي الحافل بالفكر الإرهابي أيضا حتى لا يظنّ ظانّ أن الفكر الإسلامي هو الفكر الوحيد المنتج للإرهاب أو التطرف كما يحاول أن يروج لذلك بعض حملة الأقلام في الغرب.

إلا أن أكثر ما في الكتاب انتقاد للسياسة الاميركية الخارجية بشتى وجوهها غير ان انتقاده ليس كرها بالولايات المتحدة أو تعاطفا مع خصومها، فالمؤلف يريد ان يرى الأمور كما يجب ان تكون وهو يعرف ان الانتقاد لا يتعارض والاعتراف بدور الولايات المتحدة الايجابي في الحرب العالمية الثانية الذي كان له فضل إنقاذ فرنسا من الاحتلال النازيّ، الا انه يرى ان من الغباء عدم التمييز بين «الولاء» و«الوفاء».

فهو يرى ان أميركا لا تريد إقامة العدل او نشر الديمقراطية، فتاريخها الحديث على الصعيد الخارجي لا يمنحها هذه الفضيلة، وتكفي جردة سريعة بالدول الديكتاتورية التي ساندتها والدول الديمقراطية التي عملت على إزالتها أو زعزعتها لتبيان ما كانت تقوله «أليس» في بلاد العجائب عن الكلمات من إنها مجرد خدم لا تحمل من المعاني إلا ما نريد ان نحملها إياه. فأميركا تسعى لترسيخ مصالحها لا أكثر ولا اقلّ والا فما عليها إلا الالتفات إلى حل القضيّة الفلسطينيّة التي تسهم في تفريخ وتوليد الأزمات والحروب والحقد، الا ان البنتاغون لا يعي درس التاريخ جيّدا فباسم النظام العالمي الجديد نراه يزرع الفوضى هنا وهناك، وباسم محاربة الارهاب تحوّل العالم بأسره إلى منطقة حرّة للإرهاب يصول فيها ويجول من دون ان يقدر احد على القبض عليه لأنه ذو طبيعة شبحيّة تستعصي حتى على الأشعة ما تحت الحمراء كما يقول دبريه.

ويستشهد الكاتب بعبارة قالها شارل ديغول للاميركيين ابان الحرب الفيتنامية ان «طائرة «ب52» لا تقضي على الشعور الوطني، وتدمير الأرض لا يعني امتلاكهاَ». فالقوة الحولاء لا تجلب إلا البلاء. ومن ثم يحاول المؤلف تفكيك الذهنية الحاكمة في أميركا فيذهب إلى ان الخطورة في السياسة الاميركية تكمن في كونها ذات منطلقات لاهوتية (وهنا يشير الكاتب إلى التحولات في شخصية بوش الابن من مدمن كحول إلى مدمن رؤى) ويعتبر دبريه ان الولايات المتحدة رهينة إحساسها بأنها ذات رسالة لاهوتية تحمل الخير لتقارع به الشرّ، إلا ان شهوة إصلاح العالم لا تصلح العالم بل قد تسبب أحيانا في خرابه، وهذه سياسة ليس أمامها إلا الحائط المسدود وهو ما آلت إليه السياسات الاستعمارية الأوروبية.

وينصح دبريه الساسة الاميركيين ان يستفيدوا من تجربة الأوروبيين مع الاستعمار لا لتبنيها وإنما لمعرفة نهاياتها الخاسرة. فأوروبا بخلاف أميركا أسقطت من حسابها وتفكيرها مفهوم المطلق وأدرجت بدلا منه المفهوم النسبي، وكلمة بوش الابن الشهيرة «من ليس معنا فهو ضدنا» لا تنتمي حكما إلى المفهم النسبي، من هنا يعتبر دبريه ان بوش يمثل التناقض الصارخ لأميركا فهي من جهة شديدة الحداثة تقنياً الا أنها تنتمي بقيمها إلى ما قبل الحداثة. أي ان أميركا البروتستانتية متخلفة قرنين على الأقل عن «القارة العجوز» من ناحية القيم. وعليه فان القارة الأوروبية أكثر شبابا ونضارة من القارة الفتية من ناحية النضج السياسي بخلاف ما ذهب إليه رامسفيلد. والأمم المختارة، أو التي تعتبر نفسها مختارة من قبل قوة غيبية ليست بالضرورة هي خير الدول، من هنا يذهب دبريه إلى القول بان «الحرب اليوم ليست أكثر من صراع الماضي بأسلحة الحاضر».

ولا يخلو الكتاب في كثير من المقاطع من عقد مقارنات حصيفة بين السياسة الاميركية والأوروبية فهو يتناول نقطة شديدة الدلالة على الخلاف الجوهري بين السياستين، وهي ان أوروبا استطاعت ان تفصل الدين عن السياسة بخلاف ما هو عليه الأمر في اميركا، فالقسم الدستوري في أميركا لا يزال إلى اليوم على الكتاب المقدس. كما ان أوروبا أسقطت الوهم الحضاري الذي رافقها طوال فترة الاستعمار وهو وهم تحضير العالم وتطويره.

فأوروبا لم تعد تعتبر اليوم ان حضارتها هي الحضارة الأوحد لأنها تعرفت على الحضارات الأخرى وهذا ما ينقص أميركا فيما يبدو. ويقول ريجيس ان طفلا في السابعة من العمر يعرف ان السياسة الاميركية ذاهبة إلى أفق مسدود في العراق لأنها لا تملك أي تاريخ مشترك مع الشعب العراقي، فهي تجهل اللغة، والمطبخ، والدين، والبنية العائلية، والأعراف، إنها تجهل كل شيء عن الدولة العراقية. ويذهب دبريه إلى القول إن أي حضارة ـ مهما علا شأنها ـ ترى انه بامكانها تخطّي كل الحضارات، ولا تنظر إليها الا على أنها تهديد محتمل أو اعتداء، هي حضارة تسعى حكما إلى حتفها بظلفها، كما يقال.

ومن الأخطاء الفادحة التي تسقط فيها سياسة بوش الابن هو ظنه أن الديمقراطية يمكن أن تنزل بالمظلات، إلا ان الديمقراطية التي ظن بوش انه سيجلبها إلى العراق بمجرد الإطاحة بالدكتاتور أسفرت عن سذاجة طفولية، إذ من المعروف انه لا يمكن الوصول إلى النتيجة بإسقاط الدروب الموصلة إليها. هذا إذا كان كلام أميركا معبرا فعلا عن نوايا طيبة، أو قناعات فكرية. ثم يشير الكاتب إلى أن عملية زرع الديمقراطية تتطلب الكثير من الحنكة والفن أيضا حتى لا تفسر الديمقراطية على إنها استعباد بحلة جديدة. ومن هنا فان الإساءة للديمقراطية تكون فادحة.

ولا ينسى ان يلفت النظر إلى ان كلمة «الديمقراطية» أيضا هي من الكلمات الحقائب التي تستخدمها أميركا اليوم كمرادف لكلمة «حضارة» بالمعنى الذي حددته دول الاستعمار قديما، أي قناع بشري لوجه غير بشري.

وفي فصل من فصول الكتاب يتطرق المفكر الفرنسي الشهير إلى منظمة الأمم المتحدة، فيعتبرها اليوم رهينة القوة الأميركية ولا بدّ من تعديل قوانين المنظمة إذا أردنا للعالم أن يكون أكثر عدالة، «لأن الحق كطائر الفينيق يموت في المساء ليستعيد حياته في الصباح».

ومن مقترحات الكاتب إلغاء حق الفيتو، لان حق الفيتو هو حق ممارسة القوة لا حقّ ممارسة الحقّ، ويرى ضرورة عدم التجديد للامين العام مع تطويل مدة الولاية، وفي رأيه، لا مفرّ من هذا الاحتراز، حتى لا يذهب جزء من عهد الأمين العام في إرضاء فلان أو علان للتمديد، مما يحرره من هوس التمديد الذي يشلّ عمل المنظمة ويوقعها رهينة الناخب الأكبر. والكل يعرف كيف أن بطرس غالي لم تجدد له الأمانة العامة بناء لرغبة دولة واحدة هي الولايات المتحدة.

كما يرى دبريه ان من الضروري أن يصار إلى توسعة مجلس الأمن وضمّ أعضاء جدد لا سيما انه بشكله الحالي لا يعبر عن توازنات القرن الراهن، ثم يطرح نقطة قد يعتبرها البعض طوباوية أو ساذجة وهي تغيير مكان المنظمة ونقلها من نيويورك. فالأمم المتحدة باتت مستهدفة في العديد من بقاع العالم، بسبب وجودها في الولايات المتحدة الأميركية وتماهيها معها. انه التباس الخصم والحكم، وليس هناك من خسارة في فصل القوة عن الحقّ.

وبما أن دبريه يرى ان الأفكار الأكثر جنونا هي الأفكار الأكثر عقلانية في بعض الأحيان، فانه يقترح ان يكون مقرّ الأمم المتحدة هو القدس، نقطة تلاقي الأديان والشرق بالغرب، فالقدس مكان جامع بين التقليد والحداثة، وهكذا تقترن الذاكرة بالمستقبل كما أن وجودها في هذه المنطقة المشتعلة يكون بمثابة الاطفائي لان من صالح الدول الأعضاء استتباب الأمن والطمأنينة، خوفا على أرواحهم على الأقل. طبعا ما يقوله دبريه اقرب إلى كونه فصلا من فصول جمهورية أفلاطون، إلا انه يعرف أن المرتقى ليس سهلا، والا لما كان لسيزيف فضيلة رفع الصخرة.