المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غرف المحادثة ( البالتوك )



مجاهدون
07-19-2004, 06:50 AM
كتابات - رياض كاظم

تمتاز غرف المحادثة العراقية بالجدية وغلبة الطابع السياسي على أجوائها ، منها يستقي العراقيون مصادر أخبار بلدهم ، ومنها يدلون برأيهم ويناقشون كل شاردة وواردة في عالم السياسة ، وموضوعهم الرئيس هو العراق والقلق عليه ، اغلبهم من العراقيين القدماء كالشيوعيين والكلدان ، وجماعة رفحاء الذين خرجوا بعد الانتفاضة في العام 91 ومن تبعهم بعد ذلك في مسلسل التشريد ، وهم يلتقون غالباً في ( البرلمان العراقي ، الديوان العراقي ، الديوانية العراقية ، البيت العراقي ) وغيرها من الغرف الكثيرة ، التي تقدم لزائريها المتعة والفائدة والمنبر الذي يتمكن من صعوده كل من يريد ، ويقول ما يريد لا يحكمه سوى لسانه وقلبه .

بعضهم يجرب التعبير عن رأيه لأول مرة فتكاد تسمع وجيب قلبه المرتبك ، وبعضهم تمرس على الحديث فيجلس يخطب طيلة الليل والنهار ومنهم من يمتلك حنجرة قوية تمكنه من الجدل طيلة الليل ، أو يواظب على الحضور إلى الغرفة بشكل يومي ، ثم يتدرج ويصبح ( آدمن ) أو يفتح غرفة خاصة به مع أصدقائه الذين يتشابهون معه بالرأي ، كما يحدث عادة في عالم ألنت الغريب .

هناك لغة ( بالتوكية ) واشارات وحروف يفهمها الزوار ، فالرقم 8 هو حرف القاف وال7حرف الحاء وال 3 عين والحروف المستخدمة إنكليزية ، كأن يكتب أحدهم أسمه بهذه الطريقة ( choo88ee ) وتعني ( جوقي ) وهو اسم شائع يرغب به من يبحث عن المتاعب وافتعال المشاكل واصطياد البنات ، ، ولكل زائر اسم مستعار ك ( محراث ، تنور، أنسان ، قدو ، المدلل ، نخلة تمر ) ، أو أسماء تفصح عن مهنة أو شهادة ك ( دكتور وحداد ونجار وغيرها ) .

وهناك أخبار( بالتوكية ) وهي ما يتداوله رواد غرف المحادثة ، وتمتاز بعدم الدقة لغياب مصادرها ، كأن ينقل ( محاور ) غير مرئي وبإسم مستعار خبر لم يحدث ، أو ينقل واقعة لم يرها بل سمعها من البالتوك ، لكن ليس كل ما يأتي من خلالها لم يحدث أو غير حقيقي ، فهناك آلاف الرواد يتحدثون في كل شيء وعن أي شيء ، ففي غرفة ( السرداب ) مثلا هناك مجموعة من (المحاورين ) لا يهمهم من أمر هذا العالم شيء سوى الانتقاص من الشيعة وإعداد مثالبهم ، ويعيدون نفس الحديث كل يوم ، ويذكرون نفس المصادر .

هناك غرف يتثاءب بها ( الأدمن ) وهو يحاول إيقاظ زائريه ودفعهم للكلام لكنهم يتسربون واحدا اثر الآخر ، ومثل تلك الغرف لا تدوم طويلا ، شأنها شأن غرفة ( شكو ما كو ) التي اختفت منذ اشهر وما عاد احد يسمع ( محاوريها) يتحدثون عن الملك فيصل الأول وذكرياتهم مع جعفر أبو التمن وكيف كانوا يطربون على صوت فاطمة الهوزوز، واقرب ذكرى لهم عن العراق كانت قبل خمسين سنة .

كل الغرف العراقية وبدون استثناء تتحدث سياسة ، حتى تلك التي أنشأت لأغراض بعيدة عن السياسة كغرفة ( المعدان ) على سبيل المثال ،فروادها عادة ما يغنون ، كأن يدخل المحاور ويسلم على الحاضرين بأغنية أو بيت ابوذية ، ثم يدخل بالموضوع ، والموضوع غير مهم على الإطلاق فهو حتما سينتهي بأغنية أو أبو أذية ، لكنهم حينما يسكرون يبكون على العراق .

كل ما يتحدث به العراقيون سياسة وكل نقا شاتهم تنتهي سياسة ، يراقبها ( الأدمن ) وهو مسؤول الغرفة والمشرف على سلوك زوارها ، له السلطة بمعاقبة المخالفين بوضع نقطة حمراء على أسمائهم ، وهذا يمنعهم من الكلام لكنه لن يوقفهم من الكتابة على ( التكست ) فإذا خرجوا عن الطوق يطردون ولا يمكنهم بعد ذلك الدخول إليها ثانية ، و ( الأدمن ) شخصية مهمة فهو يمثل صوت الغرفة وهويتها وقوانينها ، فهو المحاور والمراقب ، ويتميز بسعة الصدر والإطلاع ، فالمتحاورين دكاترة ومهندسين ومثقفين وطلاب وكسبة وبعض المتطفلين الذين يخرجون بين لحظة وأخرى ويشتمون الجميع .

قبل أربعة أعوام كانت ظاهرة السباب والشتم عامة في ( البالتوك ) ، الكل يشتم الكل ، الأدمن يشتم زواره الذين شتموه ، فيتهمهم بأنهم طابور خامس جاء من غرفة ( عرب عرب ) لأفساد قعدته ، والزوار يرمون مضيفهم ب ( فلودن ) من التقسيم . أو يذهبون جميعاً إلى الغرفة المعادية ويمطرونهم بسيل من الشتائم وهي ما يسمى ب ( الفزعة ) .

لكن تلك الظاهرة اختفت تقريبا من الغرف العراقية وتهذبت لغة الحوار وبدأت تنتشر كلمة ( حبيبي ) بينهم ، وعادة ما يبدءون جملتهم .

- حبيبي ( ...... ) القضية مو هيج !

العراق حاضر وبقوة في كل الغرف ، وما يحدث في الداخل ينعكس بسرعة على سير النقاشات وحدتها ، فتتبارى الغرف باستضافة زوار مهمين كرجال حكم وسياسيين وأدباء ، وبجولة تطول أو تقصر على الغرف الأخرى ، يستطيع الزائر أن يخرج بصورة جيدة عما يهم العراقيين ويحرق أعصابهم في هذه الأيام العصيبة .


Riadkadum29@hotmail.com